الشقاق بين الزوجين: أسبابه وآثاره وعلاجه

عبد الله الواكد
عناصر الخطبة
  1. عناية الإسلام بالأسرة واهتمامه بها .
  2. الخلاف بين الزوجين أمر طبيعي .
  3. أسباب الخلاف بين الزوجين .
  4. آثار الخلاف بين الزوجين .
  5. وسائل معالجة الخلاف بين الزوجين .
  6. تذكير الأب بأولاده .

اقتباس

تنطمس نجوم الألفة، وتنكدر كواكب المودّة والرحمة، ويبدأ الشقاق يشقّ طريقه إلى حياة الزوجية، فتبدأ الآثار النفسيّة على حياة الزوجين، وتطفح المكنونات على السطح الأسري، فيعود سالب ذلك على الأسرة من الدّاخل، بل ويتعدّى الأمر إلى علاقة الزوجين بالأهل والأصدقاء، وتنقلب روح المودة والوئام إلى شقاق ونزاع وخصام، حتى...

الخطبة الأولى:

لقد حرص هذا الشرع المطهر على تماسك الأسرة المسلمة، واستئصال شأفة الشقاق والنزاع من كنف البيت المسلم، في ضوابط وأحكام شرعها الحكيم الخبير، نقف وإياكم اليوم على شقاق الزوجين: أسبابه وآثاره، وطرق علاجه.

أيها الأحبة المسلمون: طبيعي أن تكون الخلافات بين الزوجين، وما سلمت من ذلك بيوت الأنبياء والمرسلين.

مطالب الحياة، ومعترك النفوس في غاياتها، والتعثّر دون المقاصد، والتباين في الرغبات، وغياب الإيثار، وتضارب الأهواء، والتقصير في الواجبات، وهضم الحقوق الزوجيّة، كل أولئك طلائع زوابع وصفارات إنذار لحدوث عاصفة زوجيّة، تهبّ من ناحية المرأة، فيبدأ النشوز من قِبَلها، فتظهر الكراهية للزوج، وتعلن العصيانَ، وتجنح للتمرّد على القوامَة، فتنتهج أسلوبَ التنغيص والتكدير، تحت حمأة لا يهدأ لهيبها، قاصدةً بذلك استدرار غيظه وكراهيته، واجتذابه من طور الهدوء إلى حال المشاقة والمنابذة، فيبدأ بذلك النزاع، فيحيف الزوج عليها ببخس الحقوق، وغليظ القول، وقبيح الفعل، وسيء العشرة، وقوارع اللفظ، وقوارس الكلام، والضرب والشتم، حتى تنفر منه وتبغِضَه.

وهنالك -أيها الأحبة- تنطمس نجوم الألفة، وتنكدر كواكب المودّة والرحمة، ويبدأ الشقاق يشقّ طريقه إلى حياة الزوجية، فتبدأ الآثار النفسيّة على حياة الزوجين، وتطفح المكنونات على السطح الأسري، فيعود سالب ذلك على الأسرة من الدّاخل، بل ويتعدّى الأمر إلى علاقة الزوجين بالأهل والأصدقاء، وتنقلب روح المودة والوئام إلى شقاق ونزاع وخصام، حتى يصبح البيت، ومع تطاول الزمن قناةً لجلب المشكلات وموئلا لنشوء المعضلات، وهنالك يبحث كلا الزوجين إلى سبيل الخلاص من صاحبه، موضِّحا للآخرين كماله وسلامة موقفه، فيتعرّى البيت، وتنهتك أسرار الأسرة، وتنفتح خزائِنها واحدة تلوَ الأخرى، فيعمد كلا الزوجين إلى بعثرة حفائظ الأسرار، علَّه يظفر في ركامها بمثلب يعيب به صاحبه أو تقصير يرمي به شريك حياته، كل ذلك والملأ من حولهم ينظرون، ولك أن تتصور عظيمَ النتائج المزعجة في هذا المسلك المهلك، إلى أن يحتدم الأمر فيَعْلَقِمّ، فتنهتك الكرامه، وتنهدر الشهامة، وتهراق المودّة في بقاع النزاع.

ثم لا وربك، لا تقف آثار الشقاق عند هذه فحسب، بل تنال اللأواء أولادا أبرياء ليس لهم في ذلك داء ولا دواء، تتأزّم حالتهم النفسية، وتقشعر عواطفهم الحسية؛ إذ يشاهدون وما عساهم يشاهدون؟! بل يا لقسوة ما يشاهدون، خفقت قلوبهم، وانجرحت أحاسيسهم، وانكدرت أفئدتهم، يرون أعزّ من لديهم وأغلى من نظرت أعينهم، يرون من غرقوا بدمعها، ومن غاصوا في حنانها، يرون الأم والحضن والحنان في خصام مع من؟! مع أعز إنسان، يرون من وَضَع الريال في جيوبهم وزرع الأسوة في قلوبهم، يرون ذلك الطودَ العظيم، ذلك الجبل الأصمّ الأشمّ، يرون ذلك البيت الذي كان ملكا يترامون في آفاقه، يرون ذلك البناء الشامخ الذي رضعوا فيه، وانفطموا فيه، وذرعوه وباعوه، وظنّوا أن الأرض تنخسف وذلك البيت شامخ لا يتزعزع، يرونه يتصدّع أمام أعينهم، ويتأرجح عيانا، فلا يشكّون بسقوطه، يرونَ أباهم، يرون أمّهم، يختصمان، يتعالجان، فيغرقون في تطلّعات تمجّ في المستقبل دماء جروح داخلية، وتنظر في مقبِل الأيام نظرات أشبعت بعقد نفسيّة.

يغيب عن الزوجين في وطيس الشقاق أن لهم أبناء وبنات يراقبون بأسى وحسرة معركة أسرية، الرابح فيها خاسر ولو كان سبعا كاسرا، يصاب الأولاد بالتشنّج والانطواء، ينظرون لما حولهم نظرة تضجر وسخط، تتضارب مشاعرهم، وتضطرب عواطفهم، بين فرح وترح، وحيرة وغيرة، فلا يجدون متنفسا إلا بما شذ من القول والفعل، فتكون التأزّمات النفسية والاختلالات التربوية، ثم إذا كان الفصال صار هؤلاء الأولاد المساكين محطة نزاع ومادة خلاف بين أم تطالب بالحضانة وأب يطالب بالرعاية، ليغيض كل منهما الآخر، ويكويان بعضهما بأولادهما، ويطرفان أعينهما بأيديهما.

ثم إذا اتسعت دائرة الخلاف بين الزوجين وتجاوزت حدود البيت والأولاد وصعدت المشكلة إلى خارج الأسوار، وخرجت من البيت والدار، فلا تسل بعد ذلك عنها، إذ لا يخفى أمرها على أحد، فتقع في أيدي المحتسبين من الأهل والأقارب والجيران المشفقين، هذا يتقدم بالنصيحه، وذاك يسعى بالصلح، وذلك يبذل المال سعيا وراء تقويم مسار الحياة الزوجية، ودرءِ مصابها، ورتق فتقها، وقلَّمَا تفلح الجهود إذا تفاقمت المشكلة، فتتسع دائرة الخلاف، حتى يهوي في خضَمّها عائلتا الزوجين، فتبدأ القطيعة، وتتعمّق جذور الخصام، ويصعب الحلّ مع هذا التمدّد، وتنعدم جدوى الصلح مع تبعثر المشكلة، وتزايد أطرافها وأفرادها، ثم تستمر في أطوارها النهائية، حتى تصل إلى المحاكم والقضاء، وبعد ذلك تتعثر الخطى في الرجوع إلى الوراء، فتصبح الأسرة كجنّة أصابها إعصار فيه نار فاحترقت.

أيها الأحبة المسلمون: لننظر كيف جاء الشرع بحلّ هذه المشكلات، وكيف أرشدنا ربنا إلى معالجة ذلك الشقاق والنشوز، فهناك إجراءات مرتبة ومدرَّجة نصّ عليها الرب -سبحانه وتعالى-: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) [النساء: 34].

أتدرون -أيها الأحبة- أن معدل حالات الطلاق في المملكة بلغ ثلاثين حالة طلاق في اليوم؟! كل ذلك سببه عدم الانضباط بمنهج الشرع، وعدم التدرج في معالجة الأمور.

إن خطوات معالجة النشوز ينبغي أن تكون مرتّبة حسب ما أمرنا بذلك ربّ العالمين، فأولها: الموعظة: (فَعِظُوهُنَّ)[النساء: 34] وهي أول خطوة لكسر النشوز ونبذِه، وطرح جموح المرأة، والوعظ فنّ يحتاج إلى صاحب عقل وحكمة، ويختلف باختلاف حال المرأة، فمن النساء من يؤثر فيها التخويف بالله، والترغيب في ثوابه، ومنهن من يؤثر فيها تذكيرها بسوء العاقبه، وشماتة الأعداء، وبقائها بدون زوج، ومنهن من يؤثّر فيها التهديد بمنعها من الرغائب الدنيويه كالثياب والزينة، فالزوج اللبيب هو الذي يختار الموعظة التي تتناسب وحالة زوجته، موضِّحا لها المحاسن والعواقب، حتى تتنازل عن كبريائها ونشوزها.

فإن لم يجد إلى ذلك سبيلا عمد إلى الطريقة التي تليها، وهي: الهجر، قال تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [النساء: 34] والمضاجع هي المراقد، فينبغي للزوج في هذه المرحلة أن يولّيها ظهره في المنام، وأن لا يجامعها، فالهجر حركة استعلاء من الرجل على المرأة، يبين لها فيه أنه غنيّ عن إغرائها، وليس محبوسا على ما عندها، والهجر إيماءة على أن منزلتها عنده بدأت تهتزّ، وقيمتها آيلة للسقوط، فالهجر مناورَة نفسيّة تجعل المرأة وهي في الفراش تتظاهر بالنّوم، وتبدو وكأن الأمر لم يؤثّر فيها، وهي في الحقيقة في حساب دقيق مع نفسِها، على أن يكونَ الهجر في البيت وفي الغرفة لقوله: "لا تهجروا إلا في البيت" ذلك لأن بعض الأزواج -هداهم الله- إذا صار بينه وبين زوجته شقاق ظن أنّ الهجر أن ينام في البر أو في الاستراحة أو في المجلس، وهذا كلّه سوء فهم لمقاصد الشريعة، ويجب أن لا يشعر أحدٌ بذلك من الأولاد والغرباء، لكي لا تشعر الزوجة بالثورَة لكرامتها، فتزداد بذلك نشوزا ومشاقّة؛ إذ المقصود من الهجر هو الإصلاح وليس الإفساد، وله أن يهجر زوجته بالكلام إذا رأى في ذلك مصلحة، شريطة أن لا يزيد ذلك على ثلاثة أيام لعموم النهي عن ذلك.

ثم إذا لم ير جدوى من الهجر يعمد إلى المرحلة التي تليها، وهي: الضرب؛ لقوله تعالى: (وَاضْرِبُوهُنَّ) [النساء: 34] على أن يمارس الضغوط التي هي دون الضرب، فمتى ما قام الإيهام مقامَ الفعل عدل إلى الإيهام بدل الفعل للقاعدة الشرعية، ولما يسببه الضرب من النفرة وإفساد حسن المعاشرة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ضرب النساء، فقال: "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، ذئرت النساء على أزواجهن، فرخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ضربهن".

والضرب له شروط: أن يكون ضربا غير مبرح، فهو ضرب تأديب وليس تعذيبا، ولا يضرب الوجه لعموم النهي عن ذلك، وأن يكون عشَرة أسواط فأقلّ؛ لقوله: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله".

هكذا -أيها الأحبة- علمنا شرعنا كيف تحسم الخلافات الزوجية، فسلوا من تفرّقوا، وسلوا من تطلقوا، وسلوا من غرّبوا وشرّقوا، حينما احتدم الخلاف بينهم: هل عبروا هذه القنوات الربانية والتعاليم القرآنية لحلّ مشكلاتهم؟ هل طبقوا هذه الخطوات حسب ترتيبها؟ فلا ضرب قبل الهجر، ولا هجر قبل الوعظ، بل إن الشقاق والفراق والطلاق جاء نتائج زوبعة اختلط حابلها بنابلها، وتشنج أعصابها ببذيء ألفاظها؛ حتى كان الطلاق والانفصال وتشتّت البنات والعيال.

اللهم إنا نسألك جمع الشمل ولمّ الشعث.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وتاب عليّ وعليكم، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

كم من الأبناء والبنات والفتيان والفتيات؟ كم من فلذة كبد يتقطع ألما وحسرة، ويتجرع مرارة الحياة، في التنقل بين أمه وأبيه، لا يدري أي بيت هو بيته، وأي كنف هو كنفه، بسبب انفصال الأبوين عن بعضهما؟

أيها الأب الفاضل، يا من فرقت بينك وبين زوجتك نزوة سابحة وثورة جامحة: أما آن لك أن تكسر حواجز الشموخ والكبرياء؟! فإن الشيطان دلَّا أبويك بغرور، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.

إن لك أطفالا وزوجة ينتظرونك على أحرّ من الجمر، لو أن صاحب سيارة تعطّلت سيارته في الطريق وعليها أغراضه ومتاعه، ثم ساح في الأرض وتركها ولم يعد إليها ويصلحها، ماذا تقول عنه أنت؟ ألست تتهم عقله؟! فكيف بك أنت تترك عائلتك وأطفالك، ولم تحاول أن تصلح ما فسد وترتق ما انفتق؟!

أيها الأب الكريم: عد إلى عقلك، وثب إلى رشدك -وفّقك الله وهداك-، واعلم أن المسلم هيّن ليّن، وتنازلك عن حقوقك الشخصية في سبيل قلوب تتفطّر وأفئدة تتقطّع في سبيل أولادك لهو غاية الفخر ومنتهى التضحية، لا يقف الشيطان بينك وبين الإصلاح، فهو خير النجوى، قال ربكم -سبحانه وتعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114]، فإن من فعل ذلك فهو كمن يجبر الكسور، ويضمد الجروح، فهو يسعى في جروح جسد الأمة حتى تلتئم.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي