جذور الصراع الإسلامي اليهودي (2)

صالح بن عبد الله الهذلول
عناصر الخطبة
  1. أسباب تكبّر اليهود وحقدهم على العرب والمسلمين .
  2. ملامحُ لتسارعِ النصارى في تبني قضايا اليهود .
  3. أسباب ذلك التسارع .
  4. حل القضية الفلسطينية لن يتم إلا بالجهاد .
  5. جهود العلمانيين في إبعاد الإسلام من الصراع .
  6. تهاوي راياتهم بشارة للدعاة الصابرين والمجاهدين المخلصين .

اقتباس

إنما أطلت عليكم في هذه المسألة لتعلموا أن مواقف الغرب النصراني، وخاصة أمريكا، موقفهم من إسرائيل ليس مادياً، ولا سياسياً، وإنما دينيٌّ، صادر عن عقيدة، لذا؛ فلا تنتظروا الحل من أمريكا، ولا أوربا، ولا ترتجوا خيراً من مواقف فرنسا وروسيا والصين المتظاهرة بدعمها للحق العربي. إن حل القضية يكمن في إحياء الجهاد، وتصعيده، وتوسيع دائرته، ودعمه، (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60]...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل الإسلام ملجأ الخليقة في دينها ودنياها، وأرشد فيه النفوس إلى هداها، وحذرها من رداها، وأشهد أن الرب العظيم الذي لم يزل رباً وإلهاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأعظم الخلق عند الله فضلاً وقدراً وجاهاً، اللهم صل وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً وبركةً لا تنقضي ولا تتناهى.

أما بعد: أيها المسلمون، فقد كانت الخطبة الماضية -في مجملها- عرضا سريعا لتاريخ اليهود، وبيان أن إسرائيل الوارد في القرآن الكريم كثيراً، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومنه جاء بنو إسرائيل، ومن مشاهير أنبيائهم: موسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام.

ومن أجل هذا التراث الضخم من الأنبياء، فإن اليهود يرون في أنفسهم القداسة والأفضلية المطلقة على من سواهم من البشر، كما أنهم -في الوقت نفسه- ينظرون إلى المسلمين عامة، والعرب منهم خاصة، نظرة حقد وكره؛ لأن عقد النبوة انفرط من كونه منظوماً من بني إسرائيل ليختم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو من العرب، من ذرية إسماعيل.

وتناسى اليهود مواقفهم من أنبيائهم، تلك المواقف التي عُبِّر عنها في القرآن العزيز بقول الحق -تبارك وتعالى-: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة:87].

ولم يكن حظ النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- منهم إلا مثل من سبقوه من إخوانه الأنبياء، مع يقين اليهود بأنه نبي، وعلمهم المسبق بأنه سيبعث نبي في أرض الحجاز؛ ولذا تجمعوا في خيبر والمدينة انتظاراً له، لكنهم ظنوا أنه من بني إسرائيل، (فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89].

وقد بينت -فيما مضى- طرفاً مهما من أسباب التعاون والتنسيق والتناصر الذي تم -ولا زال قائماً- بين اليهود والنصارى، ولا يزال الحديث متصلاً في هذه المسألة، حتى يعلم أن مواقف أولئك الأقوام، سواء في استيطان اليهود فلسطين، أو دعم النصارى لهم، وخاصة أمريكا، ليس ناتجاً عن عواطف، ولم تفرضه المصالح المادية، ولا الإستراتيجية أو العسكرية، ولا المنافع الاقتصادية؛ لأن مصالح الغرب الاقتصادية في المنطقة لا توجد في فلسطين، وإنما توجد في غيرها -كما يعلم الجميع- حيث النفط والتجمع البشري، بل إن موقف النصارى تجاه اليهود لم تمله مواقف سياسية، إنما هي عقيدة راسخة، لا يملك النصارى التفلت منها وتجاهلها أو التهاون بها، عمل من أجلها اليهود قروناً عدة حتى سخروا النصارى لخدمتهم، والدفاع عن قضاياهم طوعاً وتديناً.

معاشر المسلمين: أول من دعا إلى البعث اليهودي في فلسطين وأثار هذه المسألة، هو رجل نصراني لاهوتي قبل أربعمائة سنة، وتبعه نصراني آخر تلميذٌ له؛ كتب أن اليهود سوف يعودون إلى بلادهم -يعني فلسطين- ويعيشون بسلام هناك إلى الأبد. وعلل ذلك قائلاً إنه تحقيق للديانة المسيحية! ثم تداعت الأصوات النصرانية المتعاطفةُ مع اليهود، حتى قامت حركة تنادي بوجوب عودة اليهود إلى فلسطين، واستخدمت هذه الحركة النصرانية اللغة العبرية - وهي لغة اليهود، استخدمتها في صلواتها، وفي تلاوتها للكتاب المقدس، وشددت هذه الحركة على أن العهد القديم -أي: التوراة- وهو كتاب اليهود، يعد مثالاً للحاكمية الإلهية.

وتنامي هذا الشعور لدى النصارى إلى أن وصل إلى الخجل تجاه آلام اليهود المشتتين في الأرض، ثم تطور الأمر، وبعد أربعين سنة من جهود تلك المنظمة، رفعت مذكرة إلى الحكومة البريطانية آنذاك، فيها: إن لبريطانيا شرفَ حملِ أولاد إسرائيل إلى الأرض التي وُعِد إياها أجدادُهم.

وهذه الوثيقة تعبر عن مدى تحول النظرة لدى قطاع عريض من النصارى، تحول نظرتهم لفلسطين والقدس من كونها أرض المسيح المقدسة، إلى كونها وطناً لليهود، مما يعطي دلالة قوية على الجهد الخفي الذي يبذله اليهود لتسخير النصارى لخدمتهم، وتوظيفهم للدفاع عنهم، بدافع ينبع من عقيدة داخل ضمائر النصارى أنفسهم، وهذا تفسيرُ تمكُّنِ ما يسمى باللوبي اليهودي داخل أمريكا، سواء على الصعيد الرسمي، أو الشعبي، وقوة تأثيره.

فحقيقة الأمر إذاً أن اليهود استطاعوا أن يزرعوا في قلوب النصارى نبتةً لا تذبل، وهي وجوب خدمة اليهود، والسعي لتجميعهم في فلسطين، وتذليل كل صعب لنيل ذاك الهدف، والوقوف بقوة أمام أي محاولة لتعريض اليهود للخطر.

يجد النصارى ذلك التأكيد ليس فقط عن طريق وسائل الإعلام المتصهين، وإنما -أيضاً- من خلال نصوص مدسوسة في الإنجيل المقدس لدى النصارى.

ولقد عبَّرت الوثيقة الآنفة الذكر، التي رفعها علماء اللاهوت الإنجليز -فيما عبرت عنه- عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح للأرض ثانية تسبقها عودة اليهود لأرض الميعاد فلسطين، وأن ذلك يتم بفعل البشر.

ثم توالى فتح مؤسسات ومكاتب، مهمتها الدفاع عن حقوق اليهود المسلوبة، ووجوب عودتهم للأرض المقدسة.

وحتى لا يفتر هذا الحماس، فإن جرعات منشطة تعطى لهذا الجانب من خلال اعتناق بعض رهبان اليهود للمسيحية ليجددوا دور سلفهم بولس اليهودي، ولعل من يتابع مجريات الأحداث يسمع بين حين وآخر عن اعتناق راهب يهودي للمسيحية، وذلك ليزيد من تصدعها من جهة، ولتطويعها أكثر لخدمة اليهود من جهة ثانية.

ولقد وصف صاحب كتاب (تاريخ البشرية) -وهو نصراني- هذا التحول بقوله: إن تحول فريق يهودي إلى كنيسة مسيحية مسكونية، أمر يدعو إلى الدهشة. اهـ.

أيها المسلمون: إن التسارع المحموم في تبني النصارى لقضية اليهود، يعود إلى أمرين، الأول: اعتقاد النصارى حتمية عودة المسيح للأرض ثانية، وأن ذلك لا بد أن يسبقه تجمع اليهود في الأرض المقدسة، وهم الآن تجمعوا، لكن؛ هل اكتمل التجمع؟ وثانياً: للاختراق اليهودي لعقيدة النصارى بوجه عام، حتى وظفوا مشاعرهم خدمةً للمشروع اليهودي.

ولقد تجسد هذا المعتقد بصورة جلية، حينما أصدر رجلُ أعمالٍ مسيحي عام ثمانية وسبعين وثمانمائة وألف، أي قبل مائة وعشرين سنة، أصدر كتاباً بعنوان (يسوع آت)، أي: المسيح سيأتي، ووزع منه أكثر من مليون نسخة في أمريكا، وتُرجم إلى ثمان وأربعين لغة.

وفي ذلك العام نفسه، جَمعت إحدى المنظمات النصرانية المتعاطفة مع اليهود، وتدعى: (البعثة العبرية من أجل إسرائيل)، جمعت توقيعات ثلاث عشرة وأربعمائة شخصية أمريكية بارزة من أعضاء الكونغرس الأمريكي والقضاة هناك ورجال الأعمال والصحافة، ورفعتها المنظمة ضمن عريضة للرئيس الأمريكي يومها سنة إحدى وتسعين وثمانمائة وألف للميلاد، يطلبون فيها تجمع اليهود في وطنهم فلسطين.

معاشر المسلمين: إنما أطلت عليكم في هذه المسألة لتعلموا أن مواقف الغرب النصراني، وخاصة أمريكا، موقفهم من إسرائيل ليس مادياً، ولا سياسياً، وإنما دينيٌّ، صادر عن عقيدة، لذا؛ فلا تنتظروا الحل من أمريكا، ولا أوربا، ولا ترتجوا خيراً من مواقف فرنسا وروسيا والصين المتظاهرة بدعمها للحق العربي.

إن حل القضية يكمن في إحياء الجهاد، وتصعيده، وتوسيع دائرته، ودعمه، (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60]، آخرين من دونهم، لا تعلمونهم؛ لأنهم مندسون بين المسلمين، وهم العلمانيون الذين يمثلون صف النفاق، لا يرضيهم المشروع الإسلامي ولا يريدونه، بل يعادونه.

ولهذا؛ حينما تفجرت الانتفاضة الأولى عام ستة وأربعمائة وألف للهجرة، وكان التيار الإسلامي فاعلاً فيها وموجهاً، تنادى القوم لمؤتمرات أوسلو وما تبعها، قطعاً للطريق من أن تتنامى حركة الجهاد، وإلا؛ لماذا كان من شروط الاتفاقيات التي عقدت مؤخراً في شرم الشيخ، إعادة العناصر الجهادية إلى السجون مرة ثانية؟ وما ذاك إلا لتغييب الإسلام، وإبعاده عن الساحة، والاقتصار على أن المشكلة مشكلةُ أرضٍ سلبت تعاد لأهلها، فقط هكذا تلبس القضية.

إن اليهود عازمون -بدافع عقدي- على هدم الأقصى، وإعادة بناء الهيكل، وقد رُصد لذلك مبالغ في بنوك غربية، كما أن الرسم الهندسي والمخطط اللازم للهيكل انتهى منه منذ سنوات، والفريق الفني الذي سينفذ ذلك مُعدُّ ومستعد، وهم مدربون ومتخرجون من معهد خاص بالهيكل، وينتظرون الأوامر.

ولقد جسَّ اليهود نبض المسلمين عدة مرات للإقدام على ذلك، لكنهم يتراجعون، ويبدو أنهم في هذه المرة وجدوا الوقت غير مناسب أيضاً، فيحتاج الأمر -حسب تقديرهم- إلى إخراج جديد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) [الإسراء:4].

اللهم بارك لنا في القرآن الكريم، وانفعنا بسنة سيد المرسلين. أقول قولي هذا...

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحميد في وصفه وفعله، الحكيم في خلقه وأمره، الرحيم في عطائه ومنه، المحمود في خفضه ورفعه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في كماله وعظمته ومجده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل مُرسل من عنده، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وصحبه وجنده.

أما بعد: أيها المسلمون، فإن من العبر التي نستخلصها من الأحداث الراهنة في فلسطين:

أولاً: فيها بشارة للمؤمنين، والدعاة الصابرين، انظروا إلى جهدكم الذي كنتم تؤدونه على أنه واجب عليكم فقط، مع ما يداخله من اليأس، إنه سيثمر، انظروا إلى الرايات العلمانية تتهاوى رغم محاولاتها المستميتة في سبيل تحقيق السلام، وتنازلاتها اللا محدودة، ومع ذلك تفشل، وتخفق، ويتصاعد الرأي الإسلامي، وتتحقق مصداقيته وتوقعاته؛ لأنها مبنية على تأمل سنن الله التي لا تتغير، ولا تتبدل، غير أن الناس يستعجلون.

ثانياً: إن مما يؤكد جدوى الحل الإسلامي، بل وضرورته، وأنه الوحيد الذي يكفل الحقوق، ويعيدها لأصحابها، تجديد الاتفاقيات بين حين وآخر، وكأنها مهدئات لمرض مستفحل يسرى في الجسم سريعاً. فماذا عساه أن يفيد المهدئ إلا ساعات أو أياماً؟! لو كانت الاتفاقيات جادة لما نُقضت، وإذا نقضت عوقب الناقض، لكنها عبث واستهتار، وقطع للطريق أمام التيار الإسلامي والحل الإسلامي، وهو الجهاد.

إن فلسطين لم يحررها عمر بن الخطاب من الرومان النصارى إلا بالجهاد، ولم يحررها صلاح الدين من الصليبيين إلا بالجهاد، كما أنها لم تفلت من يد المسلمين إلا حينما ضيعوا الجهاد، وخلدوا للدنيا واطمأنوا بها، ورفعوا رايات القومية بديلاً عن الإسلام، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:227]...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي