إنَّ نَقْضَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ نَقْضِ الْعُهُودِ: الْعَهْدُ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْعَبْدُ مَعَ رَبِّهِ؛ فَهُنَاكَ مَنْ يُعَاهِدُ اللهَ إنْ أَغْنَاهُ اللهُ لَيَصَدَّقَنَّ، وَانَّ أَعَطَاهُ كَذَا؛ لَيَفْعَلَّنَّ كَذَا، ثُمَّ يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَيَنْكُثُ بِعَهْدِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيهِ أَنْ يَغْتَرَّ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَنْ...
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عبادَ اللهِ: تَحدَّثنَا في خُطبةٍ سَابقةٍ عنِ الوفاءِ بالعهدِ، وأَنَّهُ مَنْهَجٌ شَرْعِيٌّ رَبَّي عليهِ الإسلامُ أتباعَهُ؛ واليومَ نتحدثُ عنْ نقيضِهِ وهوَ: الغدرُ والخيانةُ، ونقضُ العهودِ؛ مَنْهَجُ أعداءِ الإسلام فِي القديمِ والحديثِ.
ففرعونَ وقومُهُ كانُوا مِثَالًا لإخْلَافِ الوعُودِ، حَتَّى صَارُوا قُدْوَةً للمُخْلِفِينَ؛ حيثُ عَاهَدُوا مُوسَى أنْ كَشَفَ اللهُ عَنْهُمْ الرِّجْزَ؛ لَيُرْسِلَنَّ مَعَهُ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْزَ؛ فَأَخْلَفُوا عَهْدَهُمْ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حَاكِيًا عَنْهُمْ: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَآئِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 134 - 136]، فَكَانَ هَذَا الإغْرَاقُ نَتِيجَةً لإفْسَادِهِمْ، وَكَانَ آخِرُ إفْسَادٍ صَدَرَ مِنْهُمْ نَقْضُهُمْ لِلْعَهْدِ؛ فَتَبَيَّنَ بَعْدَ هَذَا النَّقْضِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ مِنْهُمْ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَبْقَوا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ؛ فَلاَبُدَّ أَنْ يَهْلَكُوا.
وَقَدْ وَرِثَ الْيَهُودُ -الَّذِينَ رَأَوْا مَاذَا حَاقَ بِمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ- النَّقْضَ، وَأَصْبَحَ خُلُقًا مُلاَزِمًا لَهُمْ، لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُمْ.
وَكَانَ أَعْدَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ- هُمْ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ، وَمِنْ أَدَلَّةِ ذَلِكَ غَزْوَةُ الأَحْزَابِ؛ حَيْثُ نَقَضَ الْيَهُودُ عَهْدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ-، فَكَانَ أَوَّلُ النَّقْضِ مِنْ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ قَالُوا كَلِمَتَهُمُ الْمَشْهُورَةَ: "لَا يَغُرَّنَّكَ انْتِصارُكَ عَلَى هَؤُلَاءِ -يَقْصُدُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ- إنَّا وَاللهِ، لَئِنْ حَارَبْتَنَا لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ"، وَكَانَ ابْتِداءُ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ اعْتِدَاؤُهُمْ عَلَى الْمَرْأَة الْمُسْلِمَةَ الَّتِي كَانَتْ تَتَبَضَّعُ بِالسُّوقِ، وَكَانَ هَذَا النَّقْضُ بَعْدَ مَعْرَكَةِ بَدْرٍ؛ فَهَزْمَهُمُ اللهُ وَأَخْزَاهُمْ.
ثَمَّ جَاءَ النَّقْضُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ؛ حينما قَصْدَهُمْ الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ- فِي دِيَارِهُمْ؛ فَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ؛ فَنَزَلَ الْوَحْيُ سَرِيعَا مُخْبِرًا لَهُ بِذَلِكَ؛ فَأَجْلَاهُمُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَدِينَةِ.
ثُمَّ حَدَثَ أَقْوَى نَقْضٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي قُرَيظَةَ، ثَالِثِ الْقَبَائِلِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي عَاهَدَتِ الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ؛ حَيْثُ نَقْضَ أَمِيرُهُمْ كَعْبُ بنُ أَسَدٍ الْعَهْدَ، وَانْضَمَّ إلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ فِي مَعْرَكَةِ الأَحْزَابِ، فَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ- كَانَ يَسْعَى لِلْتَعَايُشِ وَالصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَيَلْتَزِمُ الْوَفَاءُ، بَلْ شَهِدَ لَهُ زَعِيمُ الْيَهُودِ كَعْبُ بنُ أَسَدٍ القُرَظِيُّ الَّذِي نَقَضَ الْعَهْدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "لَقَدْ عَاهَدَتُ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إلَّا وَفَاءً وَصِدْقًا"، وَقَدْ حَكَى اللهُ عَنْهُمْ هَذِهِ النُّقُوضَ بِقَوْلِهِ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 100].
وَبَعْدَ مَعْرَكَةِ الأَحْزَابِ حَكَّمَ فِيهِمُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- سَعْدًا بنَ مُعَاذ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- اسْتِجَابَةً لِطَلَبِهِمْ؛ فَحَكَمَ عَلَيهِمْ حُكْمَهُ الْمَشْهُودَ بِقَتْلِ مُقَاتِلِيِهِمْ، وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ، وَتَوْزِيعِ أَمْوَالِهِمْ، وَذَكَرَ أَصْحَابُ السِّيَرِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنْ قُرَيْشًا صَالَحَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَلَّا يَعْتَدِيَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى مَنْ دَخْلَ فِي حِلْفِ الآخَرِ؛ وَلَكِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَّتْ بِالْعَهْدِ، وَأَعَانَتْ عَلَى قَتْلِ خُزَاعَةَ، الَّذِينَ دَخَلُوا بِعَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَقْبَلَ عَمْرُ بنُ سَالِمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الأَبْيَاتِ:
اللهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا *** حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
فَانْصُرْ رَسُولَ اللهِ نَصْرًا أَعْتدَا *** وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا *** إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا *** إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا *** وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا *** فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ"، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدًا، وَأَخْلَفَ مَوْعِدًا؛ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ وَخِيمَةً.
وهَكَذَا اسْتَمَرَّ أَهْلُ الإسْلَامِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالاتِّفَاقَاتِ إنْفَاذًا لأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، أَمَّا أَعْدَاءُ الدِّينِ فَقَدْ عُرِفُوا بِالْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، فَمَتَى كَانَتِ الْقُوَّةُ لَهُمْ؛ بَادَرُوا بِنَقْضِ الْعُهُودِ.
وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ غَايَةَ التَّحْذِيرِ؛ فَقَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا" وذكر منها: "وَإذَا عَاهَدَ غَدَرَ" [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: "مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطُّ، إلَّا كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ" [رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ]، وعن أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- وَقَعَ فِي قَلْبِي الإسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ، قَالَ: "إنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ" [رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ]، وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَقَدْ ضَرَبَ الْحُوثِيَّةُ أَوْضَحَ الأَمْثِلَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نَقْضِهِمُ الْعُهُودِ، وَإخْلَافِهِمْ لهَا؛ حَتَّى صَرَّحَتِ الْحُكُومَةُ الْيَمَنِيَّةُ أَنَّ الْحُوثِيَّةَ نَقَضُوا مَعَهُمْ سَبْعِينَ عَهْدًا وَمِيثَاقًا؛ فَهُمْ أَهْلُ غَدْرٍ وَخِيَانَةِ، يَنْطَلِقُونَ مِنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَتَعَالِيمِهُمُ الرَّدِيئَةِ، وَأَخْلَاقِهُمُ الدَّنِيئَةِ، فَلَا صِلَةَ لِهُمْ بِالإسْلَامِ، وَلَا للِإسْلَامِ بِهِمْ صِلَةٌ، وَلَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ؛ لأَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَبَادِئَ فَاسِدَةٍ، وَعَقِيدَةٍ مُنْحَرِفَةٍ، نَاهِيكَ عَنْ أَنَّ الْيَمَنَ لَا يَعْنِيهِمْ فِي شيءٍ لَا هُوَ وَلَا أَهْلُهُ، فَهُمْ حُلَفَاءُ الْمَجُوسِ وَالْمُرْتَزَقَةِ، وَغَيْرُ الْحُوثِيَّةِ كُثْرٌ- لَا كثَّرَهُمُ اللهُ-.
الخُطْبةُ الثَّانيةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا الَهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ اللهِ: إنَّ نَقْضَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ نَقْضِ الْعُهُودِ: الْعَهْدُ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْعَبْدُ مَعَ رَبِّهِ؛ فَهُنَاكَ مَنْ يُعَاهِدُ اللهَ إنْ أَغْنَاهُ اللهُ لَيَصَدَّقَنَّ، وَانَّ أَعَطَاهُ كَذَا؛ لَيَفْعَلَّنَّ كَذَا، ثُمَّ يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَيَنْكُثُ بِعَهْدِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيهِ أَنْ يَغْتَرَّ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَنْ يَثِقَ بِهَا كُلَّ هَذِهِ الثِّقَةِ، فَيَقُولُ مَثَلًا: أَسْأَلُ اللهَ أنْ رَزَقَنِي مَالًا أَنْ يُعِينَنِي عَلَى إنْفَاقِهِ وَبَذْلِهِ فِي سَبِيلِهِ، أَمَّا عَقْدُ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ فَقَدْ يَصْعُبُ عَلَى الْبَعْضِ الْالْتِزَامُ بِهَا؛ فَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ وَخِيمَةً أَلِيمَةً، قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75 - 77]، فَانظُرْ إلَى شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي عُوقِبَ بِهَا مَنْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ مَعَ اللهِ! وَمَا أَسْوَأَ هَذِهِ الْعَاقِبَةِ! أَنْ وَقَعُوا فِي النِّفَاقِ، وَلَيْسَ أَيَّ نِفَاقٍ، بَلْ هُوَ النِّفَاقُ الْقَلْبِيُّ، الَّذِي مَآلُ صَاحِبِهِ الدَّرْكُ الأَسْفَلُ مِنَ النَّارِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ: مَا يُوَرِّطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ بِالنَّذْرِ، وَمَا أَلْزَمَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ، وَمَا حَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ، بَلْ كَرَّهَهُ، وَحَذَّرَ مِنْهُ، نَهَى عَنْهُ؛ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ: "إنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَإنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَقَالَ شَيْخُ الإسْلَامِ مُعَلِّقًا عَلَى الآيَةِ السَّابِقَةِ: "وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ؛ مَتَى كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ، فَإذَا تَرَكَهُ؛ عُوقِبَ؛ لإخْلَافِهِ الْوَعْدَ".
عِبَادَ اللَّهِ: إنَّ فِي ظاهِرِ هَذِهِ الآيةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَاقَضَ الْعَهْدِ قَدْ يُعَاقَبُ عَلَى نَقْضِهِ بِالنِّفَاقِ، وَكَمَا قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ انَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْاحْترَازِ مِنْه؛ فَإذَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَى أَمْرٍ؛ فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْقِيَامِ بِهِ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إنَّ الإخْلَالَ بِالْعَهْدِ؛ يُوجِبُ النِّفَاقَ لَا مَحَالَةَ"، وَهَذَا يَدُلُّ -وَاللهُ أَعْلَمُ- عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ خِصَالُهُ؛ يُخْشَى عَلَيْهِ أَلَا يَمُوتَ عَلَى الإيمَانِ أَبَدًا؛ مَا لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ.
إنَّ هُنَاكَ مَنْ يُعَاهِدُ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدُ الزَّوْجِيْنِ يُعَاهِدُ زَوْجَهُ وَيَجْعَلَانِ بَيْنَهُمَا مِيثَاقًا غَلِيظًا ثُمَّ يُخْلِفُ أَحَدُهُمَا الْعَهْدَ.
والأخْطَرُ مَنْ يَخُونُ دِينَهُ وَبِلادَهُ، بَعْدَمَا عَاهَدَ اللَّهَ، وَأَقْسَمَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا أُلْزَمَ بِهِ، ثُمَّ يَكُونُ عَوْنًا لأَعْدَاء اللهِ، خَائِنًا لِدِينِهِ، مُعَرِّضًا أَمْنَ بِلادِهِ لِلْخَطَرِ؛ فَزادَ عَلَى النَّقْضِ الْخِيَانَةَ الَّتي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ" [حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ]، وَلِذَا نَجِدُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّهُ يَمْكُرُ بِالْمَاكِرِينَ، وَيَخْدَعُ الْمُخَادِعِينَ، وَيَسْتَهْزِئُ بِالْمُسْتَهْزِئِينَ، وَيَسْخَرُ بالسَّاخِرِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخُونُ الْخَائِنِينَ؛ فَإنَّهَا صِفَةُ نَقْصٍ نُزَّهَ اللهُ عَنْهَا، وَإنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ عِقَابَهُ، وَأَلِيمَ عَذَابِهِ؛ وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" [حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْرُهُ].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدُوا.
الَّلهُمَّ احْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن.
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ.
الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
(رَّبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) [آل عمران: 193].
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ انَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 194].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي