اذكروا الله ذكرا كثيرا

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. لا شيء يحتاجه العبد أكثر من حاجته لذكر الله .
  2. مَنْ أعرض عن ذكر الله –تعالى- عاش حياة الضيق والضنك .
  3. كثرة ذكر الله –تعالى- دليل على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم .
  4. كثرة ذكر العبد لربه –تعالى- مِنْ أبين دلائل الشكر .
  5. المجاهد في ساحات الوغى أحوج ما يكون إلى كثرة ذكر الله .
  6. يوم الجمعة يوم ذكر وتذكير .
  7. واقعنا وواقع كثير من الناس الغفلة عن كثرة الذكر .

اقتباس

لَا ذِكْرَ أَعْظَمُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-، وَلَا شَيْءَ يَحْتَاجُهُ الْعَبْدُ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ لِذِكْرِهِ –سُبْحَانَهُ-، فَجَنَّةُ الدُّنْيَا الْمُتَمَثِّلَةُ فِي طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ وَسُكُونِهَا وَأُنْسِهَا وَفَرَحِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِهِ –عَزَّ وَجَلَّ-. وَمَنْ حَازَ جَنَّةَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الدُّنْيَا فَازَ بِجَنَّةِ الرَّحْمَنِ –سُبْحَانَهُ- فِي الْآخِرَةِ.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَّصِفِ بِالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشُّورَى: 11]، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، عَزِيزٌ لَا يُرَامُ، مَلِكٌ لَا يُضَامُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ ذِكْرُهُ –سُبْحَانَهُ- فَرَحُ الْقُلُوبِ وَطُمَأْنِينَتُهَا، وَانْشِرَاحُ الصُّدُورِ وَرَحَابَتُهَا، وَأُنْسُ النُّفُوسِ وَسُلْوَانُهَا، لَا يَذْكُرُهُ حَقَّ ذِكْرِهِ مَهْمُومٌ إِلَّا تَبَدَّدَ هَمُّهُ، وَلَا مَكْرُوبٌ إِلَّا زَالَ كَرْبُهُ، وَلَا خَائِفٌ إِلَّا ذَهَبَ خَوْفُهُ (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرَّعْدِ: 28]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ" وَيَتَفَكَّرُ فِي آيَاتِهِ وَآلَائِهِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ ذِكْرِهِ –تَعَالَى- جِهَادُ أَعْدَائِهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ –تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ –سُبْحَانَهُ-؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَرَبِيعُهَا (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزُّمَرِ: 23].

أَيُّهَا النَّاسُ: لَا ذِكْرَ أَعْظَمُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-، وَلَا شَيْءَ يَحْتَاجُهُ الْعَبْدُ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ لِذِكْرِهِ –سُبْحَانَهُ-، فَجَنَّةُ الدُّنْيَا الْمُتَمَثِّلَةُ فِي طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ وَسُكُونِهَا وَأُنْسِهَا وَفَرَحِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَمَنْ حَازَ جَنَّةَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الدُّنْيَا فَازَ بِجَنَّةِ الرَّحْمَنِ –سُبْحَانَهُ- فِي الْآخِرَةِ (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الْفَجْرِ: 27 - 30].

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- عَاشَ حَيَاةَ الضِّيقِ وَالضَّنْكِ وَلَوْ أَحَاطَتْ بِهِ الْمَوَاكِبُ، وَحَفَّتْ بِهِ الْمَرَاكِبُ، وَمَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].

وَمَنْ نَظَرَ فِي الْقُرْآنِ وَجَدَ أَنَّ الْأَمْرَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- تَكَرَّرَ فِي آيَاتِهِ، وَجَاءَ فِي سِيَاقَاتٍ عِدَّةٍ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِالْإِكْثَارِ مِنْ شَيْءٍ كَالْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ؛ وَذَلِكَ لِحَاجَةِ الْمَرْءِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَسَعَادَتُهُ وَأُنْسُهُ؛ وَهُوَ عُدَّتُهُ فِي مُوَاجَهَةِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءَاتِ، وَهُوَ فَوْزُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَمَا رُتِّبَ عَلَى الذِّكْرِ مِنَ الْأُجُورِ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ –تَعَالَى-؛ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرِ عَمَلٍ وَشُغْلٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَهُوَ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ بِالذِّكْرِ، مَعَ اسْتِحْضَارِ الْقَلْبِ لِمَا يَقُولُ، وَيَسْتَطِيعُهُ الْعَبْدُ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ لَا يُوقِفُهَا إِلَّا صَاحِبُهَا، وَلَا تُعَطِّلُهُ عَنْ أَعْمَالِهِ الْأُخْرَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الْأَحْزَابِ: 41- 42]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ عُذْرٍ، غَيْرَ الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ، إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تَرْكِهِ، فَقَالَ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النِّسَاءِ:103]، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ" وَقَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ –تَعَالَى-: "الذِّكْرُ الْكَثِيرُ أَنْ لَا تَنْسَاهُ أَبَدًا".

وَكَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- دَلِيلٌ عَلَى التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ –تَعَالَى- عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَيَدْعُو إِلَى ذِكْرِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الْأَحْزَابِ: 21]. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى تَأَسِّيهِ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْيُكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-، وَلَا يَغْفُلْ عَنْهُ، وَلْيَجْعَلْ حَيَاتَهُ كُلَّهَا فِي ذِكْرِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَفِي كُلِّ شُئُونِهِ، وَلَاسِيَّمَا أَنَّ اللَّهَ –تَعَالَى- قَدْ أَثْنَى عَلَى مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ حِينَ ذَكَرَ –سُبْحَانَهُ- جُمْلَةً مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَقَالَ: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 35].

وَأَهْلُ النِّفَاقِ أَهْلُ غَفْلَةٍ وَإِعْرَاضٍ وَصُدُودٍ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النِّسَاءِ: 61]، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ أَعْلَى الذِّكْرِ وَأَفْضَلُهُ وَأَنْفَعُهُ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النِّسَاءِ: 142]، فَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- سِرًّا وَعَلَانِيَةً بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ.

وَكَثْرَةُ ذِكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ –تَعَالَى- مِنْ أَبْيَنِ دَلَائِلِ الشُّكْرِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ يَطْلُبُ الْوَلَدَ فَأَجَابَهُ –سُبْحَانَهُ-، جَعَلَ آيَةَ حَمْلِ زَوْجِهِ حَبْسَ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ لِسَانُهُ بِغَيْرِ الذِّكْرِ؛ شُكْرًا لِرَبِّهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا) [آلِ عِمْرَانَ: 41].

وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ –تَعَالَى- دَعْوَةٌ إِلَى ذِكْرِهِ –سُبْحَانَهُ-، وَتَخْلِيصٌ لِلنَّاسِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَهِيَ مُهِمَّةٌ ثَقِيلَةٌ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ –تَعَالَى-؛ لِتَعَدُّدِ الصَّوَارِفِ وَالْعَقَبَاتِ وَكَثْرَةِ الْقَاعِدِينَ وَالْمُثَبِّطِينَ وَالصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ –تَعَالَى-، الْمُحَارِبِينَ لَهُ، فَكَانَ مِنْ أَهَمِّ أَسْلِحَةِ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ –تَعَالَى- لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِهَا التَّسَلُّحُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-؛ لِلرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ، وَتَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَاسْتِحْضَارِ الْحُجَّةِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الْجِدَالِ وَالْمَوْعِظَةِ. وَلَمَّا طَلَبَ مُوسَى مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مُشَارَكَةَ هَارُونَ مَعَهُ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ عَلَّلَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *  كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [طه: 29 - 34]. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حَاجَةِ الدُّعَاةِ إِلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا قَوِيَتِ الدَّعْوَةُ وَكَثُرَ الدُّعَاةُ كَثُرَ ذِكْرُ اللَّهِ –تَعَالَى- فِي النَّاسِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدَّعْوَةَ إِنَّمَا يُرِيدُونَ تَحْوِيلَ النَّاسِ مِنْ شَرَفِ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- إِلَى رَذَالَةِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ.

وَكَمَا أَنَّ الدَّاعِيَةَ فِي مَيْدَانِ الدَّعْوَةِ مُحْتَاجٌ إِلَى كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- فَكَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي سَاحَاتِ الْوَغَى أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ؛ لِيَثْبُتَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَيُخْلِصَ فِي الْغَايَةِ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ غُرُورِ الْقُوَّةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الْأَنْفَالِ: 45].

وَمِنْ أَسْبَابِ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ تَكْثِيرُ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- فِي الْبَشَرِ بِكَثْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِمَايَةِ أَمَاكِنِ الذِّكْرِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) [الْحَجِّ: 40].

وَلَمَّا ذَمَّ اللَّهُ –تَعَالَى- الشُّعَرَاءَ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) اسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ أَكْثَرُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) [الشُّعَرَاءِ: 225 - 227]، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- فِي الشِّعْرِ سَبَبٌ لِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْغِوَايَةِ، وَتَوْجِيهِهِ لِلْهِدَايَةِ، وَاسْتِثْمَارِهِ فِي الدَّعْوَةِ.

اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ –تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ –سُبْحَانَهُ- فِي بُيُوتِكُمْ وَوَظَائِفِكُمْ وَأَسْوَاقِكُمْ، وَفِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ؛ فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- فِي الْأَرْضِ أَكْثَرَ اللَّهُ –تَعَالَى- مِنْ ذِكْرِهِ فِي السَّمَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ ذِكْرٍ وَتَذْكِيرٍ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الذِّكْرِ وَخُطْبَتُهَا ذِكْرٌ وَتَذْكِيرٌ، وَقَدْ أُمِرَ الْمُؤْمِنُ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَاةِ؛ لِئَلَّا يُشْغَلَ عَنْهُ فَيَنْسَاهُ؛ وَلِتَمُرَّ عَلَيْهِ سَاعَةُ الِاسْتِجَابَةِ وَهُوَ فِي ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الْجُمُعَةِ: 10].

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ، فَمَنِ انْقَطَعَ أَوْ تَبَاطَأَ فَذَلِكَ بِسَبَبِ قِلَّةِ ذِكْرِهِ لِلَّهِ –تَعَالَى-، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ" قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ" وَفِي رِوَايَةٍ: "الَّذِينَ يُهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ". قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّوْا مِنَ النَّاسِ بِذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-، كَأَنَّهُمْ أَفْرَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِلذِّكْرِ.

وَبَعْدُ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- فَمَا سَبَقَ مِنْ نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ فِي مُجَرَّدِ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ يَذْكُرُ اللَّهَ –تَعَالَى-، وَلَكِنَّهَا نُصُوصٌ تَأْمُرُنَا بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ. وَوَاقِعُنَا وَوَاقِعُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الْغَفْلَةُ عَنْ كَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْوَاجِبِ وَأَدْنَى الْمَنْدُوبِ مِنْهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: الْمُلْهِيَاتُ الَّتِي صَرَفَتِ النَّاسَ عَنِ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَقْضِي وَقْتًا طَوِيلًا أَمَامَ الشَّاشَاتِ الْفَضَائِيَّةِ، أَوْ فِي مَجَالِسِ الْأُنْسِ الْعَبَثِيَّةِ، أَوْ فِي مُتَابَعَةِ الْحِسَابَاتِ الْإِلِيكْتُرُونِيَّةِ. وَلِلْهَوَاتِفِ الذَّكِيَّةِ أَوْفَرُ الْحَظِّ مِنْ أَوْقَاتِ النَّاسِ، فَيَغْلِبُهُمُ النَّوْمُ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَهِيَ أَوَّلُ شَيْءٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِمْ، فَتُنْسِيهِمْ كَثِيرًا مِنَ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ، وَتُلْهِيهِمْ عَنِ الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ، وَتُخْرِجُهُمْ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، وَلَوِ اسْتَعْرَضَ الْوَاحِدُ مَا قَرَأَ وَمَا سَمِعَ وَمَا رَأَى وَمَا قَالَ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ لَوَجَدَ لَغْوًا كَثِيرًا، وَذِكْرًا قَلِيلًا. وَهَذَا يَسْتَوْجِبُ الْمُرَاجَعَةَ وَالْمُحَاسَبَةَ، وَالِالْتِفَاتَ الْجَادَّ إِلَى الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى-، وَالْعَمَلِ بِهَا؛ لِتَكُونَ كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ –تَعَالَى- مَنْهَجًا فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ، وَوَظِيفَةً مِنْ وَظَائِفِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ؛ لِيَسْعَدَ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [الْبَقَرَةِ: 152].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي