تلقي الأقدار

صالح بن عبدالله بن حمد العصيمي
عناصر الخطبة
  1. حكمة الله في تقدير الأقدار .
  2. الإيمان بالقضاء والقدر من أصول الإيمان .
  3. أنواع الأقدار النازلة بالإنسان .
  4. مراتب التعامل مع الأقدار المؤلمة وحكم كل مرتبة .
  5. الفرق بين المراتب الثلاث في التعامل مع الأقدار المؤلمة .

اقتباس

إذا وقعت للعبد مصيبة فأعلى ما ينبغي أن ينزل فيه قلبه هو أن يتلقاها بشكر الله -سبحانه وتعالى- عليه، فكم من منحة في كنف محنة! فإن لم يقدر على شكر الله فليتلقاها بالرضا، فإن لم يمكنه ذلك فعليه بالصبر. والفرق بين هذه...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم اعلموا -أيها المؤمنون- أنه الله -سبحانه وتعالى- لما خلقنا قدر الأقدار ودبرها بحكمة واقتدار، قال سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]، وقال: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2].

ومن أصول الإيمان: الإيمان بقدر الله وقضائه، فبه تطمئن النفوس، وترتاح، فهو جنة الدنيا، ومستراح العابدين.

والأقدار التي تحيط بأحدنا نوعان لا ثالث لهما:

أحدهما: الأقدار الملائمة، وهي التي تجري وفق محبوباتنا ومرضاتنا.

والآخر: الأقدار المؤلمة، وهي التي تجري على خلاف محبوباتنا وإرادتانا، ولا يلقى العبد عنته بالجريان مع القدر الذي يلائم حاله في صحته وقوته، أو أهله وذريته، أو ماله وقوته، ولكنه يكابد مشقة عظيمة، وعنة شديدة، مع الأقدار المؤلمة التي تجري على اختلاف مراده وهواه، وما يريده ويتمناه.

والمخرج منها: امتثال المأمور به شرعا، فإن المأمور به شرعا عند ورود الأقدار المؤلمة بنقص حال أو تغير صحة أو موت حبيب، أو فوت مراد، أن يفزع العبد إلى إحدى هذه المراتب الثلاث:

فالمرتبة الأولى: مرتبة الصبر، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ) [آل عمران: 200]، وقال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 - 157]، وقال النبي -صلى الله عليه سلم-: "ما أُعْطِي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".

وثانيها: مرتبة الرضا، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحـج: 34]، قال سفيان الثوري: "هم المستسلمون لقضاء الله المنقادون له".

وقال تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال علقمة صاحب ابن مسعود -رَضي الله عنها-: "هو الرجل يصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".

وقال نبيكم -صلى الله عليه وسلمَ-: "إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".

والمرتبة الثالثة: مرتبة الشكر، قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، وقال تعالى: (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، وقال نبيكم -صلى الله عليه وسلمَ-: "أفضل الشكر الحمد لله".

فالأقدار المؤلمة تتلقى بإحدى هذه المراتب الثلاث، فالموفق من باشرها أولا بالصبر، فإن قدر على الرضا فتلك مرتبة أعلى، وإن وفقه الله إلى شكره على المصيبة بما يحيط بها من الآلاء الجليلة، فإن الله لا يقدر على عبده المؤمن قدرا مؤلما إلا كان خيرا له، فلا يصيبه غما ولا هما ولا نصبا حتى الشوكة يشاكها إلا كفُر بها عنه".

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله جابر قلوب الصابرين، المقابل بالرضا رضا الراضين، والمفيض بنعمائه وآلائه على عباده الشاكرين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المؤمنون: إن الأقدار المؤلمة تتلقى بصبر، ورضا، أو شكر، وكل هذه المراتب الثلاث مأمور بها شرعا، فالصبر واجب، وأما الرضا والشكر فهما مرتبتان مستحبتان، فيمن وفق إلى صعود رتبتهما، والشكر أفضل من الرضا.

فإذا وقعت للعبد مصيبة فأعلى ما ينبغي أن ينزل فيه قلبه هو أن يتلقاها بشكر الله -سبحانه وتعالى- عليه، فكم من منحة في كنف محنة، فإن لم يقدر على شكر الله فليتلقاها بالرضا، فإن لم يمكنه ذلك فعليه بالصبر.

والفرق بين هذه المراتب الثلاث: أن الصبر تكون معه حبس للنفس مع بقاء مرارة المصيبة فيها، فإن العبد لا يتسخط، ولا يجزع عند نزول تلك المصيبة، لكنه يجد ألمها ويؤنس حرها.

وأما الرضا فإنه يضمحل في النفس ذلك الألم، ويكون فيها التسليم لله -سبحانه وتعالى- دون منازعة تجري في قلب العبد.

وأما الشكر، فينقلب فيه الرضا فرحا بالمصيبة التي أنزلها الله -سبحانه وتعالى- بعبده، لما يرى العبد فيها من نعماء كثيرة، ينعم الله -سبحانه وتعالى- بها عليه.

فاطلبوا -عباد الله- قلوبكم عند هذه المواقف الثلاث إذا وردت عليكم المصائب، فكونوا شاكرين لله، فإن لم يمكنكم فكونوا راضين بقدره، فإن لم يمكنكم فكونوا صابرين على ما أصابكم، وليس وراء الصبر ولا دونه شيء مما أمركم الله -سبحانه وتعالى- به.

اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين إذا مسهم الضر...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي