سنن لا تتبدل ولا تتغير

خالد القرعاوي
عناصر الخطبة
  1. سنن الله في الخلق .
  2. خصائص السنن الربانية .
  3. ذكر بعض سنن الله في الكون والخلق .
  4. حاجة المسلمين لفقه سنن الله تعالى. .

اقتباس

المُسلِمُ الوَاعِي مَنْ يَفْقَهُ السُّنَنِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ فَلا يُصادِمُهَا، يَنْظُرُ بِعَينٍ مُبْصِرَةٍ وَقَلْبٍ حَيِّ، فَيَعْظُمُ إيمَانُهُ بِربِّه؛ وَيُوقِنُ أنَّ الأُمورَ كُلَّهَا بِأسبِابِها وَمُسَبَّبَاتِها وَنَتَائِجِها بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ المُعِزُّ المُذِلُّ، الرَّافِعُ الخَافِضُ، البَاسِطُ القَابِضُ، المُعطِي المَانِعُ، مُقدِّرُ الأَقْدَارِ، وَمُصرِّفُ الأَكْوَانِ. المُسلِمُ الوَاعِي يَعْلَمُ مِنْ خِلالِ السُّنَنِ الرَّبَّانيَّةِ أنَّ الحَيَاةَ لَيستْ عبَثًا وَلا هَمَلًا، فَمَنْ يَعمَلْ خَيرًا يُجزَ بِهِ، وَمَنْ يَعمَلْ سُوءًا يُجزَ به، وَاللهُ لا يُضيعُ أَجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلا!

الخطبة الأولى:

الحَمدُ للهِ صَنَعَ الكَونَ فَأَتْقَنَهُ، وَأَنْشَأَهُ عَلَى سُنَنٍ فَأَبْدَعَهُ، نَحمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنُثْنِي عَليهِ وَلا نَكفُرُهُ، وَنَشهدُ ألَّا إِلهَ إلَّا اللهُ وَحْدهُ لا شَريكَ لَهُ مَا فَرَّطَ فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ, وَمَا كَانَ رَبُّنا نَسِيًّا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

وَنَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ أَتْقَى النَّاسِ للهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ, وَأَسْرَعَهُم رُجُوعَاً إليهِ, اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ على النَّبِيِّ المُخْتَارِ وعلى آلهِ وَأَصحَابِهِ الأَبرَارِ, وَمَنْ تبعَهُم بِإحسَانٍ وَإيمَانٍ إلى يَومِ القَرارِ. وَعَنَّا مَعَهُمْ يا عَزِيزُ يا غَفَّارُ.

 أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ وَرَاقِبوه، وَاعلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.

أَيُّها المُسلِمونَ: هَذا الكَونُ وَمَا حَوَاهُ مِن عَظِيمِ صُنعِ اللهِ، وَبَديعِ آيَاتِهِ، وَحَكِيمِ أَفْعَالِهِ يَسيرُ وِفْقَ سُنَنٍ رَبَّانيَّةٍ وَقَوَاعِدَ ثَابِتَةٍ, سُنَنٌ إلهِيَّةٌ فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ وَالمُجْتَمَعَاتِ والدُّوَلِ, سُنَنٌ كَونِيَّةٌ طَبِيعيَّةٌ، وَسُنَنٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، وَسُنَنٌ حَضَارِيَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ، وَسُنَنٌ تَارِيخِيَّةٌ، وَسُنَنُ اسْتِخْلافٍ وَتَمْكِينٍ, فَتَأمَّلُوا قَولَ اللهِ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].

وَأعْظَمُ مَيْزَاتِ السُّنَنِ الإلهِيَّةِ أنَّهَا لا تُحَابِي أَحَدًا، ولا تُجامِلُ أَيَّ أمَّةٍ ولا دَوْلَةٍ! فَكُلُّ مَنْ حَقَّت عَلَيهِ سُنَّةُ اللهِ جَاءَها الجَزَاءُ إنْ خَيْرَاً فَخَيرٌ وَإنْ شَرَّاً فَشَرٌّ! (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال 51].

انْتَصَرَ المُسْلِمُونَ في بَدْرٍ مَعَ أنَّهْم قِلَّةٌ وَأَذِلَّةٌ لكِنَّهُم اتَّقُو رَبَّهُمْ وَصَبَرُوا! وَعَصَى الرُّماةُ أَمرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَهُزِمُوا فِي أُحُدٍ، مَعَ أَنَّهُم كَانُوا عَلَى الحَقِّ! إلَّا أَنَّ سُنَنَ اللهِ تَعالى لا تُحَابِي أَحَدًا!

أيُّها المُؤمِنُونَ: الغَافِلُون عَن السُّنَنِ الإلهِيَّةِ، المُعَانِدُونَ لَهَا سَوفَ تَفْجَؤُهُم الأَحْدَاثُ، وتحِقُّ عليهم الْمَثُلاتُ, وَسَيعُضُّونَ أَصَابِعَ النَّدَمِ، قَالَ تَعَالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غافر: 85].

أُمَّةَ الإسْلامِ: لَقَد بيَّنَ اللهُ لَنا السُّنَنُ وَأَمَرَنا سُبْحَانَهُ أَنْ نتَفَكَّرَ فِي الآيَاتِ وَالنُّذُرِ، لِكَي نَصْحُوَ مِنْ الغَفْلَةِ, ولِتَقُومَ عُقُولٌ نَاضِجَةٌ مُدْرِكةٌ لِقِيَادَةِ المُجْتَمَعِ الإسلامِيِّ تُدْرِكُ مَآلاتِ الأُمُورِ, وَتُبْعِدُ الأُمَّةَ عَنْ مَوَاطِنِ السُّقُوطِ والخَنَا والفُجُورِ! فَاللهُ قَدْ أمَرَنَا وَحَذَّرَنا فَقَالَ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران : 137]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء: 26].

عِبَادَ اللهِ: مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالى قَولَهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء: 16].

عُقُوبَاتٌ مُرَوِّعَةٌ لِمَعاصٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ! تَدْعُو كُلَّ مُؤمِنٍ لِوَقْفَةِ مُحَاسَبَةٍ! (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99]. كَمْ أَرْضَاً كَانَتْ تَنعَمُ بِأَمْنٍ وَرَغَدِ عَيشٍ، يَأَتِيها رِزقُهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ؟ فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إلاَّ أنَّهُمْ اجَتَرَؤوا عَلى مَحَارِم اللهِ فَانْتَهَكُوها وَأعْلَنُوهَا, فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.

ألا تَعْلَمُونَ عِبَادَ اللهِ أنَّ رَغَد العَيشِ، وَسَعَةَ الرِّزقِ، قَدْ يَتَحَوَّلُ بِأَمْرِ اللهِ فِي طَرفَةِ عَينٍ؟! اسْألوا الآبَاءَ والأجْدَادَ عَنْ حالِ أهْلِنا في نَجْدٍ هُنا قَبْلَ مِئَةِ سَنَةٍ, لَقَدْ نَفَاهُمُ الجُوعُ إلى الهِنْدِ والعِرَاقِ لِيَعْمَلُوا هُناكَ! فَكيفَ أصْبَحَتْ تِلْكَ البِلادُ وَكَيفَ أَصْبَحْنَا الآنَ؟ ولا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ تَعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).

إنَّها سُنَّةُ اللهِ تَعَالى في كُلِّ مَنْ عَصَاهُ وَعَطَّلَ شَرِيعَتَهُ وَحَرَّفَهَا! قَالَ تَعَالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].

إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا عَبْرَ قَنَواتٍ هَابِطَةٍ, وَالتَّطَاوُلُ على دِينِ اللهِ، وَإلحَادٌ يُجَاهَرُ بِهِ دُونِ حَسِيبٍ ولا رَقِيبٍ, اِنْتِشَارُ الظُّلمِ فِي المُجْتَمَعَاتِ، مِنْ أسْبِابِ العُقُوباتِ والهَلاكَاتِ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ".

فُشُوُّ الرِّبَا وانتِشَارُهِ بِحِيَلِهِ وَطَرَائِقِهِ سَبَبُ عُقُوبَةٍ لِلمُجْتَمَعَاتِ والدُّولِ، نَعَمْ لَقدْ أعْلَنُوا حَرْبَاً عَلى اللهِ، فَلَهُمُ اللعْنَةُ والعَذَابُ الأليمُ. أَلَيس تَرْكُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهيِ عَن المُنْكَرِ وَإِضْعَافُهُ سَبَبٌ لِلعُقُوبَاتِ وَتَطَاوُلِ أَهْلِ الرَّذِيلَةِ وَالفَسَادِ؟ صَدَقْتَ يَا رَسُولَنا حِينَ قُلْتَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".

 إنَّها دَعْوَةٌ لِلعُقَلاءِ والحُكَماءِ حُكَّامَاً وَمَحْكُومِينَ، لِلرُّجُوعِ للكِتَابِ المُبِينِ, والتَّمَسُّكِ بِهَدْيِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ, وَلْنَتَدَيَّرْ قَولَ اللهِ تَعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. فَيَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ وَيَعْقِلُونَ وَيَتَدَبَّرُونَ وَيَتُوبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ!

فَالَّلهم لا تُؤاخِذْنَا بِذُنُوبِنَا وَلا بِمَا فَعَلَهُ السُّفَهَاءُ مِنَّا، ولا تُسلِّطْ عَلَينَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يَخَافُكَ وَلا يَرْحَمُنا, عُمَّنَا بِالخَيرِ وَالأَمْنِ والأمَانِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ. واكْفِنَا شَرَّ الفِتَنِ وَأسبَابَ العُقُوبَاتِ, وأستَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُم وِللمسلِمينَ مِن كُلِّ ذَنْبٍّ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوا نِعَمَهُ ولا تَعْصُوهُ، لَا تَنْقَطِعُوا عَنْ شُكْرُ الْمُنْعِمِ أَبَدًا , فَهُوَ القَائِلُ: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النَّمْلِ: 40].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: جَمِيعُ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ مَانِحُهَا وَمَانِعُهَا، وَالنِّعَمُ وَالنِّقَمُ مِنْ أَمْرِهِ النَّافِذِ، فَوَجَبَ أَنْ تُطْلَبَ النِّعَمُ مِنْهُ ابْتِدَاءً وَاسْتِدَامَةً وَزِيَادَةً, وَأَنْ تُدْفَعَ النِّقَمُ وَتُرْفَعَ بِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ أَنْ بَيَّنَ لَنا سُنَّتَهُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، أوضَحَهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إِبْرَاهِيمَ: 7].

هَذِهِ سُّنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ عَظِيمَةٌ فَاسْتِدَامَةُ النِّعَمِ وَزِيَادَتُهَا مُرْتَهَنَةٌ بِشُكْرِهَا؛ كَمَا أَنَّ كُفْرَهَا يُؤَدِّي إِلَى زَوَالِ النِّعْمَةِ، وَنُزُولِ النِّقْمَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ شَكَرْتُمْ أُجِرْتُمْ لَا مَحَالَةَ، وَزَادَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى نِعْمَةً، وَإِنْ كَفَرْتُمْ مُنِعْتُمْ وَعُوقِبْتُمْ، وَعِقَابُ اللَّهِ شَدِيدٌ. وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ تَجْرِي فِي النِّعَمِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ: فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى طَاعَةٍ، وَفَتَحَ لَهُ بَابًا مِنَ الْخَيْرِ، فَلَزِمَهُ وَلَمْ يُفَارِقْهُ، وَأَخْلَصَ فِيهِ لِرَبِّهِ, وَلَهَجَ بِحَمْدِهِ أَدَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَزَادَهُ مِنْهُ فَوَجَدَ فِيهِ لَذَّتَهُ وَاُنْسَهُ!

ومَنْ فَتَحَ اللهُ بَابَ الذِّكْرِ فَلْيُدَاوِمْ عَليهِ, مَنَ فَتَحَ عليهِ بالصَّدَقَةِ فَلْيُكْثِرْ مِنْهَا, فإنَّ للجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أبْوَابٍ فَلْتَدْخُلْ مِنْ أيِّ بَابٍ شِئْتَ مِنْهَا!

عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكُ التَّثَبُّتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شَكَرَ نِعْمَتِكَ».

عِبَادَ اللهِ: وَمَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ، عُوقِبَ عَلَى كُفْرِهِ, بِضِيقِ صَدْرِهِ، وَقَسْوَةِ قَلْبِهِ، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). فَمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْأَمْنِ والاسْتِقْرَارِ وَالْعَافِيَةِ، فَشَكَرَ اللَّهَ عليها وَلَمْ يَكْفُرْهَا، أَدَامَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ وَثَبَّتَهَا، وَزَادَهُ مِنْهَا وَبَارَكَهَا!

وَأَمَّا مَنْ بَطِرَها وَاسْتَعْلَى بِهَا فَسُنَّةُ اللَّهِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، بِسْلَبِ نِعْمَتِهِ، وَرفْعِ عَافِيَتِهِ، وَإحْلال نِقْمَتِهِ! (نَعُوذُ باللهِ مِنْ الحَوْرِ بَعْدَ الكَورِ). وهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ تَجْرِي عَلَى الْأَفْرَادِ والْأُمَمِ والدُّولِ؛ فَالْأُمَّةُ الشَّاكِرَةُ تَزْدَادُ نِعَمُهَا، وَيُبَارَكُ فِيهَا، وَالْأُمَّةُ الَّتِي تُقَابِلُ نِعَمَ اللَّهِ بِالمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ أُمَّةٌ حَرِيَّةٌ بِسَلْبِ النِّعَمِ، وَحُلُولِ النِّقَمِ، وَاشْتِعَالِ الْفِتَنِ، وَتَوَالِي الْمِحَنِ؛ (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الْكَهْفِ: 59].

أيُّها المُؤمِنُونَ: المُسلِمُ الوَاعِي مَنْ يَفْقَهُ السُّنَنِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ فَلا يُصادِمُهَا، يَنْظُرُ بِعَينٍ مُبْصِرَةٍ وَقَلْبٍ حَيِّ، فَيَعْظُمُ إيمَانُهُ بِربِّه؛ وَيُوقِنُ أنَّ الأُمورَ كُلَّهَا بِأسبِابِها وَمُسَبَّبَاتِها وَنَتَائِجِها بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ المُعِزُّ المُذِلُّ، الرَّافِعُ الخَافِضُ، البَاسِطُ القَابِضُ، المُعطِي المَانِعُ، مُقدِّرُ الأَقْدَارِ، وَمُصرِّفُ الأَكْوَانِ.

المُسلِمُ الوَاعِي يَعْلَمُ مِنْ خِلالِ السُّنَنِ الرَّبَّانيَّةِ أنَّ الحَيَاةَ لَيستْ عبَثًا وَلا هَمَلًا، فَمَنْ يَعمَلْ خَيرًا يُجزَ بِهِ، وَمَنْ يَعمَلْ سُوءًا يُجزَ به، وَاللهُ لا يُضيعُ أَجْرَ مَنْ أحْسَنَ عَمَلا!

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّموا على سَيِّدِ البَشَرِيَّةِ وَهَادِيهَا, نَبيِّنَا وَحَبِيبِنَا مُحمَّدٍ، فَإنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا, فَاللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِك عَلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى آلَهِ وَأَزْواجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَصَحَابَتِهِ أجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإحسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين, اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك الصالِحين, اللهم انصُر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين، وفي الشام، والعراق، وفي اليَمَن، وفي كل مكانٍ يا ربَّ العالمين.

اللهم وفِّقْ وُلاةَ أُمُورِ المُسلِمينَ عامَّةً, وَوَلِيَّ أَمْرِنَا خَاصَّةً لِمَا تُحبُّه وَتَرْضَاهُ، وفِّقهم لِمَا فِيهِ صَلاحُ البِلادِ وَالعِبَادِ، وَاجْعَلْهُم مِفْاتِيحاً للخيرِ مَغَالِيقَاً لِلشَّرِّ, اللهم انصُر إخوانَنَا المُجَاهِدِينَ وَالمُرَابِطِينَ عَلى الحُدودِ كُن لهم عَونًا ونصيرًا, ومُؤيِّدًا وظَهيرًا بقوَّتك يا قويُّ يا عزيزُ.

اللهم إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ اهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ، واَكْبِتْ أَعْدَاءَ الدِّينِ وَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ, ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي