يا من تشمِّت بالأمة، ويا من تفرج بأخطاء الأمة، ألا تخشى الله أن يقلِّب قلبك ويزيغه بعد إذ هداه فتقع في الباطل الذي كنت تحذره؟! إن الشامتين بالأمة والفرحين بأخطائها والمتربصين الدوائر هم قومٌ خلت قلوبهم من الإيمان الصادق، وتقمَّصوا ما ليس لهم، وادَّعوا ما لا يبلغونه، فليحذر المؤمن أن يكون خادعاً لنفسه، ظاناً بها الخير، وهو على خلاف ذلك، ويعلم الله منه خلاف ذلك..
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، من صفات المؤمن صادقِ الإيمان محبّةُ الخير لإخوانه المسلمين، فهو يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، وتلك أعلى الصفات لمن هُدِي إليها، وفي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" هكذا يقول .
هذا المؤمن يسرُّه ما يسرُّ إخوانَه المؤمنين، ويُحزنه ما يُحزن إخوانَه المؤمنين، إن رأى خيراً فيهم فرِح بهذا الخير، وإن رأى خطأ ساءه ذلك، إن رأى خيراً سرَّه ذلك الخيرُ وفرح به، وإن رأى غيرَ ذلك ساءه وأحزنه، مخالفاً للمنافق الذي يسرُّه حزنُ المؤمنين، ويسوؤه فرحهم، (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا) [آل عمران:120].
المؤمن حقاً يسعى في راحة إخوانه المسلمين، ويسعى في تقويم اعوجاج سلوكهم، ويسعى في جمع كلمتهم، ويسعى في تأليف قلوبهم، ويسعى في إصلاح ذات البين بينهم، ويسعى في كفِّ الشر والأذى عنهم.
المؤمن حقاً إذا رأى الخطأ كان موقفُه من هذا الخطأِ موقفَ المؤمن الصادق في إيمانه، يسعى في إزالة ذلك الخطأ، يرشد، يوجِّه، ينصر أخاه المؤمن، ظالماً أو مظلوماً، إن يكن ظالماً نصره بردعه عن الظلم، ومنعه من الظلم، وإخباره بأن هذا طريقٌ خطأ ومخالف للصواب، فهو ينصره عندما يردعُه عن الظلم، ويحول بينه وبين ظلم العباد، ويمنعه من التمادي في غيِّه وجهالته، وإن رآه مظلوماً نصره ووقف معه حتى تُردَّ إليه مظلمته، فهو مع الظالم إلى أن يرتفع عن ظلمه، ومع المظلوم إلى أن تُردَّ إليه مظلمته.
هذا المؤمن عندما يُصلح الخطأ لا يصلحه رياءً وسمعة، ولا محبةَ أن يثني الناس عليه أو يمدحوه، ولكن الأمر يسعى فيه لله وفي سبيل الله، ولذا قال الله: (فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال:1]. إذاً فإصلاحه بين المتخاصمين منطلق من هذا، من طاعته لربه وتقواه لربه.
المؤمن عندما يرى الخطأ ينصح ذلك المخطئ النصيحةَ الصادقة التي تصدر عن رحمة وشفقة ومحبة للمؤمن وحرص على هدايته وإنقاذه من الهلكة، هذه النصيحة نصيحةٌ يحاول المؤمن أن تكون بينه وبين أخيه المؤمن، يسِرّ له النصيحة حرصاً عليه، وخوفاً عليه من عذاب الله، وسعياً في نجاته، ينصح نصيحة الصادقين المخلصين المحبين للخير.
هذا المؤمن لا تراه فرحاً بالأخطاء، ولا مشيِّعاً للأخطاء، ولا ناشراً للعيوب، عندما يبلغه الخطأ يسعى في النصيحة، فإذا نصح ووجَّه كتم ذلك الأمر، وما كأنَّ شيئاً كان، هو لا يريد أن يتَّخذ من النصيحة مجالاً لعيب المسلم، والحطِّ من كرامته، ونشر أخطائه، وإشاعتها بين الناس، إنما نصيحته نصيحةٌ لله وفي سبيل الله.
وقد ذمَّ الله قوماً يفرحون بأخطاء الأمة، ويسعون في تجسيد الأخطاء ونشرها وإذاعتها وتكبيرها ولو كانت صغيرةً؛ لأن قلوبهم فيها غلٌٌّ ومرض على أهل الإيمان، فأي خطأ يمكن أن يحصلوا عليه لا بد أن ينشروه ويذيعوه ويجسِّدوه، ويكبروه إن كان صغيراً، ويُعلموا به من كان جاهلاً به. لماذا؟ لأن القصد سيئ، والنية فاسدة، والهدف خاطئ، فليس المراد الإصلاح، ولكن المراد النيل من قيمة الأمة، والحط من شأنها أفراداً أو جماعة، ولذا قال الله جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النور:19].
فاسمع ـ أخي ـ إلى هذه الآية، جاءت هذه الآية في آخر قصة الإفك، لما برأ الله أم المؤمنين مما تقوَّل عليها من تقوّل قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، كيف يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ يحبون ذلك بإعلانها، بإظهارها، بالتحدث بها، ينشرها بين أفراد الأمة، وقد يكون البعض يجهلها ولا يعلمها، فيأتي هذا يدعي أنه ذو دين، وأنه ذو غيرة، وأنه ذو حمية للإسلام، والله يعلم من قلبه إنما يريد نشرَ السوء والفساد، وإنما يريد تشويه الأمة، وإنما يريد الفضيحة والشماتة بمن ينسب إليه هذا الأمر.
إن المؤمن يسوؤه ضررُ إخوانه المسلمين، فهو لا يرضى أن ينشر عنهم سوءاً، ولا أن يذيع عنهم خطأ، إنما يحاول إصلاحَ الخطأ إذا وقع بالطرق السليمة الدالة على صدق الطوية وحسن النية، وأما أولئك الذين يحبون نشر كل فساد، ونشرَ كل خطأ، وإذاعة أي خطأ، ويحبون أن يكبِّروا ذلك الخطأ، وينشروه على الملأ، ويعلِّمون به من كان جاهلاً، وهم يدَّعون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولكنهم المخطئون الكاذبون.
أيها المؤمن، إن المؤمن يستُر العيوب، ويقيل العثرات، [ويسمح] الزلات، ويحاول إيجاد الأعذار ما وجد لذلك سبيلاً، فهو لا يُفرحه أخطاءُ الأمة، لا يسرُّه ذلك، إنما يسرّه صلاح الأمة أفراداً وجماعة، ويُفرحه أن يراهم على الطريق المستقيم، وإن رأى خطأ فالإصلاح له طرقُه ووسائله، وأما الشماتة بالآخرين ومحاولة التحدث ليشفي ما في قلبه من غلٍّ على الأمة فتلك طريقة من لا يريد الخير، ولا يقصد الخير، ولا يحب الخير، ولذا في الحديث: "من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة".
إن المؤمن يعلم أن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء.
فيا من تشمِّت بالأمة، ويا من تفرج بأخطاء الأمة، ألا تخشى الله أن يقلِّب قلبك ويزيغه بعد إذ هداه فتقع في الباطل الذي كنت تحذره؟! إن الشامتين بالأمة والفرحين بأخطائها والمتربصين الدوائر هم قومٌ خلت قلوبهم من الإيمان الصادق، وتقمَّصوا ما ليس لهم، وادَّعوا ما لا يبلغونه، فليحذر المؤمن أن يكون خادعاً لنفسه، ظاناً بها الخير، وهو على خلاف ذلك، ويعلم الله منه خلاف ذلك، (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:206].
تسمع قولاً طيباً جيداً، ولكن يعلم الله من قلوب أولئك أن المقصد غيرُ صحيح، والهدف غيرُ صحيح، لأنك ترى شماتةً ونشراً لأي عيب وطعناً في فلان وفلان، ورميَ فلان بهذا وبهذا، ووصفَ هذا بالنفاق، وهذا بالإلحاد، وهذا بهذا الوصف وغيره، أوصافٌ يصفون بها بعض الناس من غير رويّة ومن غير بصيرة، ولكن الهوى يُعمي ويصم، فيقولون بألسنتهم ما لا يعلمون ولا يوقنون، ولكن الهوى يحملهم أن يقولوا ويفتروا الكذب، (إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـاتِ اللَّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل:105].
فليحذر المسلم من أن يزل لسانه بما لا تحمد عقباه، وإذا أراد الإصلاح والنصح، وإذا أراد التوجيه، وإذا أراد محبة الأمة، فللنصح وللتوجيه طرقُه السليمة المعروفة، وأما من يريدون الشماتة بالآخرين، والتحدث عن عيوب الآخرين، ويتناسون أنفسهم، ولو عادوا إليها لوجدوا النقص في أنفسهم حقيقة.
إن المسلم وهو يغار على دين الله يُمسك لسانَه أن يقول باطلا، أو يتفوّه بخطأ، أو يرمي إنساناً مسلماً بما هو بريء منه، لكي يكون على بصيرة من دينه.
وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله أدَّب عبادَه المؤمنين بقوله: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، أدبٌ من الله لنا أمام أي خلل يرد إلينا، ولا سيما ممن عُرف بالفسق والكذب وعدم التثبت في الخبر أن لا نقبل أخباره، بل نتثبت ونتحرى، فعسى أن تكون تلك الأخبار أخباراً غيرَ صادقة.
كم من مخبر بأخبار وناقل أشياء إذا محَّصتها على الحقيقة وجدتها خالية من الصدق، خالية من الحقيقة، وإنما هي مجرّد هوى وتلقّف ألفاظ يلقيها فلان، ويأخذها فلان، ويكتبها فلان، ويمليها فلان، وذكرها الجهاز، وقال فيها كذا وكذا.. كل هذه الأمور لا يليق بالمسلم أن يعتمد عليها، يقول الله لأصحاب نبيه: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
فأعراض المسلمين عظيمة عند الله، إياك أن تجرحها بغير برهان، وإياك أن تنسب إليهم ما هم برآء منه بغير حجة، إن تكن صادقاً في قولك فأين نصيحتك؟! وأين اتصالك بالمخطئ لتبلِّغه نصحَك وملاحظاتك وتُقوّم أخطاءه إن كنت صادقاً؟! أما جُبنٌ عن هذا، وانبساطٌ في أعراض الناس في المجالس والأماكن فتلك طريقة الجبناء حقاً، ولذا قال الله: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ) تثبتوا في الأمر، (أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَالَةٍ) تصيبوهم بغير علم، فتنسبون إليهم ما هم برآء منه، وتقولون عنهم ما يعلم الله براءتهم منه.
فليتق المسلم ربه، وليزن أقواله وتحركاته وتصرفاته لتكون موافقة للشرع، حتى يسلم دينه، فأعراض المسلمين عظيمة عند الله، لا يحل انتهاكها بغير حق، وإنما المؤمن من يسدِّد الخطأ، ويصلح الحال، وينصح الأمة، ويسعى في التوفيق ما وجد لذلك سبيلاً.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو الألْبَابِ) [الزمر:18].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي