ولكن الله -تعالى- قيّض لهذا القرن ومن بعده رجلاً محا به رايات المبتدعة, وأبطل حجج الفرق الضالة, والمذاهب المختلفة, وجمع الله به قلوبًا كادت تتقطع حنقًا على بعضها, وأنفسًا كادت تخرج من أبدان أصحابها حقداً على بعضها. فسلّ لسانَه في المدن يُحاجج عن الملة الصحيحة, ويقمع البدعة الصريحة, فعادت السنة عزيزة, والبدعة ذليلة, ونَشَرَ كتبه ورسائله بين العامة والخاصة, يدعوهم فيها إلى العقيدة الصافية, والسنة الصحيحة. فالْتفت عليه القلوب, وأزال الله به المحن والكروب, وترك ما لا يُحصى من أهل البدع بِدَعَهُم, وتَمَسَّك الضعفاءُ مِن أهل السنة بمنهجهم.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الناس عاشوا في زمن النبوة في أمن فكريٍّ وديني, فلا أفكار ضالة انتشرت, ولا دعوات بدعيّة اشتْهرت, بل السنة والإسلام الصحيح هو السائد في ربوع الدولة الإسلامية.
ولم يزل الأمر كذلك حتى قبض الله -تعالى- روح الفاروق -رضي الله عنه-, فقبض الله -تعالى- معه الأمن من الأفكار الضالة, والفتن والدعوات البدعية, وارتفعَ مع روحه الطاهرة الفرقان العام الغالب بقوة الحجة والبرهان, والسيف والسنان, المطبق على رقاب مَن رفع رايةَ بدعة, أو نواها فامتنع مِن إظهارها؛ هيبةً ورهبةً مِن سطوةِ الفاروق.
فبموتِه انكسر الباب الذي كان سدًّا منيعًا أمام الفتن والبدع, وكان يعلم ذلك -رضي الله عنه-, فقد ثبت في الصحيحين عن حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- أنه كان مع بعض الصحابة جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ -رضي الله عنه-، فسألهم: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ؟
قَالَ حذيفة: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا.
قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟
قَالَ: يُكْسَرُ.
قَالَ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا.
فقيل له: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ البَابَ؟
قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ الغَدِ اللَّيْلَةَ، وَقَالَ: البَابُ عُمَرُ.
فبعد موته -رضي الله عنه- بدأت تظهر الفتن والبدع والفرق الضالة, كالخوارج والشيعة والقدرية, وهذا كان في زمن الصحابة.
ثم ازدادت بعد ذلك, فظهرت المعتزلة والجهمية والصوفية ونحوها, وعظمت الفتن والبدع والمبتدعة بعد مضي زمن القرون المفضلة, حتى كادت أن تعم الدنيا كلها, وتضمحل السنة الخالصة في القرنِ السابع, وكثرت الخلافات العقدية والتعصبات الفقهية, والنِّزاعات المذهبية, والأهواء المضلة.
حتى غدت السنة غريبة, والبدعة معروفةً مشهورة.
ولكن الله -تعالى- قيّض لهذا القرن ومن بعده رجلاً محا به رايات المبتدعة, وأبطل حجج الفرق الضالة, والمذاهب المختلفة, وجمع الله به قلوبًا كادت تتقطع حنقًا على بعضها, وأنفسًا كادت تخرج من أبدان أصحابها حقداً على بعضها.
فسلّ لسانَه في المدن يُحاجج عن الملة الصحيحة, ويقمع البدعة الصريحة, وسلّ سنانه في الثغور يُدافع عن حمى الدين وأعراض المسلمين, وأذل الله به جبابرة التتار, فأشعل الحماس في نفوس الجند والأمراء, فقاتلوهم قتالاً عظيمًا, وهزموهم هزيمة لم يقوموا بعدها إلى يومنا هذا.
فعادت السنة عزيزة, والبدعة ذليلة, ونَشَرَ كتبه ورسائله بين العامة والخاصة, يدعوهم فيها إلى العقيدة الصافية, والسنة الصحيحة.
فالْتفت عليه القلوب, وأزال الله به المحن والكروب, وترك ما لا يُحصى من أهل البدع بِدَعَهُم, وتَمَسَّك الضعفاءُ مِن أهل السنة بمنهجهم.
ومن هو هذا الرجل الذي قضّ مضاجع المبتدعة, وبنى صرح السنة؟ إنه علامة زمانه وما بَعْده من الأزمان: أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام, ابن تَيْمِية الْحَرَّانِيُّ ثمَّ الدِّمَشْقِيُّ, تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس, ولد فِي عام: ستمائةٍ وواحدٍ وستين للهجرة النبوية.
طلب العلم منذ نعومة أظفارِه, وسمع الكثير من الشيوخ بمختلف فنونهم وعلومهم ومذاهبهم.
وبُورك له في فهمه, ورسخ في حفظه, حتى ملأ الدنيا علمًا, وأضاءها فقهًا.
هو كالبحر يزخر بالدرر والجواهر الثمينة.
وفقهه واستنباطه, وفهمه في القرآن والسنة وسائرِ علوم الشريعة, بالموضع الذي فاق به أكابر علماء زمانِه ومن بعدهم, وأكثرَ مَن كان قبلهم.
وهم سمعوا من العلم ما سمع, وقرؤوا مثلما قرأ, وحفظوا القرآن وكثيرًا من السنة كما حفظه, ولكنَّ أرضَه كانت من أطيب الأراضي وأخصبِها, وأقبلها للزرع وأنفعها, فبذر فيها النصوص فأنبتت من كل زوج كريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأين تقع فتاوى شيخ الإسلام وتفسيره واستنباطه وفهمُه من فتاوى غيرِه؟
فهو حافظ الأمة, وناصرُ الْمِلّةِ.
كانت همَّتُه مصروفةً إلى الحفظ والتفقه والاستنباط, وتفجير النصوص, وشقِّ الأنهار منها, واستخراج كنوزها.
فهو أعلم الأمة -بعد القرون الثلاثة المفضلة- بكتاب الله -تعالى- فهمًا واستنباطًا, وبحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته ومقاصده وأحواله, وما يُناقض ذلك مما اختلقه المبتدعة والفلاسفة وغيرُهم.
ولا تخفى على ناظرٍ سعةُ اطلاعه، وغزارة علمه، وسيلان ذهنه، وتوقد ذكائه، وكثرة محفوظه؛ وهو كما قال عنه ابن دقيق العيد: "جمع العلوم بين عينيه يأخذ من أيها شاء، ويترك ما شاء".
وإنَّ مَثَلَه في تعامله مع كثيرٍ من النصوص الشرعية, وآراء العلماء المختلفة المتباينة: كمن رأى فصوصًا من الذهب واللؤلؤ والجواهر الثمينة والرديئة والمغشوشة, مُلقاةً متناثرة مُختلطة, فجمع الثمينة ونظّفها وأماط عنها ما علق بها من وسخ, وأفرد كل نوع لوحده, ثم نظمها في عقد.
وهكذا حال شيخ الإسلام مع النصوص, حيث وجد كثيرًا منها ضعيفًا لا يصلح للاحتجاج به فأبعده وفنّده, وكذلك القياس والإجماعات المزعومة.
وأبرز وأظهر النصوص الصحيحة, والأقيسة الصريحة.
نسأل الله لنا وله الرحمة والرفعة, وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, إنه سميع قريب مجيب.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله -تعالى- وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام, أما بعد:
إخوة الإيمان: إنه لا تكاد أذنٌ لا يمرّ عليها اسم ابن تيمية, فالخطباء والعلماء والمحاضرون يقولون: قال ابن تيمية, والمبتدعةُ والمنافقون والمغرضون يقولون: قال ابن تيمية.
وربما كان أكثر اسم يرد على مواقع التواصل الاجتماعي, ومن عرف تاريخه وحدة ذكائه, وسعة محفوظاته, وشجاعته وإقدامه: زال عنه العجب, وعرف السبب.
قال عنه تلميذُه الإمام الذهبي -رحمه الله-: "مَا رَأَيْت أحدًا أسْرع انتزاعًا للآيات الدَّالَّة على الْمَسْأَلَة الَّتِي يوردها مِنْهُ, وَلَا أَشد استحضارًا لمتون الْأَحَادِيث, وعزوِها إِلَى الصَّحِيح أَو إِلَى الْمسند أَو إِلَى السّنَن مِنْهُ, كَأَن الْكتاب وَالسّنَن نصب عَيْنَيْهِ, وعَلى طرف لِسَانه, بِعِبَارَة رشقة, وَعين مَفْتُوحَة, وإفحام للمخالف, وَكَانَ آيَة من آيَات الله -تعالى- فِي التَّفْسِير والتوسع فِيهِ, لَعَلَّه يبْقى فِي تَفْسِير الْآيَة الْمجْلس والمجلسين.
هَذَا مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم الَّذِي لم أشاهد مثله قطّ, والشجاعة المفرطة الَّتِي يضْرب بهَا الْمثل, والفراغ عَن ملاذ النَّفس من اللبَاس الْجَمِيل, والمأكل الطّيب, والراحة الدُّنْيَوِيَّة, وَلَقَد سَارَتْ بتصانيفه الركْبَان, لَعَلَّ تواليفه وفتاويه فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع والزهد وَالْيَقِين والتوكل وَالْإِخْلَاص وَغير ذَلِك تبلغ ثَلَاث مئة مُجَلد, لَا, بل أَكثر.
وَكَانَ قوَّالاً بِالْحَقِّ, نهَّاءً عَن الْمُنكر, لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم, ذَا سطوة وإقدام, وَعدم مداراة الأغيار.
فصيحًا سريع الْقِرَاءَة, تعتريه حِدة ثمَّ يقهرها بحلم وصفح, وَإِلَيْهِ كَانَ الْمُنْتَهى فِي فرط الشجَاعَة والسماحة وَقُوَّة الذكاء, وَلم أر مثله فِي ابتهاله واستغاثته بِاللَّه -تعالى- وَكَثْرَة توجهه". ا.هـ.
وكَانَ إِذا تكلم أغمض عَيْنَيْهِ, وازدحمت الْعبارَة على لِسَانه, فَرَأَيْت الْعجبَ العجيب, والحبرَ الَّذِي مَا لَهُ مُشاكلٌ فَي فنونه وَلَا ضريب, والعالمَ الَّذِي أَخذ من كل شَيْء بِنَصِيب.
وَكَانَت هممه علية إِلَى الْغَايَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ كثيرًا مَا ينشد:
تَمُوت النُّفُوس بأوصابها *** وَلم تشك عوَّداها مَا بهَا
وَمَا أنصفت مهجةٌ تَشْتَكِي *** هَواهَا إِلَى غير أحبابها
وسآتي على أخلاق وفقه وصفات شيخ الإسلام, في الجمع القادمة بحول الله تعالى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي