كثير من الناس اليوم وبالذات في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحوا يتكلمون في الأحكام الشرعية بلا خطام ولا زمام, وأصبحوا يتسابقون للفتيا والكلام على الله تعالى بغير علم, بزعمهم أن القرآن والسنة جاءت بلغة العرب ونحن عرب, وما علموا خطورة ذلك, وصعوبة استنباط الحكم الشرعي, وأنه توقيع عن رب العالمين بأن هذا هو حكمه في المسألة.
الحمد لله الغفورِ الودود، الكريمِ المقصود، الملكِ المعبود، المتعالي عن الأمثال والأشكال والجهات والحدود، لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء في الليالي السود، ويسمع حسّ الدود في خلال العود، وتردد الأنفاس في الهبوط والصعود.
عز فليست تراه الظنون *** وجلَّ فلا يعتريه المَنون
تفرد في ملكه بالبقاء *** وكل الورى بالفناء ذاهبون
ويفعل في خلقه ما يشاء *** بغير اعتراض وهم يُسألون
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله. خاتم الرسل والأنبياء، وسيد النجباء والأولياء، المتصف بالصدق والوفاء. فاللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين, ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. حكوا أن رجلاً كان يجلس لطلابه في المسجد ويفتي لهم، ولما أراد الحج قال لابنه: اجلس مكاني كي تأخذ كرسي الفتوى، قال الابن: ولكن لا علم لدي كي أفتي الناس، فقال الوالد: الأمر بسيط, كل ما تُسأل عنه من الأمور عليك فقط أن تقول: في المسألة قولان لأهل العلم، ولا تكاد تخلو مسألة عند الفقهاء إلا فيها قولان.
وافق الابن وجلس للفُتيا، وكلما سأله سائل قال: في المسألة قولان؛ قول يقول بالجواز، وقول يقول بعدم الجواز.. وهكذا, فلما تنبَّه أحد طلاب العلم عن كثرة ما يقول غمز من بجانبه وقال له: اسأله أفي الله شك؟
فقام ذلك الرجل وسأل: يا شيخ أفي الله شك؟ قال المفتي: في المسألة قولان لأهل العلم. فضجَّ من في المسجد, واكتشفوا كذب المدعي, وأنزلوه من كرسي الفتيا.
أيها المسلمون.. الخلاف بين الناس أمر فطري, ووقوع الخلاف ما دام في حدود الشرع والأدب والذوق أمر طبيعي, بل ظاهرة صحية كما يقال.
ووقوع الخلاف في فهم النصوص الشرعية يتفرع عن هذا الأصل, بل هو واقع منذ عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لما انتهت معركة الخندق بهزيمة الأحزاب, ونَقَضَت بنو قريظة عهدها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وارتحل كفار قريش من موضعهم, نادى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في الصحابة: "أن لا يصليَنَّ أحدٌ الظهرَ إلا في بني قريظةَ", قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "فتخوَّفَ ناسٌ فوتَ الوقتِ. فصلوا دون بني قريظةَ. وقال آخرون: لا نصلي إلا حيثُ أمرنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وإن فاتنا الوقتُ. قال -رضي الله عنه-: فما عنَّف واحدًا من الفريقينِ".
اختلاف الأمة رحمة.. لا شك في ذلك.. مع التنبيه إلى أن حديث "اختلاف أمتي رحمة" حديث باطل لا أصل له, وإنما هو من كلام القاسم بن محمد بن أبي بكر -رضي الله عنهم- أجمعين وهو أحد التابعين.
الخلاف الفقهي واقع في أمة الإسلام كما تقدم, وهذا عائدٌ لأسبابٍ عديدة منها: اختلاف أفهام العلماء للنص الشرعي, أو عدم بلوغ النص الشرعي للعالم فيفتي بخلافه, أو تضعيف العالم للحديث فلا يعمل به أو غير ذلك, المهم أن الخلاف واقع لأسباب معتبرة.
أيها الإخوة.. استنباط الأحكام الشرعية ومعرفتها لا يكون لأي أحد, وإنما يمكن للمسلم معرفة الحكم الشرعي بإلمامه بأصول استنباط الأحكام من الأدلة, ومعرفته الناسخ من المنسوخ, ومدى صحة الحديث من عدمه, ونحو ذلك من علوم معينة وخادمة للفقه.
أما استنباط الحكم الشرعي من الدليل مباشرة ولكل من هبَّ ودبَّ، فهذا يوقع في الخطأ ولا شك.
فعلى سبيل المثال لو جاءنا رجل وقال: إن شرب الخمر حلال, والدليل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [المائدة: 43], فالمنهي عنه فقط صلاة الرجل وهو سكران, لو قال قائل بهذا القول.. فما رأيكم بذلك؟
لا شك أنه جاهل جهلاً مركبًا, فإن هذه الآية منسوخة إجماعًا بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90], وبالتالي فإنها مما بقيت تلاوتها ونسخ حكمها.
كثير من الناس اليوم وبالذات في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحوا يتكلمون في الأحكام الشرعية بلا خطام ولا زمام, وأصبحوا يتسابقون للفتيا والكلام على الله تعالى بغير علم, بزعمهم أن القرآن والسنة جاءت بلغة العرب ونحن عرب, وما علموا خطورة ذلك, وصعوبة استنباط الحكم الشرعي, وأنه توقيع عن رب العالمين بأن هذا هو حكمه في المسألة.
قال ابن القيم رحمه الله: " وقد حرَّم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها, فقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].
فانظر كيف قرن الله تعالى القول على الله بغير علم مع الشرك والفواحش.
نشاهد كثيرًا في المجالس تسرع الناس وتسابقهم لإبداء الرأي في حكم شرعي, بل إنك تجد أحياناً طالبَ علم يُسأل في مجلس عن مسألة شرعية فيتسابقُ الحاضرون للإجابة قبله, وأحسنهم حالاً الذي يقول: أنا لا أعرف الإجابة ولكن أظن كذا وكذا..
لقد كان العلماء مِن قبلنا.. وهم علماء.. يتدافعون الفتيا تدافعًا فابتلينا بأقوام يتسابقون على الفتوى دون أن يطلب منهم.
إن من الخطورة بمكان ما نشاهده في كثير من وسائل الإعلام من الحديث في المسائل الشرعية, من أناس لا تُعلم لهم سابقة من علم.. بل بعضهم من الفساق ورقيقي الديانة.. يجتمعون.. ويتناقشون في مسألة شرعية وكل يبدي وجهة نظره فيها.. بدعوى حرية الرأي وأن الدين ليس حصرًا على العلماء!
روى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تأتي على النَّاسِ سَنواتٌ خدَّاعاتٌ يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكَذَّبُ فيها الصَّادقُ، ويؤتَمنُ فيها الخائنُ ويخوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ الرُّوَيْبضة"، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ وما الرُّوَيْبضةُ؟ قالَ: "الرَّجلُ التَّافِهُ يتَكَلَّمُ في أمرِ العامَّةِ".
بل قد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك من أمارات الساعة, فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- كما عند البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله تعالى لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على النبي الأمين, أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. ينبغي للمسلم أن يحرص كل الحرص في السؤال عن دينه, فيستفتي من يثق في دينه وعلمه وأمانته, ولا يسأل المجاهيل أو الجهلة.
كما ينبغي الحرص أن يكون المفتي من نفس بيئة المستفتي, فهو أعلم بالظروف الملابسة للفتوى, وهو أعلم بأعراف المجتمع الذي يصلح له.
كما ينبغي للمسلم أن ينتبه من تتبع رخص العلماء, فيصبح باحثًا عند كل عالم عمَّا يوافق هواه, فمن تتبع الرخص زلَّ وضل..
عن سليمان التيمي -رحمه الله- قال: "لو أخذتَ برخصة كل عالِم اجتمع فيك الشرّ كله".
وعن إسماعيل بن إسحاق القاضي قال:" دخلتُ على المعتضد فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه, وكان قد جمُع له الرخص من زلل العلماء وما احتَجّ به كلٌ منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رُويت، ولكنَّ من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب".
أيها الإخوة.. يشكل على كثير من الناس الحديث الذي رواه المنذري وغيره وقال الألباني حسن لغيره عن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "جئتَ تسألُ عن البِرِّ والإثمِ؟" قال: نعم، فقال: "استَفْتِ قلبَك, البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ, وتردَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفْتاك الناسُ وأَفْتَوْك".
يظن بعض الناس أن الحكم الشرعي هو ما يطمئن إليه القلب من مسائل الحلال والحرام, وإن خالف قولَ المفتي, فإذا أفتاه مفتٍ بفتوى, خالفها بحجة استفتاء قلبه.
والصحيح أن العمل بهذا يكون في حالة أن يفتي المفتي لشخص بحلِّ مسألة ما, لكن المستفتي لا يطمئن لذلك ويرى أن من الورع اجتنابها, فهنا موضع العمل بهذا الحديث.
قال الغزالي رحمه الله: "واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حَرَّم فيجب الامتناع".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- : "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك".
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تُخَلِّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه" ا.هـ.
عباد الله.. دينكم رأس مالكم, فاسألوا عنه من تثقون به, واحرصوا على ذلك كحرص المريض على السؤال عن أفضل الأطباء.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير, والموت راحة لنا من كل شر.
اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله.. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي