إنَّ المتأملَ لشريعةِ اللهِ ومقاصدِها والحكمةِ منها ليرى العجبَ العجابَ في بديعِ هذا التشريعِ العظيمِ كُلَّما يمَّمْتَ ناحيةً أبهرتْكَ هذه الشريعةُ الطاهرة بجمالِها وكمالِها، فالحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ. وقدْ رأيتُم الجانبَ الاجتماعيَّ في هذهِ الشعيرةِ العظيمةِ الصلاةِ، وفي...
الخطبةُ الأُولى:
الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ وصورَهُ، ثم السبيلَ يسَّرَهُ، ثم أماتَهُ فأقبرَهُ، ثم إذا شاءَ أنشرَهُ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.
أما بعدُ:
أيُّها المسلمونَ: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ القائلِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عبادَ اللهِ: لقدْ شرعَ اللهُ هذا الدينَ العظيمَ، وكتبَ على المسلمينَ فريضةَ الصلاةِ خمسَ مراتٍ في اليومِ والليلةِ فهي الركنُ الثاني منْ أركانِ الإسلامِ، فرضَهاَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- وعلَّمَهَا نبيَّهُ منْ فوقِ سبعِ سماواتٍ، وأمرَ سبحانَهُ وتعالى أنْ تُؤدَّى في أوقاتِها جماعةً في المساجدِ، قالَ تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء: 103].
فالجماعةُ مدرسةٌ إيمانيةٌ تربويةٌ اجتماعيةٌ تكمِّلُ رسالةَ البيتِ والأسرةِ التربويةِ، فمِنْ خلالِ أدائِها جماعةً في المسجدِ ترتبطُ حياةُ المسلمِ بإخوانِهِ المسلمينَ، وتبرزُ معاني الأخوةِ في الدينِ، يسلِّمُ الناسُ بعضُهم على بعضٍ، ويتفقدُ بعضُهم بعضاً، الغائبُ يُسألُ عنهُ، والمريضُ يُعادُ، والضعيفُ يُسنَدُ، والمحتاجُ يُعانُ، فتقوى أواصرُ المحبةِ والمودةِ بينَ جماعةِ المسلمينَ.
واللهِ -أيُّها المسلمونَ- إنَّ المتأملَ لشريعةِ اللهِ ومقاصدِها والحكمةِ منها ليرى العجبَ العجابَ في بديعِ هذا التشريعِ العظيمِ كُلَّما يمَّمْتَ ناحيةً أبهرتْكَ هذه الشريعةُ الطاهرة بجمالِها وكمالِها، فالحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ.
أيها الناسُ: قدْ رأيتُم الجانبَ الاجتماعيَّ في هذهِ الشعيرةِ العظيمةِ الصلاةِ، وفي خُطبةِ هذا اليومِ -أيها الإخوةُ- نُلقي الضوءَ على الجانبِ التعبديِّ والأسريِّ والتربويِّ داخلَ البيوتِ، وفي كَنفِ المنازلِ، بعيداً عن أعينِ الناسِ، وبينَ الأبناءِ والبناتِ، والصغارِ والكبارِ؛ إنها صلاةُ النوافلِ التي عزَّتْ في بعضِ البيوتِ إلا من رحمَ ذو الجلالِ والجبروتِ.
يحرصُ بعضُ الناسِ كلَّ الحرصِ على أنْ يصليَ جميعَ النوافلِ في المسجدِ، فلا يكونُ لبيتِهِ منها نصيبٌ، ولو تتبعتَ السنةَ المطهرةَ، وسيرةَ الصحابةِ والتابعينَ -رضيَ اللهُ عنهُم- وكلامَ أهلِ العلمِ لوجدْتَ من الأحاديثِ والآثارِ والرواياتِ التي تُرغِّبُ وتندُبُ أن تكونَ صلاةُ النوافلِ في البيوتِ، قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّ النوافلَ شُرعتْ للتقربِ إلى اللهِ، فينبغي أنْ تكونَ بعيدةً عن الرياءِ، وأما الفرائضُ فشُرعتْ لإشادةِ الدينِ، وإظهارِ شعائرِ الإسلامِ، فهي واجبةٌ بأنْ تُؤدَّى جماعةً في المساجدِ.
ولقدْ حرصَ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ومِنْ بعدِهِ من سلفُ هذهِ الأمةِ على صلاةِ النوافلِ في البيوتِ، ولو كانَ أحدُهُم يُقيمُ بجانبِ مسجدِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- الذي تعدلُ الصلاةُ فيهِ ألفَ صلاةٍ فيما سواهُ، أو بجانبِ المسجدِ الحرامِ الذي تعدلُ الصلاةُ فيهِ مائةَ ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ، فصلاةُ النوافلِ في البيوتِ أفضلُ من صلاتِها في المساجدِ، فعنْ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُما- عنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قالَ: "اجعلوا في بيوتِكُم من صلاتِكُم، ولا تتخذُوها قبوراً" [رواهُ البخاريُّ ومسلمُ].
قالَ الإمامُ النوويُّ -رحمهُ اللهُ- في المنهاجِ: "معناهُ: صلُّوا فيها، ولا تجعلوها كالقبورِ مهجورةً من الصلاةِ، والمرادُ بهِ: صلاةُ النافلةِ، أيْ: صلُّوا النوافلَ في بيوتِكُم".
وعنْ زيدِ بنِ ثابتٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- اتخذَ حُجرةً قالَ: حسِبْتُ أنهُ قالَ: منْ حصيرٍ، في رمضانَ فصلَّى فيها لياليَ، فصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ مِنْ أصحابِهِ، فلمَّا عَلِمَ بهِم جعلَ يقعُدُ، فخرجَ إليهِم، فقالَ: "قدْ عرفْتُ الذي رأيتُ من صنيعِكُم، فصلُّوا أيها الناسُ في بُيوتِكُم، فإنَّ أفضلَ الصلاةِ صلاةُ المرءِ في بيتِهِ إلا المكتوبةُ" [رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ].
قال الحافظُ ابنُ حجرَ -رحمهُ اللهُ- في فتحِ الباري: "ظاهرهُ أنهُ يشملُ جميعَ النوافلِ؛ لأنَّ المرادَ بالمكتوبةِ المفروضةُ، لكنَّهُ محمولٌ على ما لا يُشرعُ فيهِ التجميعُ، وكذا ما لا يَخُصُّ المسجدَ كركعتي التحيةِ، كذا قالَ بعضُ أئمتِنا".
أقولُ: والذي يُشرعُ فيهِ التجميعُ منَ النوافلِ هي ذواتُ الأسبابِ وغيرُها كقيامِ الليلِ والتراويحِ في رمضانَ، وصلاةِ الاستسقاءِ، وصلاةِ العيدينِ، وصلاةِ الكسوفينِ، وركعتيِ الطوافِ، وتحيةِ المسجدِ، وركعتيِ السفرِ والقدومِ منهُ، كلُّ هذهِ وما شابَههَا لا تندرجُ تحتَ نوافلِ البيوتِ، وكذلكَ مَن كانَ مُعتكِفاً أو خافَ فواتَ السنةِ الراتبةِ.
وعنْ عبدِ اللهِ بنِ شقيقٍ قالَ: سألتُ عائشةَ -رضيَ اللهُ عنهاَ- عن صلاةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عنْ تطوُّعِهِ، فقالتْ: "كانَ يُصلي في بيتي قبلَ الظُّهرِ أربعاً، ثم يخرجُ فيصلي بالناسِ، ثم يدخلُ فيصلي ركعتينِ، وكانَ يُصلي بالناسِ المغربَ، ثم يدخلُ فيصلي ركعتينِ، ويصلي بالناسِ العشاءَ، ويدخلُ بيتي فيُصلي ركعتينِ، وكان يُصلي منَ الليلِ تسعَ ركعاتٍ فيهِنَّ الوترَ، وكان يُصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكانَ إذا قرأَ وهو قائمٌ ركعَ وسجدَ وهو قائمٌ، وإذا قرأ قاعداً ركعَ وسجدَ وهو قاعدٌ، وكانَ إذا طلعَ الفجرُ صلىَّ ركعتينِ" [رواهُ مسلمٌ].
قال الإمامُ النوويُّ -رحمهُ اللهُ- في المنهاجِ: "فيه استحبابُ النوافلِ الراتبةِ في البيتِ كما يُستحبُّ فيهِ غيرُها، ولا خلافَ في هذا عندَنا، وبهِ قالَ الجمهورُ، وسواءً عندناَ وعندهُمْ راتبةُ فرائضِ النهارِ والليلِ".
وعن جابرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إذا قضى أحدُكُم الصلاةَ في مسجدِهِ فليجعلْ لبيتِهِ نصيباً من صلاتِهِ، فإنَّ اللهَ جاعلُ في بيتِهِ من صلاتِهِ خيراً" [رواهُ مسلمٌ].
قال الإمامُ المناويُّ -رحمهُ اللهُ- في فيضِ القديرِ: "إذا قضى أحدُكُم الصلاةَ في مسجدِه" يعني أدَّى الفرضَ في محلِّ الجماعةِ، وخصَّ المسجدَ لأنَّ الغالبَ إقامتُها فيهِ "فليجْعلْ لبيتِهِ" أي محلُّ سكنِهِ "نصيباً" أيقِسماً "من صلاتِهِ" أي فليجعلْ الفرضَ في المسجدِ، والنفلَ في بيتهِ، لتعودَ بركتُهُ على البيتِ وأهلهِ، كما قالَ: "فإنَّ اللهَ جاعلٌ في بيتِهِ من صلاتِه" أي من أجلِها وبسببِها، "خيراً" أي كثيراً عظيماً لعمارةِ البيتِ بذكرِ اللهِ وطاعتِهِ، وحضورِ الملائكةِ واستبشارِهِم، وما يحصُلُ لأهلهِ منْ ثوابٍ وبركةٍ، وفيهِ: أنَّ النفلَ في البيتِ أفضلُ منهُ في المسجدِ ولو بالمسجدِ الحرامِ".
والأدلةُ على ذلكَ أكثرُ من هذا، فصلاتُهُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ الرواتبُ، وقيامُ الليلِ، والضحى، كلُّ ذلكَ كانَ في بيتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، وقدْ ذكرَ بعضُ العلماءِ لصلاةِ النافلةِ في البيتِ حِكَماً، فقالَ ابنُ قدامةَ -رحمهُ اللهُ- في المُغني: "والتطوُّعُ في البيتِ أفضلُ؛ لأنَّ الصلاةَ في البيتِ أقربُ إلى الإخلاصِ، وأبعدُ من الرياءِ، وهو مِنْ عملِ السِّرِّ، وفعلُهُ في المسجدِ علانيةً، والسرُّ أفضلُ".
وليسَ معنى هذا أنَّ صلاةَ النافلةِ في المسجدِ غيرُ مقبولةٍ، وإنما المقصودُ التعوُّدُ على أدائِهِا في البيتِ لأنُّهُ أفضلُ كما ذُكرَ، وقدْ قال القاسمُ بنُ محمدٍ: "إنُّ صلاةَ النافلةِ تفضلُ في السرِّ على العلانيةِ، كفضلِ الفريضةِ في الجماعةِ".
نسألُ اللهُ بمنِّهِ وكرمِهِ أنْ يوفقَنا لما يُرضيهِ، ويجعلَ أعمالَنا خالصةً لوجههٍ الكريمٍ، وأنْ يفقهَنا وإياكُمُ في دينِهِ، وأنْ يعلمَناَ ما جهلْنا, وأن ينفعَنا بما علمْنا إنه سميعٌ مجيبٌ.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ للهِ الذي لا إلهَ إلا هوُ وحدهُ لا شريكُ له, له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، أشهدُ أنه اللهُ الحيُّ القيومُ ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أن محمدا عبدُهُ ورسولُه صلى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيُّها الأحبةُ المسلمونَ: قدْ تبيَّنَ لنا منْ تلكَ المقتطفاتِ الغراءِ منْ حديثِ المصطفى -صلىَّ اللهُ عليهِ وسلمَ- وكلامِ أهلِ العلمِ -رحمَهُمُ اللهُ- أنَّ الأصلَ في صلاةِ النوافلِ هوَ أنْ تؤدَّى في البيتِ أنْ تؤدِّيهاَ في بيتِكَ وبينَ أبنائِكَ وبناتِكَ، وإخوانِكَ وأخواتِكَ، بينَ أفرادِ أسرتِكَ، يتربَّى على الاقتداءِ بكَ صغارُ السِّنِّ منَ البناتِ والبنينَ، فهذهِ النوافلُ مدرسةٌ أسريةٌ يتربَّى عليها الصغارُ، وتنشأُ في أحضانِها الأجيالُ، فكُنْ -باركَ اللهُ فيكَ- منَ الأولياءِ الذينَ يغرسونَ هذا الخيرَ العظيمَ في نفوسِ أبنائِهِم وبناتِهِم.
أرأيتُمْ عظمةَ هذا الدينِ وكمالَ هذهِ الشريعةِ لا تأتي جانباً منْ جوانِبِها إلاَّ وحكمةُ اللهِ تتجلَّى، إلاّ ورحمةُ اللهِ بخلقِهِ وشفقتُهُ تحيطُ بهِم منْ كلِّ جانبٍ.
لا بُدَّ أنْ يتأثرَ البيتُ بوليِّهِ الصالحِ الذي يتأسَّى بالأُسوةِ، ويقتدي بالقدوةِ.
قدِّمْ لنفسِكَ شيئاً منْ هذهِ النوافلِ بينَ يديِ اللهِ إذا انهزعَ الليلُ وقَرُبَ الفجرُ، فليكنْ لكَ مع خالقِكَ دعاءٌ وخضوعٌ ورجاءٌ وخشوعٌ، وانكسارٌ ودموعٌ، فعمَّا قريبٍ سيكونُ الرحيلُ بلا رجوعٍ.
فاللهُ -عزَّ وجلَّ- ملكُ الملوكِ ينزلُ في الثلثِ الأخيرِ من الليلِ، يقولُ: "هل من سائلٍ فأعطيَهُ؟ هل من مستغفرٍ فأغفرُ لهُ؟" فكنْ من السائلينَ المستغفرينَ.
نسألُ اللهَ أنْ يجعلنَا وإياكُم في الدنيا من أهلِ الأسحارِ، وفي الآخرةِ من الأبرارِ، وأنْ يحشرَناَ وإياكم وآباءَنا وأمهاتِنا في زُمرةِ سيدِ الخلقِ.
صلوا وسلموا على المصطفى المختارِ محمدِ بنِ عبدِاللهِ سيدِ الأشرافِ والأطهارِ، صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي