صلاة الجماعة (7) الأمر بتسوية الصفوف

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. لصلاة الجماعة منافع عدة على الفرد والمجتمع .
  2. صفوف المصلين في المساجد كصفوف الملائكة في الملأ الأعلى .
  3. كثرت أوامر النبي –صلى الله عليه وسلم- بتسوية الصفوف وإقامتها وتراصها .
  4. التراص في الصف وتسويته من أسباب الخشوع .
  5. كان الصحابة -رضي الله عنهم- أعلم الناس بأهمية تسوية الصفوف .

اقتباس

لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَنَافِعُ عِدَّةٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْمَسَاجِدِ هُمْ زُوَّارُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَرِيمُ سُبْحَانَهُ يُكْرِمُهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِكَرَمِهِ وَغِنَاهُ.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ رَحِمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكِتَابِ أَبْيَنَهُ، وَشَرَعَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ أَحْسَنَهُ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ أَعْدَلَهُ وَأَحْكَمَهُ (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الْمَائِدَةِ: 50]، نَحْمَدُهُ عَلَى سَابِغِ نِعَمِهِ وَوَابِلِ فَضْلِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيلِ هِبَاتِهِ وَعَطَايَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ هَدَى عِبَادَهُ لِمَا يُصْلِحُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَوَفَّقَهُمْ لِمَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ، وِعَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا هُمْ وَلَا آبَاؤُهُمْ (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 239]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَنْصَحُ النَّاسِ لِلنَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ؛ فَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَتَعَلَّمُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ؛ فَلَا نَجَاةَ لَكُمْ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الْحَشْرِ: 7].

أَيُّهَا النَّاسُ: لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَنَافِعُ عِدَّةٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْمَسَاجِدِ هُمْ زُوَّارُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَرِيمُ سُبْحَانَهُ يُكْرِمُهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِكَرَمِهِ وَغِنَاهُ. وَمِنْ عَجِيبِ مَا شُرِعَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَتَرَاصُّهَا، فَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَشَدَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا، وَسَارَ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْعِنَايَةِ بِهَا وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا صَحَابَتُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-.

رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "...أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

مَا أَعْظَمَهُ مِنْ مَقَامٍ، وَمَا أَجَلَّهُ مِنْ وَصْفٍ... صُفُوفُ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَسَاجِدِ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى. وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُنَاجَاتُهُ.

صُفُوفٌ فِي الْأَرْضِ وَصُفُوفٌ فِي السَّمَاءِ تَجْمَعُهَا الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ -تَعَالَى- وَمَحَبَّتُهُ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ وَمُنَاجَاتُهُ. فَهَلْ فِي الدُّنْيَا صُفُوفٌ كَصُفُوفِ الْمُصَلِّينَ فِي وِجْهَتِهَا وَهَيْبَتِهَا وَوَقَارِهَا وَخُشُوعِهَا؟!

فِي الدُّنْيَا يَصْطَفُّ الْعَسَاكِرُ أَمَامَ ضُبَّاطِهِمْ فِي سُكُونٍ وَانْتِظَامٍ، فَاسْتِعْدَادُهُمْ وَاحِدٌ، وَاسْتِرَاحَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَحَرَكَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَخُطُوَاتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَفِي الْعُرُوضِ الْعَسْكَرِيَّةِ عَجَائِبُ مِنَ الِانْضِبَاطِ وَالْإِتْقَانِ.

وَيَصْطَفُّ الطُّلَّابُ فِي مَيْدَانِ الْمَدْرَسَةِ قَبْلَ بَدْءِ الدِّرَاسَةِ، وَلِجَانُ النِّظَامِ تُرَبِّيهِمْ عَلَى حُسْنِ الِاصْطِفَافِ، وَتُدَرِّبُهُمْ عَلَى النِّظَامِ.

وَإِذَا مَا زَارَ الْجُنْدَ أَوِ الطُّلَّابَ مَلِكٌ أَوْ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرٌ أَخَذُوا أَيَّامًا يَتَدَرَّبُونَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الِاصْطِفَافِ أَمَامَهُ، وَالْحَرَكَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ تَوْقِيرًا لِمَقَامِهِ، وَإِكْبَارًا لِزِيَارَتِهِ. وَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَوُقُوفُنَا فِي صَلَاتِنَا قُبَالَةَ رَبِّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْظَمُ مَقَامًا، وَأَشَدُّ هَيْبَةً، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً مِنْ مَقَامِ أُولَئِكَ أَمَامَ مَخْلُوقِينَ مِثْلِهِمْ مَهْمَا عَلَا قَدْرُهُمْ، وَارْتَفَعَتْ مَكَانَتُهُمْ، وَمَهْمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ وَمَنَاصِبُهُمْ!! فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُصَلِّينَ لَا يَسْتَحْضِرُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟! وَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُقَدَّمِ كُلِّ صَلَاةٍ يَجْعَلُ لِلِاصْطِفَافِ لَهَا طَعْمًا آخَرَ، وَلَذَّةً أُخْرَى، بِحُضُورِ الْقَلْبِ وَخُشُوعِهِ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتِهَا وَتَرَاصِّهَا أَنَّ أَوَامِرَهُ كَثُرَتْ فِيهَا، وَامْتَثَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- لَهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "... فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ" رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "...وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: "أَحْسِنُوا إِقَامَةَ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ".

فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ وَالتَّرَاصَّ فِيهَا مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَحُسْنِهَا وَتَمَامِهَا، وَاللَّهُ -تَعَالَى- أَمَرَنَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِقَامَتُهَا لَا تَعْنِي مُجَرَّدَ أَدَائِهَا؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الشَّيْءِ هِيَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا كَامِلًا، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- بِالْقَلْبِ، وَالْخُشُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، فَهَذَا هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ الَّذِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النُّورِ: 56].

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: تَسْوِيَةُ الصَّفِّ إِذَا كَانَ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَهُوَ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ فَرْضٌ؛ وَمَا كَانَ مِنَ الْفَرْضِ فَهُوَ فَرْضٌ.

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ يَسْتَلْزِمُ الْخُشُوعَ فِيهَا، كَانَ التَّرَاصُّ فِي الصَّفِّ وَتَسْوِيَتُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخُشُوعِ؛ لِأَنَّهُ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ الَّذِي يَتَخَلَّلُ مِنْ فُرَجِ الصُّفُوفِ فَيَسْرِقُ مِنْ صَلَاةِ الْمُصَلِّينَ، وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ فِيهَا، وَيَنْقُلُ أَذْهَانَهُمْ مِنْ مُنَاجَاةِ اللَّهِ -تَعَالَى- إِلَى أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا، حَتَّى تَنْتَهِيَ الصَّلَاةُ وَلَمَّا يَشْعُرِ الْمُصَلِّي بِهَا، وَحَتَّى يَغْلِطَ الْإِمَامُ فِي الرَّكَعَاتِ، وَوَرَاءَهُ صَفٌّ أَوْ صُفُوفٌ لَا أَحَدَ مِنْهُمْ يُنَبِّهُهُ إِلَى غَلَطِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَارِحٌ بِذِهْنِهِ فِيمَا يَشْغَلُهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي رَصِّ الصُّفُوفِ طَرْدًا لِلشَّيَاطِينِ حَدِيثُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ"، وَهِيَ غَنَمٌ سُودٌ صِغَارٌ، فَكَأَنَّ الشَّيطَانَ يَتَصَغَّرُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّفِّ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ، وَمَنْ سَدَّ فُرْجَةً، رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" (رَوَاهُمَا أَحْمَدُ).

وَلَوْ تَأَمَّلْنَا هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لَعَلِمْنَا أَهَمِّيَّةَ وَصْلِ الصَّفِّ الْمُنْقَطِعِ، وَمَا فِيهِ مِنْ صَلَاةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَصَلَاةِ مَلَائِكَتِهِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَصِلَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُ. وَلَعَلِمْنَا أَهَمِّيَّةَ سَدِّ الْفُرْجَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الصَّفِّ حَتَّى لَا يَتَسَلَّلَ الشَّيْطَانُ مِنْ خِلَالِهَا فَيُوَسْوِسَ لِلْمُصَلِّينَ فِي صَلَاتِهِمْ.

قَالَ ابْنُ عَلَّانَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَفِيهِ أَبْلَغُ حَثٍّ عَلَى وَصْلِ الصُّفُوفِ بِسَدِّ فُرُوجِهَا وَتَكْمِيلِهَا بِأَنْ لَا يُشْرَعَ فِي صَفٍّ حَتَّى يُكْمَلَ مَا قَبْلَهُ، وَأَبْلَغُ زَجْرٍ عَنْ قَطْعِهَا بِأَنْ يَقِفَ فِي صَفٍّ وَبَيْنَ يَدَيْهِ صَفٌّ آخَرُ نَاقِصٌ أَوْ فِيهِ فُرْجَةٌ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بَرَكَةَ دُعَائِهِ لِلْوَاصِلِ، وَخَطَرَ دُعَائِهِ الْمَقْبُولِ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَلَى الْقَاطِعِ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَدْنَى ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ بَادَرَ إِلَى الْوَصْلِ، وَفَرَّ عَنِ الْقَطْعِ مَا أَمْكَنَهُ.

فَحَرِيٌّ بِالْمُصَلِّينَ أَنْ يُولُوا تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ وَتَرَاصَّهَا وَسَدَّ فُرَجِهَا عِنَايَتَهُمُ الْعَظِيمَةَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الْأَنْعَامِ: 71-72].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصَّفِّ: 4]، قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "أَلَمْ تَرَ إِلَى صَاحِبِ الْبُنْيَانِ كَيْفَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَخْتَلِفَ بُنْيَانُهُ، كَذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَخْتَلِفُ أَمْرُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ وَصَفِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ".

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَهَمِّيَّةِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَالتَّرَاصِّ فِيهَا، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَئِمَّةَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُكَبِّرُونَ حَتَّى تَعْتَدِلَ الصُّفُوفِ وَتَتَرَاصَّ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "كَانَ عُمَرُ لَا يُكَبِّرُ حَتَّى تَعْتَدِلَ الصُّفُوفُ، يُوَكِّلُ بِذَلِكَ رِجَالًا".

وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا كَانَا يَتَعَاهَدَانِ ذَلِكَ، وَيَقُولَانِ: "اسْتَوُوا"، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: "تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ، تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ". وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: "كَانَ بِلَالٌ يَضْرِبُ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيُسَوِّي مَنَاكِبَنَا" وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ قَدَمَ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لِإِقَامَةِ الصَّفِّ.

وَفِي أُخْرَيَاتِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بَدَأَ النَّاسُ يَتَسَاهَلُونَ فِي أَمْرِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، وَسَدِّ فُرَجِهَا، وَالتَّرَاصِّ فِيهَا، ثُمَّ صَارَ التَّسَاهُلُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ يَزْدَادُ عَبْرَ الْقُرُونِ حَتَّى قَلَّ الْخُشُوعُ وَكَثُرَتِ الْوَسَاوِسُ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ وَمِنْ آخِرِ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: "مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

فَعَلَيْنَا -عِبَادَ اللَّهِ- أَنْ نُولِيَ هَذَا الْأَمْرَ عِنَايَتَنَا؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقْتِدَاءً بِصَحْبِهِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-؛ وَلِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِخُشُوعِنَا فِي صَلَاتِنَا وَمُنَاجَاةِ رَبِّنَا -سُبَحَانَهُ وَتَعَالَى-.

أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي