في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل إلى البقيع، فسلم على الأموات، واستغفر لهم، كالمودع للأموات، ثم رجع إلى بيته، فبدأ به مرض موته عليه الصلاة والسلام بصداع في رأسه، فلما اشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له، وكان إذا...
بعد ما أدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودلهم على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم من شر ما يعلمه لهم، وجاهد في الله حق جهاده، صابرا محتسبا، رحيما رفيقا، بعد هذه الحياة الطيبة الممتلئة علما وإيمانا: اختاره الله فقبضه إليه، راضيا مرضيا؛ ونقله من الحياة الفانية إلى الدرجة العالية من الجنة، والنعيم المقيم كما وعده سبحانه في قوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 4 - 5].
أيها المؤمنون: لقد خاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم- معلما إياه بموته كما يموت غيره؛ لأن البقاء لله وحده لا شريك، فقال سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: 30].
وقال: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 34 - 35].
وحين اقترب أجله عليه الصلاة والسلام استشعر ذلك بمدارسة جبريل له القرآن مرتين، وكان يدارسه في كل عام مرة واحدة في رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة -رضي الله عنها-: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي".
وفي عرفة نزل عليه وهو واقف بها قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3]، فبكى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".
وكأنه استشعر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك فيما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف عند جمرة العقبة، وقال لنا: "خذوا عني مناسككم، لَعَلِّى لاَ أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِى هَذَا".
وفي أوسط أيام التشريق نزلت عليه سورة النصر: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1- 3] قال ابن عباس -رضي الله عنهما- عن هذه السورة: "هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعي إليه"، فقال عمر -رضي الله عنه- تصديقا له: "لا أعلم منها إلا ما تعلم".
وفي أواخر صفر من السنة الحادية عشرة، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل إلى البقيع، فسلم على الأموات، واستغفر لهم، كالمودع للأموات، ثم رجع إلى بيته، فبدأ به مرض موته عليه الصلاة والسلام بصداع في رأسه، فلما اشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له، وكان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت عائشة تنفث عليه بالمعوذات، وتمسح بيده صلى الله عليه وسلم عنه.
وسأل صلى الله عليه وسلم: "أصلى الناس؟" قالوا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: "صبوا علي ماءً"، فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق، قال: "أصلى الناس؟" قالوا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: "ضعوا لي ماءً في المخضب"، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟" قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: "ضعوا لي ماءً في المخضب"، ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟"، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، فصلى بهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد خفة، فخرج يهادى بين رجلين: العباس وعلي، لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فاومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فاجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائما ورسول الله -صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا، وقبل قبضه بخمس ليال، قال: "هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس"، فخرج عليه الصلاة والسلام عاصبا رأسه بخرقة، فصعد المنبر في يوم الخميس، فخطب خطبة عظيمة، وكان مما قال فيها: "إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله"، قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: فبكى أبو بكر، فتعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، وقال: "إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربي اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قوما ممن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
وفي يوم الاثنين والناس صفوف في صلاة الصبح إذا كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة فنظر إليهم وهو قائم وتبسم يضحك مشرقا وجهه، كالمودع لهم، فكادوا أن يفتنوا من الفرح برؤيته، ونكص أبو بكر على عقبيه يظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفي من يومه صلوات ربي الله وسلامه عليه.
ثم نزل به الموت عليه الصلاة والسلام فدخل عليه ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا؟ قال: "أجل إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم" قلت: إن لك أجرين، قال: نعم والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها. وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا أكره شدة الموت على أحد بعده، وكان إلى جانبه قدح فيه ماء، فيدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعني على سكرات الموت".
وطفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا، ويقول مرددا: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" حتى جعل يغرغر بها، وما يفصح بها لسانه.
وأسندته عائشة إلى صدرها، وأخبرت أن جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، قالت: فذهبت أعوذه، فرفع بصره إلى السماء، وقال: "في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى" بعد أن غشي عليه ساعة ثم أفاق، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده جريدة رطبة، فنظر إليها فظننت أن له بها حاجة، قالت: فأخذتها فنفضتها فدفعتها إليه، فاستن بها، أحسن ما كانت مستنا، ثم ذهب يناولنيها، فسقطت من يده، قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، وقالت: فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها. ودخل صاحبه أبو بكر الصديق عليه وهو مسجى ببرد حبرة، فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله لا يجمع عليك موتتين أبدا، الموتة الأولى كتبت عليك فقدمتها.
وعندئذ أظلمت المدينة على أهلها، وكادت الأحلام تطيش بأهلها، حتى قال المسدد الملهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من قال إن محمدا مات ضربته بسيفي"، ويقول: "إنه لا يموت حتى يفني الله المنافقين"، فتكلم أبو بكر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله يقول: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: 30].
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] ثم قال: "فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات"، فقال عمر: "أو إنها في كتاب الله، ما شعرت أنها في كتاب الله".
في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- آيات وحكم وعظات، لا يحصيها ديوان، ويكفي في ذلك أن وفاته عليه الصلاة والسلام آية على توحيد الله؛ إذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- جرى عليه ما جرى من المرض والموت؛ فدل ذلك على أنه عبد لا يعبد، ولكنه رسول يطاع ويصدق، فمن دعاه من دون الله أو استغاث به، أو اعتقد أنه يعلم الغيب وما في اللوح المحفوظ فقد افترى على الله، وكذب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الذي أمره الله أن يقول: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188].
وأمره أن يقول: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل: 65].
وإذا كان هذا في حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أزكى الناس سيرة وسريرة، فمن دونه من الأولياء والصالحين أحرى.
كما أن هذه المصيبة العظيمة على الأمة بوفاة حبيبها ونبيها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تهون كل مصيبة يصاب بها المسلم في ماله أو نفسه أو أهله؛ ولهذا نقل عن بعض السلف: "أن من أصابته مصيبة، فليتذكر مصيبته بمحمد -صلى الله عليه وسلم-".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي