العدل والظلم

عبد الله الواكد
عناصر الخطبة
  1. أجمع آية تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم .
  2. منزلة العدل ومكانته .
  3. مجالات العدل .
  4. مفاسد انعدام العدل .
  5. الحث على الإحسان ومراتبه .
  6. النهي عن البغي والظلم .

اقتباس

العدلُ هو أساسُ الحياةِ المتزنةِ السعيدةِ، هو العمرانُ، وهو الاستقرارُ، هو أساسُ التنميةِ، وأساسُ الحُكمِ الآمنِ، والأمنُ الدائمِ، فبدونِ العدلِ لنْ تستقرَّ الحياةُ، ولنْ يدومَ رغدُ العيشِ، ولنْ تصفوَا القلوبُ، ولنْ تصلَ الحقوقُ إلى أصحابِها، ولنْ تصلحَ الذريةُ، ولنْ تكتنفَ المودةُ والرحمةُ بيوتَ المسلمينَ، وكيفَ ...

الخطبةُ الأولى:

أيُّها المسلمونَ: قالَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90] هذهِ الآيةُ الكريمةُ، وهذهِ الأوامرُ العظيمةُ التي أمرَناَ اللهُ وأوصانا بها، والتي يختِمُ بها الخطباءُ عادةً خُطَبَهُم في مثلِ هذا اليومِ المباركِ، وهذا الجمعِ المباركِ لا تجدُ ولنْ تجدَ في أيِّ زمانٍ ومكانٍ، شريعةً ولا فكراً ولا منهجاً، ولا قانوناً ولا مبدءاً، يحثُّ على العدلِ والقسطِ، ويحذرُ من البغيِ والظلمِ، مثلَ كتابِ اللهِ القرآنِ، وسنةِ محمدٍ -صلى اللهُ عليهِ وسلمِ-، ودينِ الإسلامِ.

أيُّها المؤمنونَ: حينماَ نقرأُ كتابَ اللهِ، ونسترسلُ في بحرِ تعاليمِهِ وتوجيهاتِهِ، وإعجازِ آياتِهِ وبيناتِهِ، وحينما نغوصُ في محيطاتِ السنةِ النبويةِ، وسيرةِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وخلفائِهِ الراشدينَ -رضيَ اللهُ عنهُمْ وأرضاهُمْ- نجدُ أنَّهُ لا يوجدُ شيءٌ عندَ اللهِ أعظمُ منَ العدلِ والقسطِ والإحسانِ إطلاقاً.

أيها المسلمونَ: فأعظمُ شيءٍ هو التوحيدُ، وعبادةُ اللهِ -سبحانَهُ وتعالى- كلُّها قائمةٌ على العدلِ، والشركُ والكفرُ قائمٌ على الظلمِ، بلْ هوَ الظلمُ بعينِهِ، بلْ هوَ رأسُ الظلمِ، قالَ اللهُ -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] وأعظمُ عدلٍ بعدَ توحيدِ اللهِ وعبادتِهِ هو شكرُ المُنعمِ -سبحانَهُ- قولاً وعملاً على ما نحنُ فيهِ منْ نعمةِ الدينِ، ونعمةِ الأمنِ، ورغدِ العيشِ والصحةِ والعافيةِ.

فتأملْ نفسَكَ -أيُّها المسلمُ- تجدْها غارقةً في بحارٍ منَ النعمِ، فاللهمَّ لكَ الحمدُ والشكرُ والثناءُ، وما منْ شيءٍ في ملكوتِ اللهِ -سبحانَهُ وتعالى- إلاَّ وهوَ قائمٌ على القسطِ والعدلِ، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18] السمواتُ والأرضُ، والناسُ والشجرُ والدوابُ، والبحارُ والأنهارُ، والحسابُ والجنةُ والنارُ، كلُّها قائمةٌ على العدلِ والقسطِ، قالَ تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

فالعدلُ -أيُّها المسلمونَ- هو أساسُ الحياةِ المتزنةِ السعيدةِ هو العمرانُ، وهو الاستقرارُ، هو أساسُ التنميةِ، وأساسُ الحُكمِ الآمنِ، والأمنُ الدائمِ، فبدونِ العدلِ لنْ تستقرَّ الحياةُ، ولنْ يدومَ رغدُ العيشِ، ولنْ تصفوَا القلوبُ، ولنْ تصلَ الحقوقُ إلى أصحابِها، ولنْ تصلحَ الذريةُ، ولنْ تكتنفَ المودةُ والرحمةُ بيوتَ المسلمينَ، وكيفَ لا يكونُ العدلُ هو أساسُ كلِّ شيءٍ، واللهُ أمرَناَ بهِ في مواضعَ كثيرةٍ في كتابِهِ؟ والعدلُ ينبغي أنْ يكونَ سجيةً للمسلمِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، في قولِهِ وفي فعلِهِ وفي كتاباتِهِ، وفي حُكمِهِ على الآخرينَ، فالعدلُ لا يمكنُ أنْ ينحرفَ بصاحبِهِ، فيخرجُ بهِ عنْ سواءِ السبيلِ، لذلكَ فاللهُ -سبحانهُ وتعالى- جعلَناَ أمةً وسطاً، وأمرَنا بالوسطيةِ، فقالَ سبحانهُ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 161] فكلُّ الآيةِ عدلٌ وقسطٌ وإنصافٌ.

أيها المسلمونَ: إنَّ العدلَ مطلوبٌ منَ الناسِ جميعاً منَ الحاكمِ معَ رعيتِهِ، ومنَ الرعيةِ معَ وليِّها، ومنَ المديرِ مع موظفيهِ، ومنَ الرئيسِ معَ مرؤوسيهِ، ومنَ المعلِّمِ مع طلابهِ، ومنَ الزوجِ معَ زوجاتِهِ، ومنَ الأبِ والأمِّ معَ الأولادِ، ومنَ المسلمِ معَ أهلِ بيتِهِ وجيرانِهِ وقرابتِهِ، ومعَ مَنْ حولَهُ منَ المسلمينَ، والعدلُ كذلكَ مطلوبُ حتى مِنَ الإنسانِ معَ نفسِهِ، فاللهُ أمرَ بالعدلِ مُطلقاً، ولم يقيدْهُ بشيءٍ، لا بحاكمٍ ولا محكومٍ، إنَّما أمرَ اللهُ بهِ الناسَ جميعاً كلٌّ حسبَ منصبِهِ ومكانتِهِ.

وانعدامُ العدلِ -أيُّها المسلمونَ- يوغرُ الصدورَ، ويسببُ المشاكلَ، جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- يُشْهِدُهُ على أنَّهُ أعطى أحدَ أبنائِهِ، فقالَ لهُ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "أَكُلُّ أولادِكَ أعطيتَهُم مثلَ ابنِكَ هذا؟" فقالَ الرجلُ: لا، فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "أتُشْهِدُنِي على مُنكَرٍ؟!" وما الذي جعلَ إخوةَ يوسُفَ -عليهِ السلامُ- ينتقمونَ مِنْ أخيهِمْ يوسُفَ بإلقائِهِ في غيَابَتِ الجُبِّ، إلاَّ لمَّا رأو مِنْ عظيمِ ميلِ أبيهِم إليهِ؟

فإياكَ -أيُّها المسلمُ- أنْ تعدِلَ عَنْ العدلِ، وأنْ تميلَ عن القسطِ، كُنْ عادِلاً في كلِّ شيءٍ، ولو جَهَدَكَ هذا الأمرُ، قالَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل: 90] فلم يكتفِ اللهُ بالعدلِ بلْ أمرَ سُبحانَهُ بما هو أعلى منهُ مرتبةً، أمرَناَ أنْ نتجاوزَ العدلَ الى الإحسانِ في كلِّ شيءٍ، في العباداتِ والواجباتِ، فإذا حيَّانا أحدٌ بتحيةٍ مثلاً، أمرَناَ اللهُ أنْ نحيِّيَ بأحسنَ منهاَ أو نرُدُّهاَ كماَ هيَ، فلو قيلَ لكَ: السلامُ عليكُمْ، وقلتَ: وعليكُمُ السلامُ فقدْ عدلْتَ، وإنْ زِدْتَ وقلتَ: ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، فقدْ أحسنتَ.

فالإحسانُ درجاتٌ زائدةٌ عن العدلِ كلما زادَ إحسانُكَ زادَتْ درجاتُكَ، ولذلكَ فالإسلامُ خمسةُ أركانٍ، والإيمانُ ستةُ أركانٍ، وأماَّ الإحسانُ فهو ركنٌ واحدٌ؛ لأنَّهُ قمةُ الهرمِ، ولا يمكنُ أنْ يتجزأَ، فالإحسانُ "أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، فإنْ لم تكُنْ تراهُ فإنهُ يراكَ" فمَنْ مِناَّ بلغَ هذهِ المرتبةَ العظيمةَ، فالإحسانُ -يا عبادَ اللهِ-: هو منتهى الإيمانِ وغايةُ التصديقِ، فلا إحسانَ قبلَ تحققِ العدلِ، ثم قالَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90] وإيتاءُ ذي القربى قُرِنَتْ بالعدلِ والإحسانِ لعظيمِ شأنِها، وهي إعطاءُ ذوي القرابةِ حقوقَهم، صلتَهم وبرَّهم، والسؤالَعنهم، وتفقدَهم وزيارتَهم.

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

الخطبة الثانية:

أيها المسلمونَ: ثمَّ قالَ تعالى: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل: 90] ينهى اللهُ عنِ الزنا وغيرِه منَ الفواحشِ لما في ذلكَ من الظلمِ والتعدي على حدودِ اللهِ ومحارمِهِ، وينهى سبحانَهُ عن البغيِ، والبغيُ هو الظلمُ.

وكما أنَّ العدلَ يؤدِّي إلى استقرارِ الحياةِ ورغدِها، وإلى الأمنِ وصفاءِ القلوبِ، فالظلمُ يؤدِّي إلى خلافِ ذلكَ، فلا يدومُ صاحبُهُ، ولا تصلُحُ أرضُهُ، ولا يصفو عيشُهُ.

والمظلومُ لهُ دعوةٌ مستجابةٌ، وقدْ قالَ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- في الحديثِ القدسيِّ: قال اللهُ -تعالى-: "يا عبادي إني حرمتُ الظلمَ على نفسِي وجعلتُهُ بينَكُمْ محرَّماً فلا تظالَموا".

والمكانُ الذي يكثرُ فيه الظلمُ -والعياذُ باللهِ- يضيقُ أهلُهُ منهُ، ويكرهونَهُ، ويبحثونَ عن غيرِهِ، قالَ تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) [النساء: 75] نعوذُ باللهِ من الظلمِ والتظالمِ.

صلوا وسلموا على سيدِ العدلِ والإنصافِ محمدِ بنِ عبدِ الله كما أمركم ربُّكم بذلكَ، فقالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي