حث الإسلام عليها، وأمر بها، ووجه العباد إلى التراحم فيما بينهم لكي يسود الحب والوئام والسلام بين جميع الناس، وذلك من دلائلِ كمال الإيمانِ، فالمسلم هو من يَلقى الناس جميعاً بقلب لينٍ رحيم، يتحمل منهم ويصبر عليهم، ويُخفف عنهم ويواسيهِم، ويحن على...
معاشر عمَّار بيت الله: كلما ضعفت القيم والأخلاق في حياة الناس إلا وازدادت الحياة تعاسة وشقاءً، وساءت الأحوال، وفسدت العلاقات، وظهر الظلم بجميع صوره ومظاهره، والبغي بجميع أشكاله وأنواعه.
ومن بين الأخلاق والقيم التي ضعفت أو كادت تختفي من قلوب الناس اليوم: خلق الرحمة والتراحم، وهذا من أهم أسباب تعاسة وشقاء كثير من الناس، حتى أصبحت القلوب قاسية لا تؤثر فيها موعظة أو حدث أو موقف في زمن عمت فيه مظاهر القسوة والغلظة.
وهذا هو موضوع خطبة اليوم -بإذن الله-: "الرحمة والتراحم".
فالرحمة -معاشر المؤمنين والمؤمنات- هي صفة كمال وجلال ربنا -جل وعلا-، فهو أرحم الراحمين وخير الراحمين، قال جل وعلا: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156]، وقال سبحانه: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) [الأنعام: 133]، وهو سبحانه يحب من اتصف بها حيث أثنى على عبادِه المُتواصِين بها، فقال سبحانه: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) [البلد: 17 - 18].
وكما أنها خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين، وسمة من سمات عباد الله الصالحين، لذا -معاشر الصالحين والصالحات- حض الإسلام، وحث عليها، وأمر بها، ووجه العباد إلى التراحم فيما بينهم لكي يسود الحب والوئام والسلام بين جميع الناس، وذلك من دلائلِ كمال الإيمانِ، فالمسلم هو من يَلقى الناس جميعاً بقلب لينٍ رحيم، يتحمل منهم ويصبر عليهم، ويُخفف عنهم ويواسيهِم ويحن على الضعيف فيهم، ويمد يده ويساعد المحتاج منهم؛ فعن أَبِي موسى الأَشعرِي -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَنْ تُؤْمِنُوا حتى تراحمُوا" قالوا: يا رسولَ اللهِ كلُّنا رَحِيمٌ؟ قال: "إنَّهُ ليس بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صاحبَهُ، ولَكِنَّها رَحْمَةُ العَامَّةِ".
فيا من يسمع هذا الحديث: تمعن وتأمل في معناه، الصحابة المشهود لهم بالفضل والاستقامة يقول لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ تُؤْمِنُوا حتى تراحمُوا" فما عساه أن يقول لنا نحن في زمن طغت فيه الماديات؟
فقالوا: يا رسولَ اللهِ كلُّنا رَحِيمٌ، فقال لهم الرحمة المهداة -صلى الله عليه وسلم- وهو يوجه ويصحح: "إنَّهُ ليس بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صاحبَهُ، ولَكِنَّها رَحْمَةُ العَامَّةِ" فكم من الناس تجده رحيما عطوفا بأهل بيته وأقربائه، وإذا خرج إلى الناس خرج بوجه عبوس يَنهر ويَسُب ويَشتِم ويلعن المارين؟ وكذلك العكس صحيح.
"ولكنها رحمة العامةِ" فليس المطلوب -أيها الإنسان- أن تقصُر الرحمة على من تعرف من قريب أو صديق، ولكنها رحمةٌ تسع العامة كلهم، فالذين يرحمون عباد الله يرحمهم الله –تعالى-، ومن رحم من في الأرضِ، رحمه من في السماء؛ لأن الجزاء من جنسِ العملِ.
فربنا -سبحانه- أرحم الراحمين قد أوصانا بهذه الرحمة وأخبرنا رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن أولى الناس برحمة الله هم أهل الرحمة في الأرض، وأن أبعد الناس عن الله وعن رحمته أهل القسوة والغِلظة، ففي الحديث الصحيح قال نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ، ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله"، ويقول: "لا تُنزَعُ الرحمةُ إلا من شقيّ".
فهذه الأحاديث تدل بمنطوقها وبمفهومها على أن من يرحم الناس يرحمه الله، وأن من لا يرحم الناس لا يرحمه الله.
فرحمة العبد لغيره من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين؛ لأن كل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم؛ من رحمة الله.
فمتى أراد العبد أن يستبقي هذه الرحمة ويستزيدَ منها، فليعمل جميع الأسباب التي تُنال بها رحمة الله، وهذه الأسباب جمعها الله في قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
ومن هم؟ هم المحسنون في عبادة الخالق، المحسنون في حقوق الخلق.
ما أحوج الناس! وما أشد افتقارهم إلى التخلق بالرحمة التي فُقدت من قلوب أكثرهم، فلا نسمع في هذا الزمان ولا نرى فيه إلا لغة القوة ومنطق القدرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأين الرحمة ممن يحمل في قلبه حقدا وحسدا وبُغضا لإخوانه؟ أين الرحمة ممن يؤذي الناس في بيعهم وشرائهم؟ أين الرحمة ممن يحقر الناس ويزدريهم ويسخر منهم؟ أين الرحمة ممن يؤذي المسلمين في أموالهم بالسلب والنهب والغش والخديعة؟ أين الرحمة ممن يؤذي المسلمين في دمائهم وأنفسهم بالاعتداء والقتل وسفك الدماء؟ أين الرحمة ممن يؤذي الناس في أعراضهم بانتهاكها والخوض فيها بالباطل؟ أين الرحمة بين العباد؟ فمن الناس من يشبع وجاره جائع، فأين هي الرحمة؟ ومنهم من يلبس أفخر الثياب وجاره لا يجد ما يستر عورته، فأين هي الرحمة؟ ومنهم من يمتلك البنايات الشاهقة، والناس ينامون على الأرصفة، فأين هي الرحمة؟ أين هي الرحمة التي أتى بها نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-؟ وأين هو منهج الإسلام في التراحم؟
يا مؤمنون، يا مؤمنات: أين قول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى"؟
اقرؤوا كتاب الله وقفوا عند آياته وتدبروها، فالله -عز وجل- لما مدح خير الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة الكرام، كان أخص صفة اتصفوا بها، وأعظم وسام شُرِّفوا به، وأوضح عنوان عُرفوا به، هو: التراحم بينهم، فقال عز من قائل: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الفتح: 29].
الله -سبحانه- قدم وصفهم بِالتَّراحُمِ عَلَى وصفهم بِالرُّكوعِ والسُّجودِ.
وتأملوا -يرحمكم الله- تدبروا كيف قدم سبحانه تراحمَهم على عبادتهم.
ولنا أن نتساءل -يا أُمة الإسلامِ والإيمانِ، يا أُمة الصلاة والقرآن-: لماذا قدم الله الرحمة على الركوع والسجود؟ أليست الصلاة أعظم فريضة عند الله وعليها يقوم الدين؟
حتى وإن كان كذلك فالله يريد أن يدلنا وليبين للأُمة أن لا خير في أُناسٍ يركعون ويسجدون ويطلبون الرحمة في صلواتهم، فإذا خرجوا مِن المساجد أو من الصلاة نُزعت الرحمة من قلوبهم، فيتظالَمون ويتنابزون ويتحاسدون ويتنازعون ويتخاصمون، نرى منهم من يظلم ويعتدي، نرى منهم من يأكل حق غيرِه ولا ينتهي، نرى من يشهد بِالزورِ ويرتشي، نرى القاطع لرحمه الهاجر لِقراباتِه، نرى العاق لوالديه المسيء إلى جيرانه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن من يفعل هذا فليس على طريقة محمد -صى الله عليه وسلم- وأصحابِه، إن من يتصف بهذا الفعل فليس على هديِ محمد ولا صحابته ولا على سبيلِهم، وهذا الأمر يؤكده الحبيب نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- ويصرح بِه حيث يقول: "لَيسَ مِنّا مَن لم يَرحَمْ صَغيرَنا، ويَعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا".
فأين الرحمة والتراحم الذي هو أثَرٌ مِن آثارِ الصلاةِ؟ أين أثر الركوعِ والسجود في الحياة؟!
معاشر أمة الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن من يحني ظهره لله راكِعا، ويعفر جبينه لمولاه ساجِدا، إن من يفعل ذلك وهو مخلص صادِق، فقد سلك سبيل النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واتصف بما وصفهم به الله، فقال سبحانه: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29] إن من يفعل ذلك وهو مخلص صادق يقينا سيظهر أثر ذلك في ملامحِ وجهِه وفي سلوكه وفي حركاته وعلى جوارحه وفي حياته كلها، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والاستِعلاء، ويحل محلها التواضع والشفقة، ومحبة الخلقِ والإحسان إليهِم والرحمة بهم.
وللحديث بقية -بإذن الله-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي