إنّما كان طول الأمل من أسباب الانحراف والزّيغ عن سبيل الحقّ؛ لأنّه يجرّ إلى التّسويف، وتعطيل الصّالحات، وتأخير التّوبة عند عمل السّيّئات، والتّماطل في ردّ الحقوق، وغير ذلك، ولقد...
بعد الخطبة والثّناء.
أمّا بعد:
فإنّ من أسباب الانحراف عن الصّراط المستقيم، والميل عن الطّريق القويم هو: طول الأمل. ومعنى: "طول الأمل" أن تحدّث نفسك بطول الحياة، وأنّ بينك وبين الموت مفاوز ومسافات.
وما من إنسان على ظهر الأرض إلاّ وترى أملَه يفوق أجلَه، فربّما كان أجل أحدنا عشرين سنة، فترى أمله يصل إلى ستّين أو سبعين سنة، لذلك روى البخاري عن عبد الله بن مسعودٍ -رَضي الله عنه- قال: "خَطَّ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- خَطًّا مُرَبَّعاً وَخَطَّ خَطاًّ فِي الوَسَطِ خَارِجاً مِنْهُ، وَخَطَّ خِطَطاً صِغَاراً إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: "هَذَا الِإنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أو قد أحاط به- وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخِطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا".
واعلم أنّ طول الأمل نوعان: طول أمل جائز مشروع، وطول أمل مذموم ممنوع.
1- أمّا طول الأمل المشروع؛ فهو ما كان يحملك على العمل لنفسك ولمن بعدك، دون أن تغفل عن الموت، فهذا أمر مشروع معقول، مشروع شرعه الله ورسوله، ومعقول يدلّ على كمال عقل صاحبه وأنّه ينظر إلى أبعد من أرنبة أنفه، فالله أمرنا بعمارة الأرض وزرعها، وأمرنا بالنّكاح وإنجاب الذرّية وإعداد المدارس، وكان النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يخطّط لأعمال سنة بكاملها بل لعشرات السّنين.
2- وأمّا طول الأمل المذموم الممنوع؛ فهو الغفلة عن الموت، ونسيان لقاء الله -تعالى-.
وهذا داء عُضال ومرض قتّال، يفسِد القلب ويتلف الوقت، ويعرج بالمرء إلى عالم الخيال والأوهام.
وأعجب ما فيه أنّه ينمو ويكبر مع الأيّام؛ روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الْأَمَلِ" هذا قلب الشّيخ الكبير تراه شابّا يرجو الحياة ويكره الموت، فكيف بالشّباب؟!
إنّ الشّاب يظنّ أنّ الموت سوقٌ لا يلجه إلاّ الكبار! والحقيقة أنّ أكبر نسبة للوفيات إنّما هي في الشّباب، وقد تفطّن أحدهم لذلك قديما فقال: أكثر من يموت الشّباب، وآية ذلك قلّة الشّيوخ.
وإنّما كان طول الأمل من أسباب الانحراف والزّيغ عن سبيل الحقّ؛ لأنّه يجرّ إلى التّسويف، وتعطيل الصّالحات، وتأخير التّوبة عند عمل السّيّئات، والتّماطل في ردّ الحقوق، وغير ذلك، ولقد قال كثير من السّلف: "إيّاك وسوف، فإنّها من جند إبليس!".
وليس لعلاج هذا الدّاء الخطير، ولا للنّجاة من هذا الشرّ المستطير، إلاّ دواء واحد: هو تذكّر الموت.
هـو المـوت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمـل آمـالا ونـرجو نتـاجها *** ولعل المـوت مـما نرجِّي أقرب
ونبني القصور المشمخِرّات في الهواء *** وفـي علمنا أنا نموت وهي تخرب
والنّفس فيك وديعـة أودعتـها *** ولا بدّ من أن تردّ الودائع وتسلب
والمسلم مطالب بأن يَخرج من الدّنيا قبل أن يُخرجَ منها.
والنّصوص الّتي تذمّ طول الأمل، وتأمر بتذكّر الموت كثيرة؛ فمنها: ما يجعل الموت ونهاية العالم أقرب شيء إليك؛ فإنّ الله -عزّ وجلّ- الّذي ندبنا ورغّبنا في العمل في هذه الحياة الدّنيا، نراه في الوقت نفسه يحضّنا على تذكّر الموت في كلّ لحظة من لحظاتنا، وفي كلّ خطرة من خطراتنا، فيقول الله -عزّ وجلّ- في محكم تنزيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، قال قتادة -رحمه الله-: "ما زال ربّكم يقرّب السّاعة حتّى سمّاها: غدا.
إنّ ذكر الموت يدفع للعمل، ويقطع الأمل؛ روى التّرمذي والنّسائيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" يَعْنِي الْمَوْتَ. زاد غيرهما: "فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ، وَلاَ ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ".
ذكر الموت من أكبر الأدلّة على عقل المرء وفطنته؛ روى ابن ماجة عن ابن عمرَ -رَضي الله عنه- أنّه قال: "كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ".
وذكر الموت من أعظم مظاهر الحياء من المولى -تبارك وتعالى-؛ روى التّرمذي وأحمد عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي َالله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ" قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْتَحْيِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ".
وأنّ نسيان الموت من أسباب الهلاك؛ فقد روى الطّبرانيّ وابن أبي الدّنيا بسند حسن عن عبد الله بن عمر -رَضي الله عنه- عَنِ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِاليَقِينِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالبُخْلِ وَالأَمَلِ".
وقد أخبر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه أنّ هذه الأمّة سوف تُصاب بشلل في معظم أجزائها، حتّى يحلّ العدوّ بفنائها، ولا تستطيع أن تحرّك ساكنا، ولا أن تردّ طاعنا، روى الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان مولى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا" فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ" فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"، وصدق صلّى الله عليه وسلّم فما من بليّة ولا رزيّة إلاّ وسببها حبّ الدّنيا اللّعينة، والاغترار بما تبديه لنا من زينة، فاستوينا مع بني إسرائيل في كلّ قديم وجديد، فحقّ علينا كلّ عقاب ووعيد، لأنّ من أبرز صفات اليهود والنّصارى البغاة: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) [البقرة: 96]، هذا حال الأمّة بأجمعها، فكيف بالقلب الّذي تداعى عليه الأعداء حتّى وصلوا إلى سويدائه، فاحتُلَّت معظم أجزائه؟
وإنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ما كان يجد شيئا أنفع لأصحابه من أن يوصيهم بذكر الموت، وهم من هم؟ الّذين بلغوا القمّة في العبادة، وكانوا في الزّهد سادة وقادة، ومع ذلك يُوصِيهم بالإكثار من ذكر الموت، روى التّرمذي وأصله في البخاري عن عبد الله بن عمر -رَضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بمنكبي، فقال: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَصْحَابِ القُبُورِ. إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ غَداً؟"، وروى الطّبراني عن معاذ -رَضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! أوصني؟! قال: "اُعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي المَوْتَى، وَاذْكُرِ اللهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَعِنْدَ كُلِّ شَجَرٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بِجَنْبِهَا حَسَنَةً"، وروى الطّبراني أيضا عن رجل من بني النّخع قال: سمعت أبا الدّرداء -رضي َالله عنه- حين حضرته الوفاة قال: أحدّثكم حديثا سمعته من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، سمعته يقول: "اُعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي المَوْتَى، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا تُسْتَجَابُ".
وكان صلّى الله عليه وسلّم يُصوّر الموت على أنّه يسابق أحدنا، فعلينا أن نسبقه بالإكثار من العمل الصّالح، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوْ الدُّخَانَ، أَوْ الدَّجَّالَ، أَوْ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ" لذلك كثرت في القرآن الكريم تلك النّصوص الّتي يأمرنا الله فيها بالمسارعة في الخيرات والمنافسة في الصّالحات، لأنّه لا أحد يعلم متى يأتيه الموت، قال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21]، وقال تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 148]، وقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [المائدة: 48]، وقال مثنيا على طائفة من أهل الكتاب الّذين عرفوا الحقّ وثبتوا عليه: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 114]، وقال مثنيا على أنبيائه وأصفيائه -عليهم السّلام-: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بزيارة القبور، فالموتى خير جليس يعظك بالخير، ففي صحيح مسلم عن بُرَيْدَةَ -رَضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا"، زاد غيره: "وَلْتَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْراً"، "فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً"، وفي سنن ابن ماجة عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ".
الخطبة الثّانية:
الحمد لله، الحمد على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة حقّ تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلِّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله.
أمّا بعد:
فقد تبيّن -معاشر المؤمنين-: أنّ طول الأمل، والغفلة عن الموت من أعظم أسباب انحراف الخلق عن منهج الحقّ، قال العلاّمة ابن رجب -رحمه الله- وهو يشرح حديث: "كُنْ فِي الدُّنيَا كأَنَّكَ غَرِيبٌ": "وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر، يُهَيِّئُ جهازَه للرّحيل"، وبهذا فسّر غيرُ واحدٍ مِنَ العُلماء الزُّهدَ في الدنيا، قال المرّوذي: قلتُ لأبي عبد الله –يعني الإمام أحمد-: أيُّ شيءٍ الزُّهد في الدّنيا؟ قال: قِصَرُ الأمل"، وكان النَّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "مَالِي وَلِلدُّنيَا؟ إنَّمَا مَثَلِي ومَثَلُ الدُّنيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"، وذكر البيهقيّ في شعب الإيمان: أنّ رجلا دخل على أبي ذرٍّ -رَضي الله عنه-، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرٍّ، أين متاعُكم؟ قالَ: إنَّ لنا بيتاً نوجّه إليه، قالَ: إنَّه لا بدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا، قالَ: إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه"، وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلَّها أنْ تكون منيّتي الّتي لا أقوم منها، فكان هذا دأبه إذا أراد النّوم، قال الرّبيع بن خثيم: "لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد".
وما أحسن قول ماجدة القرشيّة عن أصحاب الهمم الدّنيئة: "بسطُوا آمالهم، فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال، وطووا الآمال، لخفّت عليهم الأعمال"، وعن محمّد بن أبي توبة قال: "أقام معروف الكرخي الصّلاة، وقال لي: تقدّم! فقلت: إن صلّيت بكم هذه الصّلاة لم أصلّ بكم غيرها، فقال معروف: أو تحدّث نفسك أن تُصلِّي غيرها؟ نعوذ بالله من طول الأمل!".
فما عليك -أيّها الأخ الكريم- إلاّ أن تسارع بالتزّود قبل ساعة الصّفر: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب) [البقرة: 197].
تزوّد من التّقوى فإنّـك لا تـدري *** إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفـجـر
فكم من فتًى أمسى وأصبح ضاحكا *** وقد نُسِجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من عروس زيّنوها لزوجـهـا *** وقد قبضت أرواحهما ليـلة القـدر
وكم من صغار يُرتجى طول عمرهم *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكم من صحيح مات من غير علّـة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدّهر
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي