تعالوا بنا -معاشر المؤمنين- إلى أدب عظيم، وخلق كريم، أدب يختصر لك الطّريق في الدّعوة إلى الحقّ، ويحبّبك إلى جميع الخلق، تعالوا بنا إلى خصلة عظيمة، وخلق كريم، ترى الّذي بينك وبينه عداوة ينقلب إلى وليّ حميم، ذلك هو...
الحمد والثّناء.
أمّا بعد:
فهذا لقاؤنا الثّاني معكم -معاشر المؤمنين- في نداء عامّ لأهل الحقّ: "كونوا دعاةً إلى الله وأنتم صامتون" هذه هي مهمّة المسلم العظيمة هذه الأيّام من دون سائر الأجناس، ألا وهي: ضرورة إيصال الحقّ والخير لجميع النّاس، وما ذلك بكثرة الكلام أو ارتقاء المنابر، ولا بتأليف الكتب وتوزيع المناشر، ولكنّه بالنحلّي بالأخلاق الحِسان، والمعاملة بالإحسان.
وأوّل ما ابتدأنا به من هذه الأخلاق الحميدة، والآداب الرّشيدة: إفشاء السّلام على النّاس من عرفت وعلى من لم تعرف.
فتعالوا بنا -معاشر المؤمنين- إلى أدب عظيم، وخلق كريم، أدب يختصر لك الطّريق في الدّعوة إلى الحقّ، ويحبّبك إلى جميع الخلق، تعالوا بنا إلى خصلة عظيمة، وخلق كريم، ترى الّذي بينك وبينه عداوة ينقلب إلى وليّ حميم، ذلك هو: قضاء حوائج المسلمين، والسّعي في إعانة المؤمنين.
وإنّ الله قد جعل من الثّواب لهذه الأعمال ما لا يحيط له أحد إلاّ هو سبحانه، فتذكّر ما أعدّه الله لك -أيّها المسلم- وأيّتها المسلمة إن كنت ممّن يسارعون في إنجاز حوائج النّاس، أو إعانتهم على ذلك.
أوّلا: أنّ الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه.
ثانيا: أنّه من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"، وفي الصّحيحين عن عَبْد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ثالثا: أنّ الله يُبعد عنك البلاء، ويكشف عنك الضرّاء، فقد روى الطبراني في الكبير، بإسناد حسن، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي َالله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "صَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرِّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمُر".
وأعظم المعروف ما كان فيه نفع للنّاس؛ فقد روى البخاري ومسلم يوم نزل الوحي عليه صلّى الله عليه وسلّم لأوّل مرّة، فَرَجَعَ صلّى الله عليه وسلّم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي! زَمِّلُونِي!" فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ: "أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَتْ خَدِيجَةُ: "كَلَّا أَبْشِرْ! فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا! فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
وإنّ باب قضاء الحوائج واسع جدّا، يشمل الأمور العظام كما يشمل الأمور الصّغيرة الحقيرة.
ويجب أن نعلم أنّ المسلم اليوم لا يُطالَب بالمساواة، ولكّنه يُطالَب بالمواساة، المواساة بالأفعال، ومن عجز فإنّ الأقوال تبني ما تبنيه الأفعال، فإنّ الله -تعالى- قد رفع شأن الأنصار فوق الثريّا، وقال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيهم: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ" [البخاري ومسلم]، بل روى البخاري ومسلم أيضا عن أنس -رضيَ الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال فيهم: "آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ ،وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ"، ذلك كلّه ليس إلاّ لمواساتهم لإخوانهم المهاجرين، فصاروا المثل السّائر في المواساة والإيثار.
وما نال أبو بكر تلكم المنزلة في قلب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلاّ لمواساته النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ! وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي!" مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
وهذه خديجة -رضي َالله عنها- الّتي قال فيها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا" تنال ما نالته من الرّتب لأجل مواساتها للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، فقد روى أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا! قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ"، بل بلغ بها ذلك كلّه أن نالت تحيّة من الله -تعالى-: "يا محمّد! هَذِهِ خَدِيجَةُ! فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ".
إنّ ميزان الله -تعالى- هو ميزان الحقّ، والميزان عند النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- هو ميزان الصّدق، فإذا بلغ هؤلاء هذا الثِّقل في الميزان، فكيف لا يبلغه في قلوب ضعفاء النّاس وفقرائهم، ولا بأس أن نذكّر إخواننا ببعض وجوه قضاء الحوائج: قضاء الدّيون، أو إنظار المعسر، أو وضعه عنه، فهذه كلّها من أبواب البرّ التي تدعو بها إخوانك وأصحابك وجيرانك.
فمن المعلوم أنّ المدين أسير لديونه، وأنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عظّمه حتّى إنّه ترك الصّلاة عليه حتّى يُقضى عنه دينه، وأنّ الشّهيد يُعفى عنه كلّ شيء إلاّ الدّين، فلا ريب أنّ المؤمن في حال الدّين يضيق قلبه، ويعظم كربه، فلو قدمت إليه تقضيه عنه، أو تعين على أن يضع صاحب الدّين عليه دينه، أو على الأقل تُنظِره، فلا ريب أنّ ذلك سيفتح لك بابا عظيما لدعوته، ويكون سببا لثباته، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"، بل إنّه أول من يدخل تحت الظّل، فقد روى الطّبراني عن أبي اليسر مرفوعا: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَسْتَظِلُّ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ: لَرَجُلٌ أَنْظَرَ مُعْسِرًا حَتَّى يَجِدَ شَيْئًا، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِمَا يَطْلُبُهُ، يَقُولُ: مَالِي عَلَيْكَ صَدَقَةٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَيَخْرِقُ صَحِيفَتَهُ"، وفي صحيح مسلم أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ -رضي َالله عنه- طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ! فَقَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ! قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ"، وروى البخاري ومسلم عن حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا، قَالَ: لَا، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنْ الْمُوسِرِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- تَجَوَّزُوا عَنْهُ".
ومن وجوه الإحسان في قضاء الحوائج لدعوة النّساء إلى الخير: السّعي على الأرملة وأولادها اليتامى؛ فقد جاء في الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ"، وفي الصّحيحين أيضا عَنْ سَهْلٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا" -وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا-.
فبالله عليكم، لو اقتربنا من هذه الأرملة -وقد تكون متبرّجة، أو تاركة للصّلاة، أو مخالطة للرّجال- وآويناها كما آوانا الله، أرأيت أنّها سترفض نصائحك، وتأبى مواعظك؟ وذلك اليتيم الذي تمسح على رأسه، وتقضي له حوائجه، ثم تراقبه وتنصحه، ما عساه أن يفعل إلاّ أن يقول لك: لبّيك وسعديك؟ أقوام كُثُرٌ، كانوا يمنعون أبناءهم من ارتياد المساجد، حتّى إذا أُحسِن إليهم قدِموا على بيوت الله هم وأولادهم ونساؤهم. فرأوا رحمة الله من خلال معاملتك، وأحسّوا بفضل الله من مواساتك. ولكنّنا اقتصرنا على مجرّد الكلام.
فالله نسأل أن يعفو عنّا ويغفر تقصيرَنا، ويحسن إليه مصيرَنا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فقد تبيّن لنا -معاشر المؤمنين والمؤمنات- أنّ قضاء حاجات المسلمين والمسلمات، من أعظم القربات، سواء كان أمرهم حقيرا أو عظيما، فاحرصوا على ذلك، فإنّه من أوسع أبواب الدّعوة، فأهل الحقّ لو ضمّوا إلى الحقّ الذي معهم الإحسان إلى النّاس، فإنّهم يمكنهم أن يتربّعوا على القلوب، ويفوزوا بتأييد علاّم الغيوب، ويستر لهم ذلك جميع ما فيهم من العيوب، فالإحسان إلى النّاس هو الأمر الجامع الذي يمكنك أن تستعمله لتصل إلى تلك القلوب التي طالما تعبت في محاولة الوصول إليها، وإلى نفوس صعُب عليك كثيرا اقتحامها، وإنّ الدّعوة إلى الله تسير سيرا لا يمكن تصوّره بعامل الإحسان إلى النّاس، وصدق من قال:
أحسن إلى النّاس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وتأمّل ما رواه الأصبهاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْناً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعاً، وَلَأَنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا المَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ المَدِينَةِ– شَهْراً، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَقْضِيَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ".
فإن عجزت فعليك بالشّفاعة الحسنة، قال الله –تعالى-: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء: 85] أي من يسعى في حاجة أخيه بنفسه، أو يتوسّط له فإنّ له نصيب من الأجر، (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي حافظا لعملك هذا: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف: 30].
الحرص على الكلمة الطيّبة، يقول المولى -تبارك وتعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء: 53]، فتأمّل أمر الله -تعالى- بالكلام الأحسن لا مجرّد الكلام الحسن، فإن قدِرت على أن تقول: بارك الله فيك وأحسن إليك وحظاك الله خيرا، كان أفضل بكثير من أن تقول: شكرا، وهكذا تفتح قلوبا طالما أغلقها الجفاء، وتكون من الدّعاة إلى الله في الخفاء، روى البخاري ومسلم عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضي الله عنه- قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولًا؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمْ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"، وفي الصّحيحين أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ".
الحرص على الابتسامة في وجوه النّاس، فذلك من أعظم ما يؤلّف القلوب؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"، والوجه الطّلق هو الذي تظهر على محيّاه البشاشة والسّرور، روى التّرمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-"، وفي الصّحيحين قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رَضي الله عنه-: "مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ".
مواساة المُصاب، وجبر الخاطر، وإنّه لمقصد من مقاصد الإسلام، ولذلك شرع لنا تعزية المصاب، وزيارة المريض، ورفع الجوائح، وإشراك غير الورثة في الميراث، وشرع متعة المطلّقة، وغير ذلك من وجوه البرّ.
أمّا تعزية المصاب؛ فأن تقتطع شيئا من وقتك، وتقصده بالله مذكّرا، وبالأجر الجزيل مبشّرا: "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"، بل أولاها ديننا الحنيف عناية فائقة، وأنزلها المنزلة اللاّئقة، ولم يكتف فقط بالكلام، بل رغّب ترغيبا شديدا في اتّباع الجنائز من الصّلاة إلى الدّفن، فحضورك معه مواساة له، وكأنّك تقول له: قد أصابني ما أصابك، وآلمني ما آلمك، بل هناك ما هو أعظم من ذلك، أن تتولّى أنت وإخوانك إيواء وإطعام الأهل والأقارب الذين يقصدونهم من كلّ مكان، فقد روى أبو داود والتّرمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ".
أمّا زيارة المريض، فقد عدّه علماء النّفس من أسباب الشّفاء، وكيف لا والمسلم يذهب داعيا له بالشّفاء، نازعا عن نفسه جلباب الجفاء، ولأجل هذا كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول لأصحابه: "مَنْ أَتَى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ عَائِدًا مَشَى فِي خَرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ" [رواه ابن ماجة وأبو داود وأحمد].
أمّا وضع الجوائح، فهو ما يمسّ الإنسان من تلف في ماله، وقد بِعته له، فالبيع قد تمّ ولكنّه تلف ما بعته له، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ"، بل إنّنا نُدِبْنا على أن نسعى له حتّى نعوّضه ماله ويطيب خاطره.
وأمّا إشراك غير الورثة في قسمة الميراث، فهو من محاسن الإسلام، وفضائل المسلمين، قال تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [النّساء: 8]، روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: "هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ"، وقال: "هذا ما فرّط النّاس فيه".
وأمّا متعة المطلّقة فواجبة بنصّ القرآن والسنّة، وذلك جبرا لخاطرها، ومداواة لقلبها، قال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236]، وروى البيهقي عن جابر -رضي َالله عنه- قال: "لمّا طلّق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة، أتت النبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- فقال لزوجها: "متِّعْهَا!" قال: لا أجد ما أمتّعها، قَالَ: "فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ المَتَاعِ، مَتِّعْهَا وَلَوْ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ"
هذا ونسأل الله -تعالى- الإخلاص في القول والعمل، والعصمة من الزّيغ والزّلل، إنّه منتهى الرّجاء والأمل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي