إن من المسلَّمات عند الناس قاطبةً أن الإنسان مخلوق ضعيف محتاج إلى غيره، لا يمكن أن يصرف أمور حياته وحده بدون موجّه أو ناصح، ولا بد له إذًا من معونة أو مشورة أو مناصحة، والحياة -عباد الله- مليئة بالمتغيرات والأمور المحيرة، يقف المرء حيالها في حيرة فيما يقدم عليه، تتعارض عنده أمور، فيمضي أيامًا وليالي وهو منشغل الفكر منزعج الخاطر، إلى أين يذهب؟ وإلى أي اتجاهٍ يمضي؟ ..
أما بعد: فاعلموا -عباد الله- أن خير الوصايا الوصية بتقوى الله، فاتقوا الله جميعًا -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون.
عباد الله: إن من المسلَّمات عند الناس قاطبةً أن الإنسان مخلوق ضعيف محتاج إلى غيره، لا يمكن أن يصرف أمور حياته وحده بدون موجّه أو ناصح، ولا بد له إذًا من معونة أو مشورة أو مناصحة، والحياة -عباد الله- مليئة بالمتغيرات والأمور المحيرة، يقف المرء حيالها في حيرة فيما يقدم عليه، تتعارض عنده أمور، فيمضي أيامًا وليالي وهو منشغل الفكر منزعج الخاطر، إلى أين يذهب؟ وإلى أي اتجاهٍ يمضي؟
أيها الناس: لقد كان أهل الجاهلية يلجؤون إلى أمور هي أقصى ما وصل إليه علمهم، وما زادتهم إلا غيًا وضلالاً؛ فبعضهم يستقسم بالأزلام، فعلى أيّ وجه خرجت فعل، وآخرون يزجرون الغراب ويتشاءمون به، وبئس من كان الغراب له دليلاً.. فلما جاء الله بالإسلام -الذي ما ترك أمرًا من أمور الناس إلا حلّها، ولا نازلةً إلا فكها- كان فيه الحل لمثل هذه الأمور.
جعل الإسلام من حق المسلم على المسلم النصيحة، يقول: "حق المسلم على المسلم ست: وإذا استنصحك فانصحه"، وفي البخاري: "وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له"، وفي مسلم: جعل الرسول الدين هو النصيحة فقال: "الدين النصيحة" ثلاثًا. ولقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ليجد فيها الاطمئنان والراحة؛ لأنه علاقة مع الله وحده، ينقطع المرء فيها عن المنغصات والمكدرات، ولقد كان يقول لمؤذنه: "أرحنا بالصلاة يا بلال".
أيها الناس: إن مما جعله الله ملجأ للمؤمن إذا حزبه أمر ولم يتبين فيه أن يلجأ إلى الصلاة، صلاة ليست فريضة ولا راتبةً، بل هي متعلقة بسببها متى ما وجد وجدت، ليس لها وقت وليس لها عدد، إنها صلاة تسمى بصلاة الاستخارة.
عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن"، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ثم يسميه باسمه- خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجلة- فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال: في عاجل أمري وآجلة -فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به"، قال: "ويسمي حاجته". هذا الحديث رواه الإمام البخاري وأصحاب السنن الأربعة ورواه الإمام أحمد.
عباد الله: يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "عوّض رسول الله أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب، عوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبيده رحمةً لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه، من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد، طالع أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر، فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجود الله سبحانه والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة وتفويض الأمر إليه والاستعانة به والتوكل عليه والخروج من عهدة نفسه والتبري من الحول والقوة إلا به سبحانه واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق" اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، فقد قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمرن:159]".
عباد الله: لقد كان يعلم أصحابه رضي الله عنهم هذه الصلاة وهذا الدعاء كما يعلمهم سورة من القرآن، وما كان ذلك إلا لعلمه بحاجتهم لمثل هذا الدعاء، فكما أن القرآن يحتاج إلى مدارسة ومتابعة ومجاهدة فكذلك هذا الأمر، وأيضا كما أن القرآن لا يستغني عنه المؤمن فكذلك دعاء الاستخارة يحتاجه المرء في أموره كلها.
عباد الله: من أحكام هذه الصلاة أن المرء يستخير في كل أمرٍ من أمور حياته المباحة دون الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة، يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: "الاستخارة في الأمور المباحة، وفي المستحبات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أما الواجبات وأصل المستحبات والمحرمات والمكروهات كل ذلك لا يستخار فيه" اهـ.
والأمور المباحة كثيرة، مثل السفر والعمارة واختيار الزوجة والتجارة ونحوها، وليس منها الأمور المعتادة كالأكل والنوم، فهذا عبث، جاء في بعض روايات الحديث من حديث أبي أيوب أن رسول الله قال: "اكتم الخطبة -يعني النكاح-، ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صل ما كتب لك، ثم احمد ربك ومجده، ثم قل: "اللهم..." الدعاء السابق. رواه الطبراني وصححه ابن حبان والحاكم.
عباد الله: لم يعين رسول الله لصلاة الاستخارة وقتًا معينًا، فذهب جمع من أهل العلم إلى جوازها كل وقت، إلا أن الأكثرين على أنها لا تفعل في أوقات النهي.
والأولى أن يكون دعاء الاستخارة بعد صلاة ركعتين خاصتين به، لكن لا مانع من أن تكون بعد أي نافلة إذا دخلها ناويًا لذلك، يقول النووي رحمه الله: "لو دعا الدعاء بعد راتبة الظهر مثلاً أو غيرها من النوافل الراتبة والمطلقة سواءً اقتصر على ركعتين أو أكثر جاز، لكن بشرط أن يدخل الصلاة وفي نيته أن يستخير بعدها".
ويقول الشعراني في شرحه للأذكار: "دعاء الاستخارة له ثلاث حالاتٍ:
الأولى: أن يقوله بعد صلاته ركعتين بنية الاستخارة.
الثانية: أن يكون في موضع لا يستطيع معه الصلاة، فله أن يقول هذا الدعاء وحده.
الثالثة: أن يقول هذا الدعاء بعد أي صلاة نافلة إذا نواه ابتداء".
عباد الله: يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: "الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء في صلاة الاستخارة أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة؛ لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً" اهـ.
عباد الله: إن خير العمل وأصوبه ما كان موافقًا لفعل الرسول، فاعلموا أنه لم يرد في صلاة الاستخارة قراءة آيات معينة، كما أن تكرار صلاة الاستخارة غير ثابت عنه، بل قال الحافظ العراقي عنه: "الحديث ساقط لا حجة فيه".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البرهان والحكمة، أقول هذا القول، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إن ربي غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبي الهدى وإمام الورى محمّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فالتقوى هي أولى صفات المؤمنين، فاتقوا الله قولاً وعملاً.
أيها الناس: روى الإمام أحمد وحسن إسناده ابن حجر عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال: "من سعادة ابن آدم استخارته الله"، ويقول بعضهم: "ما خاب من استخار، وما ندم من استشار"، ويقال: "من أعطي أربعًا لم يمنع أربعًا: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب".
عباد الله: الاستخارة دليل على تعلّق قلب المؤمن بالله في سائر أحواله، الاستخارة ترفع الروح المعنوية للمستخير، فتجعله واثقًا من نصر الله له، في الاستخارة -عباد الله- تعظيم لله وثناء عليه، فالاستخارة مخرج من الحيرة والشك، وهي مدعاة للطمأنينة وراحة البال، في الاستخارة امتثال للسنة النبوية وتطبيق لها.
عباد الله: إذا صلى الإنسان هذه الصلاة ودعا بعدها بهذا الدعاء فليمض لما بدا له، يقول ابن الزملكاني رحمه الله: "إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمرٍ فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإنّ فيه الخيرَ وإن لم تنشرح له نفسه، وليس في الحديث ما يدلّ على اشتراط انشراح النفس" اهـ.
إلا أن بعض الناس أحدثوا أمورًا جعلوها علامةً على الاختيار بعد الاستخارة من مناماتٍ وغيرها، يقول صاحب المدخل: "على المرء أن يحذر مما يفعله بعض الناس ممن لا علم عنده، أو عنده علم وليس عنده معرفة بحكمة الشرع الشريف في ألفاظه الجامعة للأسرار العلية؛ لأن بعضهم يختارون لأنفسهم استخارةً غير الواردة، وهذا فيه ما فيه من اختيار المرء لنفسه غير ما اختاره له من هو أرحم به وأشفق عليه من نفسه ووالديه العالم بمصالح الأمور المرشد لما فيه الخير والنجاح والفلاح صلوات الله وسلامه عليه، وبعضهم يستخير الاستخارة الشرعية ويتوقف بعدها حتى يرى مناما يفهم منه فعل ما استخار فيه أو تركه أو يراه غيره، وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب العصمة أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يرى في المنام، ولا يضيف إليها شيئًا.
ويا سبحان الله!! إن صاحب الشرع قد اختار لنا ألفاظًا منتقاةً جامعة لخيري الدنيا والآخرة حتى إن الراوي قال في صفتها والحضّ عليها والتمسك بألفاظها: "كان يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن"، ومعلوم أن القرآن لا يجوز أن يغيّر أو يزيد فيه أو ينقص منه" اهـ.
عباد الله: إن مما يقال هنا: إن الأفضل أن يجمع بين الاستخارة والاستشارة، فإن ذلك من كمال الامتثال بالسنة، يقول الله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران:159]، يقول أحد السلف: "من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذّ ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ".
ثم اعلموا -عباد الله- أن من خير الأعمال في هذا اليوم الصلاة على نبيكم محمدٍ.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي