المشاعرُ التي يختلجُها القلب وتُعبّر عنها حركات الجسم طبيعةٌ بشريّةٌ ينبغي التعامل معها جيداً بإظهارِها من محبّةٍ ورحمة والتعبير عنها برقّة فلذلك فوائدُ جمّة وسببٌ لنشرِ ثقافة التراحم والمحبّةِ مما يُؤدّي لنجاحِ المجتمعات وتآلفها وإعطائها حصانةً تحميها من شرور الخلاف وآفة العداوة! أما غياب مشاعر المحبّة والرحمة وإخفائها فسببٌ لقسوةِ المجتمع وعلامةٌ على غلظته حتى ولو ادّعى من يُخفيها بشتى المبرّرات فهو مُخطئٌ ولا شك..
الحمد لله جعلنا إخوة متحابين، وعلى الخير متعاونين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله قدوة للأنام أجمعين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً..
أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله..
إن المتأمِّلَ لما يجري في العالم كلِّه من قسوةٍ وعنفٍ، وقمع وقهر، ثم يقارنه بما في تعاليم الإسلام من رحمةٍ ومحبةٍ وسلامٍ فسيدركُ ماذا يخسر العالم اليوم بضعفِ المسلمين.. فالقسوةُ في القرآن مثلاً وردت سبع مرات، كلُّها في معرض الذم (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم) [البقرة: 74] (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الزمر: 22]، وغيرها من آيات.
بينما معاني الرحمة استُهلمت أولاً من اسم الله الرحمن الرحيم ومعاني الدين العظيم واليومَ إخوتي أصبحت القسوة والعنف واقعاً تراه ضِدَّ المرأةِ والطفلِ، والضعيفِ والقريب.. قد لا تستغربه من قومٍ كفروا بربهم فقست قلوبُهم وتجبروا.. لكن المؤسف أيضاً عنفٌ قائمٌ لدى المسلمين، ممن يُفترض أن تكون بيوتهم جنة حتى لو كانت ضيقة، وأن تكون حياتهم رحمةً ولو كانت خشنة!!
عباد الله.. إذا وُجد العنفُ والقسوةُ فلا دينَ يَعظُ ولا علمَ ينفع ولا خلق يحسن!! فقد تجدُ عنيفاً يُسمِّي نفسه مُثقفاً!! أو مسؤولاً عن الناس لكنهُ قاسٍ، ويشقُّ عليهم!! أو يقعُ ممن يوجّه العباد، ويتظاهر بالتواضع، فإذا نالَه أحدٌ بكلمة بطش وانتفش خِلافاً لِخُلقِ الإسلام وتعامل نبيِّ السلام الذي يقول عنه جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-: "ما حَجَبني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- منذُ أسملتُ، ولا رآني إلا تبسّم بوجهي" (متفق عليه).
بعضُ الناس اليوم همُّه الانتصارُ لرأيه والفوزُ بالنقاشِ وتسفّيهِ رأيِّ غيره لينال منه ويُصَغّره لقسوةٍ في طبعه.. حتى أصبح العنف في المشاعر صفةً ملازمةً للبعضِ في قوله وفعله وخلقه يظنُّها قُوةً وهي تُضعفه!!
أمّا الشرع الحنيف فهو بالتلطّفِ وحسنِ المعاملةِ ومراعاةِ مشاعرِ الغير وخواطرهم لأنه أمرٌ يجمعُ القلوبَ وخلاف ذلك يؤذيها.. يُوصي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث" (متفق عليه) كي لا يُجرح شعوره ويقول أيضاً.. "لا يُقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسهِ ليَقْعُدَ فيه" (متفق عليه).
وتوجيهاتٌ كثيرةٌ غيرها كلُّها تتعلقُ بمراعاةِ مشاعرِ الغير..
أيها الأحبة.. الإنسانُ بين مشاعرِ حُبٍّ ورحمة وبغضٍ وقسوةٍ وخوفٍ وكراهيةٍ.. والنَّاس في ذلك مختلفونَ ومتباينونَ بين من يكتُمُهَا أو يُظهرُها وبعضهم لا يعرف متى يُراعي مشاعرَ الناس كي لا يؤذيها! هذه المشاعر للإنسان طبيعةٌ بشريّة حتى الأنبياء على كمالهم وقدوتهم عرض الله لنا مشاعرهم؛ فنوحٌ نادى ابنه عن الغرق فقيل: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 46].
وإبراهيم سأل ربّه كيف يُحيي الموتى ليطمئنّ قلبهُ! ويعقوبُ قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84].
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- عاتبه ربّه أنه عبس وتولّى أن جاءه الأعمى!! وبكى على وفاةِ ابنه إبراهيم وفاضت عيناه!!
وأوثقُ عُرى الإيمان مشاعر!! "الحب في الله والبغض في الله"، إذا فالمشاعرُ التي يختلجُها القلب وتُعبّر عنها حركات الجسم طبيعةٌ بشريّةٌ ينبغي التعامل معها جيداً بإظهارِها من محبّةٍ ورحمة والتعبير عنها برقّة فلذلك فوائدُ جمّة وسببٌ لنشرِ ثقافة التراحم والمحبّةِ مما يُؤدّي لنجاحِ المجتمعات وتآلفها وإعطائها حصانةً تحميها من شرور الخلاف وآفة العداوة!
أما غياب مشاعر المحبّة والرحمة وإخفائها فسببٌ لقسوةِ المجتمع وعلامةٌ على غلظته حتى ولو ادّعى من يُخفيها بشتى المبرّرات فهو مُخطئٌ ولا شك!! فالإسلامُ حثَّ على إظهارِ المشاعرِ الحسنة من محبةٍ ورحمةٍ واعتذارٍ ومودة ونهى الله عن إظهارِ مشاعرَ كالغيظ مثلاً (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحبُّ المحسنين) [آل عمران: 134]، وبالحديث أن القويَّ ليس المصارع، وإنما من يملك نفسه عند الغضب!
إننا نشكو في مجتمعنا من خلافاتٍ سببُها الغضبُ والغلظةُ وقلةُ التسامح وإخفاءُ المحبَّة نشكو من أبٍ لا يُبدي مشاعره ومحبته لأولاده، بل يستعيبُ ذلك حتى قال بعضُ ولده لا نذكر يوماً ضمّنا فيه أبونا لصدره أو قبَّلنا! وتجدُ ذلك أيضاً من أخٍ مع إخوته وأخواته وقريبٍ مع أقربائه..
وقسوةُ جارٍ مع جيرانه وبين زملاء العمل وسُكّان الوطن!! كلّهم يتفاخرون بإخفاء مشاعرهم فيما بينهم خطأً!! أما مشاعرُ العداوةِ والبغضاء والعنف والتجاهل فتراها مع الأسف تُظهرُ بدافع الجهلِ والتعصّبِ والقسوة أو بدافع التفاخرِ وإظهار القوة!! فتحدث الفُرقة والتنازع بين أسرٍ ومجتمعاتٍ وأوطان!!
البعض يخفون مشاعرهم عن أقرب الناس لهم يظنونها ضعفاً! وغيرهم يُخفي مشاعره عن أحبائه يرى إظهارَها نفاقاً في خطأٍ ذميم وفهمٍ سقيم!! حتى أصبح بعضهم بلا مشاعرَ تظهرُ له بالحياة.. ثم تأتي بعد فوات الأوان إما بمصيبةٍ أو فقدٍ ووفاة !! تتساءل ما الذي يضيرُهم لو أظهروها وما أخفوها واستمتعوا بها في الحياة فيما بينهم!! فتجدُ من دعائِنا المتوارث لأحبائنا "الله لا يظهر المكنون"!! يقصدون في المصيبة!! وما الذي جعله مكنوناً ولماذا لا يُظهر قبلها؟! وإذا قدّر الله المصيبة فلتظهر المشاعر!!
رسولنا -صلى الله عليه وسلم- نبيُّ المحبةِ والسلامِ وهو بشرعه وخلقه قدوةٌ للأنام.. رأيناه يُبدي محبّته لزوجته خديجة ويحنّ إليها كما تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما غرتُ من نساء النبي إلا خديجة، وإني لم أدركها، وكان رسول الله إذا ذبح الشاة يقول أرسلوا بها لأصدقاء خديجة قالت فأغضبته يوماً فقلت خديجة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني قد رُزقت حبها".
كما يُعبّرُ -عليه الصلاة والسلام- عن محبّةِ عائشةَ حتى عُرف عنه وأبيها الصديق وكذلك عمر وعثمان وعلي، ورأينا محبته وحنانه لبناته خاصة فاطمةَ الزهراء ودفاعَهُ لها أمام علي -رضي الله عنهم أجمعين-، وكذلك محبّته العظيمة لصحابته والأعظم منها لأمته يقول: "يا معاذ! والله إني لأحبُّك..".
ووصفه الله أنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، وأن مشاعره هذه لو فُقدت لما أسلموا (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]!! فصلوات ربي وسلامه على الحبيب محمد سيّدُ البشر الرحمة المُهداة..
يخطبُ يومَ الجمعة فيرى الحسن بن علي -رضي الله عنه- يتعثّرُ في مشيه من ثوبه فينزلُ من المنبر ويحملُه ثم يضمّه ويقول صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، ويضمّ الحسن ويقبّله ثم يقول: "اللهم إني أحبَّه فأحبّه" (رواه البخاري).
يُصلّي وهو يحملُ حفيدتَه أُمامة بنت أبي العاص، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها!! والصلاة عبادةٌ شرعيّة، ومع ذلك يراعي -صلى الله عليه وسلم- مشاعر الطفل وأُمِهِ فيقول: "إني لأقومُ في الصلاة أريدُ أن أطوِّل فيها، فأسمعُ بكاءَ الصَّبيِّ فأتجوَّزُ في صلاتي، كراهية أن أشقَّ على أُمِّه" (رواه البخاري).
يحضر عنده -صلى الله عليه وسلم- الأقرع بن حابس التميمي فيراه يُقبِّل الحسن والحسين فيتساءل متعجباً بفظاظته وغلظته أتقبّلون الصبيان؟! فيجيبه عليه الصلاة والسلام بكل بساطة نعم!! فيقول الأقرع.. "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً"!! يظن ذلك رجولة وقوةً!! فنظر إليه -صلى الله عليه وسلم- وقال: "وما أفعل إن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يرحم لا يُرحم".
يأتيه أحد الصحابة يخبره بمحبته فيبشره بالجنة وأنه سيُحشر مع من أحبَّه ويطلب كذلك من المُحبِّ أن يُخبَر من يحبّه بحبّه.. البسمةُ في وجه أخيك جعلها الدين صدقة لما لها من أثرٍ في نشر المشاعر الطيّبة بين الناس !!
نصوص شرعيّةٌ عظيمةٌ -عباد الله- كلها وغيرها تبين وجوب إظهار المشاعر الحسنة وأنْ لا غضاضة من إظهارِ محبتنا ورحمتنا لمن نحبّهم!! فما لنا إذاً - َعباد الله- نتبارى في إخفائها ونعتقد ذلك قوّة ورجولة!! أظهروا مشاعركم أحبتي ولا تكبتوها! أظهروها بالمحبة والرحمة لأولادكم وزوجاتكم ووالديكم وأقربائكم ومجتمعكم كلّه أظهروها بلا قسوةٍ تُدمر ولا تعصّب يُفرّق ولا دلالَ يُفسد!! فإظهارها ليس ضعفاً بل من الْكِبْر إخفاؤها خاصةً وقت الحاجة إليها!! وتشويه العواطف اليوم بما يعرض من تمثيل ومسلسلات توهم بها وتدمّرها!! أو بعادات متوارثة ليست منها.. فالتسامح ليس ضعفاً والطيبة ليست غباءً.. والاعتذار ليس عيباً.. وبذل المحبّة للناس حكمةً وليس جهلاً
إذا كنت في كل الأمور معاتبــاً *** صَديقَكَ لَمْ تَلْقَ الذي لاَ تُعَاتبُهْ
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه *** مقارف ذَنْبٍ مَرَّة ً وَمُجَانِبُهْ
إِذَا أنْتَ لَمْ تشْربْ مِراراً علَى الْقذى *** ظمئت وأيُّ الناس تصفو مشاربه
أظهروا مشاعركم إخوتي وعبّروا عنها بينكم فماذا تنتظرون؟! هل تنتظرون فقد أحبتكم ومصابهم لُتظهروها بعد فوات الأوان!! بعض الآباء وقليل من الأمهات يأنف من ضمّ أولاده وتقبيلهم وبعضهم يستعيبه جهلاً وغلظة!! وكذلك الإخوة والأخوات بينهم وغيرهم ممن لا يُدرك أثرَ إظهار المحبّة بتقوية علاقاتهم وتحصينها ضد الخلافات!! فالبعد والقسوة شرّ والهجران والقطيعة نُهينا عنها في الإسلام!!
حتى متى عباد الله.. نتغنّى بالدين، ونحن بعيدون عن منهجه؟ وعن نبينا الكريم، وصحبه العظام؟ متى نربِّي أطفالنا لينفِّسوا عن مشاعرهم فإن كانت إيجابيّةً شجعناها وإن كانت سلبيَّة عالجناها؟! نربيهم على احترام الآخرين، ورعاية حقوقهم، وحفظ المصالح العامة والتزام الذوق السليم، واختيار الأحسن من القول، حتى عند الاختلاف والمجادلة بالتي هي أحسن!!
أيها الأحبة: إن نظرة عميقة لأسبابِ العنفِ عندنا تجده تبدأ من أسرة جافية، قاسية فقيرة بالعواطف فيما بينهم وإنما مجرد مظاهر ومادّيات وتمثيل وتقليد حتى بالعواطف التي جلبوا لها أعياداً ومناسبات من غيرنا فعيد للأم وعيدٌ للحب وغيرها من مناسبات اختصرت العواطف ولم تُنميها!! لأنها لم تنطلق من عقيدة وإيمان كما هو الإسلام!! فلعنتز بديننا أحبتي ولننشر ثقافة الحب بيننا ولنعبّر عن مشاعرنا..
نسأل الله أن يديم الألفة والمحبة والمودة والرحمة ويجعلنا إخوة متحابين وعلى الخير متعاونين إنه سميع مجيب .. أقول ما تسمعون .. .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
عباد الله.. إننا نحتاج لبث عواطف المحبة والرحمة داخل بيوتنا ونشر ثقافتها فالأب الهادئ الحليم الرقيق يشيع في الأسرة كلِّها الرحمة والرقة والحلم والتسامح، والأب العنيف الذي يعلو صوته ويستهزئ بزوجته وولده ويضرب مبرّحاً لغلطات تافهة وينشر ثقافة الثأر والانتقام فهذا يُشيع في أسرته العنف والقسوة وارتفاع الصوت مما يُسبِّب أمراضاً نفسية، واكتئاباً، وتوتراً يُسببُ العنفَ بالمجتمع كلّه فتجعله القسوة مرشحاً للانهيار والخلاف.
لماذا جفت عواطفنا؟ لماذا تسللت القسوة إلى معاملاتنا؟ قسوة ورثناها من عادات وتقاليد لا علاقة لها بالدين إطلاقاً.. فأحيوا المحبة بينكم وأظهروها بأخلاقكم ومشاعركم فيمن حولكم..
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي