رجاحة العقل

عبد العزيز بن عبد الله السويدان
عناصر الخطبة
  1. أهمية اتزان العقل واكتماله .
  2. أسباب رجاحة العقل .
  3. أعظم علامات تميز العقل ورجحانه .
  4. ذم العجلة والتهور والاندفاع .
  5. من سمات رجاحة العقل. .

اقتباس

رجاحة العقل صفة جميلة نحتاجها جميعًا ولكنها في نفس الوقت صفة عزيزة قل من يتصف بها بشكل متكامل، رجح الشيء أي ثقل وزاد وزنه، ورجح الرأي اكتمل، فرجاحة العقل اتزانه وصوابه واكتماله، وهي مرتبة تنال إما بمجاهدة شاقة وإما تكون سجية لا تستدعي إلا قليلا من ثقل. ما هي أسباب رجاحة العقل؟...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

رجاحة العقل صفة جميلة نحتاجها جميعًا ولكنها في نفس الوقت صفة عزيزة قل من يتصف بها بشكل متكامل، رجح الشيء أي ثقل وزاد وزنه، ورجح الرأي اكتمل، فرجاحة العقل اتزانه وصوابه واكتماله، وهي مرتبة تنال إما بمجاهدة شاقة وإما تكون سجية لا تستدعي إلا قليلا من ثقل.

ما هي أسباب رجاحة العقل؟

أولاً العلم، فالعلم يضفي على العقل نورًا يميز به الصحيح من الخطأ، قال تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الحج: 53- 54].

هناك ثلاث فئات في الآيتين؛ الفئة الأولى: الذين في قلوبهم مرض، والثانية القاسية قلوبهم، والثالثة الذين أوتوا العلم.

فالعلم كان معينًا للفئة الثالثة لأهل الإيمان في درء الفتنة التي وردت، بل إن الفتنة تتحول مع قوة الإيمان وسعة العلم إلى مصدر ثبات على طريق الحق؛ فإنك إذا دفعت الفتنة ازددت ثباتًا على مبدئك؛ كقوله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22].

رؤية جيوش الأحزاب المدججة بالأسلحة التي تثير الرعب زادتهم إيمانًا وتسليمًا، هكذا العلم إذا كان راشدًا يجعلك ترى الصورة على حقيقتها فتكون راجح العقل سديد الرؤية، ولنا في صمود أهل العلم أمام القيم الأرضية المادية برهان في سورة القصص حين قال سبحانه في قارون ذي الأبهة والمال والاختيال: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:79]، هكذا وصفوه.

(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80]، فللمال سَكْرَة تغشى صاحب المال كسكرة الخمر فتراه لا يرى الحق إلا في رأيه، نسأل الله العافية.

وللجاه سكرة من فخر وخيلاء، فيرى صاحب الجاه نفسه خيرًا من باقي البشر، وللسلطان سكرة الطغيان والجبروت فلا يتنبه إلى عاقبة التكبر الطغيان والظلم سكرات.

فعامة الناس البسطاء من غير ذوي المال ولا الجاه ولا السلطان لهم حظ من هذه السكرة (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) [القصص:79]، ولهذا صرخ فيهم أهل العلم (وَيْلَكُمْ) الويل هو الهلاك والعذاب أي: أن فيما تلفظتم فيه هلاككم لأنهم قالوا (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

فبالعلم بعد الإيمان رجحت عقول العلماء، فأعادوا الميزان إلى اعتداله وشكله القويم، وقال: (ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80].

وكان اختيار الملك في بني إسرائيل إلى الله تعالى، ثم لحُسْن القيادة التي تستوجب رجاحة العقل قبل أي شيء، فاختار سبحانه بحكمته البالغة أكثرهم علمًا في المقام الأول، وأجملهم خِلقة في المقام الثاني، فبعد أن قال (لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)، اعترضوا على اختيار بأنه ليس من أثريائهم فإن فتنة بني إسرائيل المال، فكثرة المال عندهم هي علامة الأفضلية فرد عليهم نبيهم قال: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة:247]، فالعلم سبب رئيس من أسباب رجاحة العقل "العلم".

ومن أسباب رجاحة العقل: "الخبرة"، والمقصود بالخبرة التعرض لمصائب الدنيا وتقلباتها بأهلها، ومعاشرة الناس بمختلف أصنافهم، فهذا يُكسب الإنسان ملَكَة في التحليل الهادئ والتفكير السليم، والتصرف السليم والقول السليم؛ لأنه اطلع على صور الأمور ومواطنها وظواهرها فاتسع أُفُقه فكأنما يدرك المآل قبل حدوثه، ولذا كان للأشياخ الكبار في السن خبراتهم الوفيرة.

لكن الخبرة مقيدة بالانتفاع، فلما لم ينتفع الإنسان من الحوادث التي مرت به في حياته فلن يكتسب الخبرة ولو عاش مائة عام، ولذلك قال تعالى: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126].

ومن أسباب رجاحة العقل: "قوة العقل"؛ فالذكاء عامل معين على اتخاذ القرار السليم والموقف السليم، والذكاء لا يملكه الإنسان بل هو رزق من الله، فإن تحقق كان له ردف قوي للرجحان العقل، فإذا وجد الذكاء في الإنسان طار بصاحبه إلى المعاصي وسفاسف الأمور فذلك هو الخسران المبين.

ومن أسباب رجاحة العقل "الإيمان القوي"، كلما قوي الإيمان رجح العقل أكثر، وزيادة الإيمان أمر مقدور، الإيمان إذا قوي يجعل الإنسان يفكِّر لا في موجبات الدنيا فحسب، بل قبل ذلك في موجبات الآخرة، وهذا من تمام العقل ورجحانه، فمن ترك الحرام في طلب الرزق أرجح عقلاً ممن طلبه فيما حرم الله، ولو كان أثرى وأوسع مالاً، ولذلك أحضرت صفة العقل عند من نظر إلى الآخرة قبل الدنيا في قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60].

وفي سورة يوسف (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، وفي سورة الأعراف (وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) أحضر العقل فالعقل يرجح بزيادة الإيمان.

ومن أعظم علامات نجاح رجحانه: تقديم الآخرة على الدنيا، فهناك سمات مَن تحلى بها كانت ذلك دالاً على رجاحة عقله من ذلك "الأناة".

الأناة دأب العاقل الراشد، والعجلة والتهور هو دأب خفيف العقل صغير سن قليل خبرة، الأناة خلق يحبه الله ورسوله صح في مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة".

قد ورد النهي عن العجلة في القرآن في أكثر من آية، منها قوله سبحانه: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114].

وقوله تعالى: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم:84]، وفي قوله -جل وعلا-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)، وفي معرض الذم قال تعالى (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء:11].

في صحيح الجامع من حديث أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان"، فالأناة رشد ويتبعها الصمت، الصمت من رجاحة العقل وعكسه الثرثرة.

ففي الأحكام الصغرى بإسناد صحيح عن أنس قال: لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر، فقال: "يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهم"؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: "عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما".

وذكر جابر بن سمرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أرجح الناس عقلاً، بلا منازع كان طويل الصمت قليل الضحك، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم فيضحكون ويتبسم -صلى الله عليه وسلم-.

وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: "عليك بطول الصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك".

ومن سمات رجاحة العقل: التواضع الحق وللخلق، وهو أمر منطقي، فمن حمق الإنسان رفض الحق وهو يعرفه؛ لأن مآل ذلك خيبة على الرافض له ولمن معه، ولذلك قاد فرعون قومه إلى الهلاك بسبب كبره قال تعالى: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) [طه:79].

أما التكبر على الخلق فهو إضافة إلى كونه سوء خُلق وشعورًا بالنقص هو كذلك دليل خفة العقل، فالناس سواء لا فرق بينهم إلا بالتقوى.

أخيرًا من سمات رجاحة العقل "الاستشارة"، والاستشارة تُطلب من أهل الخبرة الدين والخلق، ولا يمنع الاستشارة منصبٌ ولا جاه ولا سلطان؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خير البشر وهو مؤيَّد بالوحي كان كثير الاستشارة، وطالما قال لأصحابه: "أشيروا عليَّ".

أيها الإخوة: رجاحة العقل مطلبٌ له مكانته، فلنسعَ لاكتساب خصلة من خصاله، والله المستعان.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي