بالرحمة تجتمع القلوب، وتتآلف النفوس، ويشيع التراحم، والتعاطف والتعاون بين جميع أفراد المجتمع، حتى يكون مجتمعاً رحيماً متراحماً. وبما أن الرحمةَ هي أساس ومفتاح كل خير، فقد...
عن أَبِي موسى الأَشعرِي -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَنْ تُؤْمِنُوا حتى تراحمُوا قالوا: يا رسولَ اللهِ كلُّنا رَحِيمٌ، قال: "إنَّهُ ليس بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صاحبَهُ، ولَكِنَّها رَحْمَةُ العَامَّةِ".
"ولكنها رحمة العامةِ"، فمع تتمة موضوع: "الرحمة والتراحم" إذ ليس المطلوب -أيها الإنسان- أن تُقصِر الرحمة على خاصة من الناس، ولكنها رحمةٌ تسع عامة الناس.
فبالرحمة تجتمع القلوب، وتتآلف النفوس، ويشيع التراحم، والتعاطف والتعاون بين جميع أفراد المجتمع، حتى يكون مجتمعاً رحيماً متراحماً ينطبق عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وبما أن الرحمةَ هي أساس ومفتاح كل خير، فقد وضع لها النبي -صلى الله عليه وسلم- دستوراً واضحاً وقانوناً ثابتاً، فقال: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ".
ومن هنا يتضح أن مجال الرحمة في ديننا واسع لا حدود له، إذ لها مجالات وجوانب وصور شتى في حياة كل إنسان، فمنها: رحمة الإنسان بنفسه، فمن لا يستطيع أن يرحم نفسه لا يستطيع أن يرحم غيره، فأحوج شيء إلى رحمتك: نفسك التي بين جنبيك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لنفسك عليك حقاً" بأن ترحمها.
فالمسلم يرحم نفسه فيحميها مما يضرها ويؤذيها في الدنيا والآخرة، فيبتعد عن المعاصي ويتقرب إلى الله بالطاعات، وفي ذلك رحمةٌ بالنفس ووقايةٌ لها من عذاب الله وسخطه وعقابه، قال ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
ومن مجالات الرحمة: الرحمة بالوالدين: فهما أحق وأولى برحمتك وشفقتك وإحسانك وبرك، فارحمهما، وأحسن إليهما، وتواضع لهما، ولا تتكبر عليهما، وخاصة عند الكبر إذا وهن العظم منهما، فهما عند ذلك أحوج ما يكونان إلى عطفك ورحمتك، وتلك وصية الله، قال سبحانه: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء: 23 - 24].
كما أنهما يحتاجان إلى رحمتك وهما بين القبور، ما أحوجهما في ذلك اليوم إلى دعوة صالحة منك: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
ومن مجالاتها: الرحمة بين الأزواج: أن يرحم الزوج زوجته فيحسن إليها ويرفِق بها، فلا يظلمها ولا يؤذيها، وأن ترحم الزوجة زوجها فلا تؤذيه، ولا تحمّله ما لا يُطيق، بل تساعده وتقف إلى جانبه، قال ربنا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21]، فبالرحمة والمودة تستقيم الحياة الزوجية وتهنأ، وبدونها تضطرب الحياة وتشقى.
ومن أحوج الناس إلى رحمتك: أولادُك، يحتاجون إلى العطف والإحسان والحنان، يحتاجون منك إلى الرحمة فارحمهم برحمة الله، ارحمهم بالرفق بهم، والتودد إليهم، وأحسن في تربيتهم، وإدخال السرور عليهم، فقد صح أن نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- دخل عليه الأقرع بن حابس فوجده يُقبل الحسن والحسين، فقال: إن لي عشرةٌ من الولد ما قبلت منهم أحداً؟ فقال: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك".
وأحوج الناس إلى رحمتك إخوانك، أخواتك، أقرباؤك، تفقد حوائجهم، صل رحمهم، لا من باب القرابة ولكن من باب الطاعة والقربة والمحبة وابتغاء مرضاة الله -عز وجل- ورحمته، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال اللهُ: أنا اللهُ وأنا الرحمنُ، خلقْتُ الرحمَ وشَقَقْتُ لها مِنِ اسْمِي، فمَنْ وصَلَها وصَلْتُهُ، ومَنْ قَطَعَها بَتَتُّهُ".
فكل ما تُقدمه لقرابتك إنما يكون عن رحمة أسكنها الله في قلبك.
ومن مجالاتها: رحمتك بجارك: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير الجيران خيرهم لجاره"، وكان يُرغِّب ويقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره"، ويقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره"، وينهى: "من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يُؤذِ جارَه".
ومن مجالاتها: الرحمة بالعصاة والمذنبين: فإنهم يحتاجون إلى رحمة التوجيه والهداية لطاعة الله، فهناك أناس مذنبون عليك أن ترحمهم وأن تأخذ بمجامع قلوبهم فتدلهم على رحمة الله، وتحببهم في طاعة الله ومرضاته ورحمته، وهذا من أعظم مجالات الرحمة وأجلها: أن تحرص على هداية العصاة المذنبين وإصلاحهم، تفعل ذلك وأنت تتمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا رحمة مهداة".
ومن صور الرحمة ومجالاتها: الرحمة بالفقراء والمحتاجين والضعفاء والأرامل والأيتام: فلقد كانت رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الفئة رحمةً نافعة لا ميز فيها، رحمة جالبة لكل خير، تهدف إلى إسعادهم سعادة حقيقية لا زيف فيها ولا تزوير، حيث كان يأتي ضعفاءهم ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.
فإذا أردت أن يرق قلبُك وتُثَقلَ موازينك يوم القيامة، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم، وهي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل شكا إليه قسوة قلبه، فقال له: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم".
ومن مجالاتها: أنها تتعدى إلى الحيوان: فهو مخلوق ذو إحساس، لذلك جُعلت الجنةُ جزاء من الله عطاء حسابا لمن رحم الحيوان، والنارُ جزاء وِفاقا لمن قسى قلبُه عليه، وخير شاهد على ذلك أن الله غفر لبغي من بني إسرائيل بسبب سقيا كلب، فكان نصيبها الجنة، وعلى النقيض من ذلك تلك المرأة التي حبست هرة فكان نصيبها النار.
فما أحوجنا -معاشر أمة الحبيب النبي- وما أشد افتقارنا إلى التخلق بخلق الرحمة التي قام عليها الإسلام: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
ربما يسأل البعض: كيف نتخلق بخلق الرحمة؟ وكيف تُستجلب رحمة الله؟
فمن أراد أن يتخلق بخلق الرحمة فليقرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليتدبر في معالمها، وليقتد بصاحبها، فهو صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة والرحمة المهداة.
وكذلك مجالسة الرحماء ومخالطتُهم، والابتعادُ عن ذوي الغِلظة والفضاضة، فالمرء يكتسب من جُلسائه طِباعهم وأخلاقهم.
كما أن رحمة الله تُستجلب بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال ربنا: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132].
كما تُستجلب بتقوى الله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد: 28].
ومن أعظم ما تُستجلب به رحمة الله: الرحمة بخلقه؛ ففي الحديث الصحيح: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وختاما -معاشر العباد- لنحرص على تربية أولادنا على هذا الخلق العظيم، لنغرس في قلوبهم الرحمة والتراحم، فإنه متى نشؤوا على الرحمة ثبتت في قلوبهم، وأصبحت سجية لهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي