إنهم أولادنا قرة أعيننا (1)

الرهواني محمد
عناصر الخطبة
  1. نعمة الأولاد وشكر الله عليها .
  2. شقاء وتعاسة بعض الآباء بسبب الأولاد .
  3. انحراف الأبناء والسبب في ذلك .

اقتباس

ما تقولون في رجل يملك بستاناً فيه أزهار وأشجار وثمار وهو يرعاه ويتعاهده بالسقيِ ويحميه ويصونُه، يصونه من عبث العابثين وإفساد الفاسدين المفسدين، فماذا يحدث؟ وماذا تكون النتيجة؟ لا شك أن...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعِينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

معاشر المؤمنين والمؤمنات: ما تقولون في رجل يملك بستاناً فيه أزهار وأشجار وثمار، وهو يرعاه ويتعاهده بالسقيِ ويحميه ويصونُه؟ يصونه من عبث العابثين وإفساد الفاسدين المفسدين، فماذا يحدث؟ وماذا تكون النتيجة؟ لا شك أن الأزهار ستتفتح والأشجار ستنمو وتعطي أحسنَ الثمار، وما نظر أحدٌ في هذا البستان، إلا وقال: تبارك الله ما شاء الله.

ولكن ما تقولون لو أن هذا الرجل جعل بستانه نسيا منسيا، لا يرعاه ولا يتعاهده بالسقي ولا يحفظُه، بل يتركُه عرضة للعبث والفساد؟

لا شك أنَّ الإجابةَ ستكون محلَّ اتفاق أنه لن يبقى من ذلك البستان شيء، بل إن اسمه كبستان سيندثر وينمحي ولا يبقى منه شيء، فهو كالصريم.

هذا مثل للآباء مع الأولاد وتربيتهم ورعايتهم، وقد ضرب الله لذلك مثلا فقال سبحانه: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف: 58].

فحديثي إليكم اليوم -معاشر الآباء والأمهات- عن أفلاذ الأكبادِ، ومُهَجِ النُّفوسِ، وزينةِ الحياةِ، عن الأولاد وعن تربية الأولاد، ومع الدرس الأول -بإذن الله-، فأقول: وبالله التوفيق: الأولاد نعمة عظيمة من المُنعم الوهاب، يختص الله -عز وجل- بها من يشاء من عباده ولو كانوا فقراء ضعفاء، ويمنعها عمن يشاء من خَلقه ولو كان أغنياء أقوياء، قال ربنا: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير) [الشورى: 49 - 50].

فمن أعظم النعم التي يعيشها المرء: أن يرى ذريةً له في هذه الحياةِ هبةً من رب العالمين.

وإذا أردنا أن نعرف قدر هذه النعمة -نعمة الأولاد- وعظمَ هذه المنة فلننظر إلى من حُرمها، لننظر إلى من حُرم نعمة الأولاد وكان عقيماً كيف حياته! قد نرى أحدَهم يتحرق قلبه، ويبذل الغالي والنفيس، متنقلاً بين المستشفيات والأطباء والصيدليات.

أمنيتُه أن يُرزق ولداً يملأ عليه دنياهُ فرحا وسعادة، أمنيتُه أن يكون له أولاد، وأن يكون أباً.

ولكن سبق القول من رب العالمين: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير) [الشورى: 50].

الأولاد هبةٌ عطاءٌ فضلٌ من الله العلي القدير القائل سبحانه: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].

هو سبحانه الذي يخلق وهو سبحانه الذي يرزق، وهو سبحانه الذي يُعطي، وهو سبحانه الذي يمنع: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].

هذا العطاء الرباني الكريم يستوجب الشكر من كل أب له أولاد؛ لأنَّ شكر المُنعم سبيل إلى استقرارِ النعم ودوامها، ونُزولِ البركة فيها، قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد) [إبراهيم: 7].

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ) [إبراهيم: 7] ليس باللسان وحده ولكن بما هو أعمق وأبلغ وهو إحسان تربيتهم وفق المنهج الذي أراده الله -سبحانه وتعالى-، هو تنشئتُهم على محبة الله وطاعته وخشيته ومراقبته في السر والعلن، وكذا محبةِ الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- واقتفاءِ أثر سنته، حتى يكونوا حقا قُرة أعين.

وما تقِر الأعين إلا بصلاحهم وطاعتهم لله -تعالى-، وهذا مطلب عباد الرحمن المؤمنين، قال ربنا: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].

فوالله إنها لنعمة عظيمة، ومِنَّة جليلة، يوم يُمسي المرء ويُصبح، وقد أقرَّ الله عينَيه بذريةٍ صالحةٍ تخافُ اللهَ وتتقيه، ذريةٍ تقيمُ الصلاةَ وتحفظُ حدُودَ الله وتراعيها.

فوقتها الآباء يعيشون حقاً الحياة المُفعمة بالخير والطمأنينة والأمن، الآباء يَقطفون ثمار تربيتهم الصالحة، وتوجيهاتهم السديدة، وأسلوبَهم السمح في التعامل الأمثل مع الأولاد، تلك الثمار الطرية، تعود على الآباء بالسعادة والذكر الطيب والحَسَن في الدنيا والآخرة، فهم كما قال ربنا -سبحانه-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46].

ومتى يكون الأولاد زينة الحياة الدنيا؟

وذلك بقدر ما يتصفون به من صلاح واستقامة.

على العكس فيما إذا كان الأولاد شوكة في الأعين، فإضافة إلى الآلام والمتاعب والويلات، فهم مصدر فتنة وشقاء، قال ربنا: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة) [الأنفال: 28].

متى ذلك؟ إن لم نحسن تربيتهم ورعايتهم، فلربما تمنى الأب وقتها أنه لم يُرزق بهم وكان عقيماً أو كان نسياً منسياً.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

لقد ابتعد أولادنا عن منهج الله وشرعه، وتركوا طريق الهدى والنور، وساروا يتخبطون في الظلمات، قال ربنا: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) [النور: 40]، فهذا حال أولادنا اليوم.

أولادنا ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، بل أصبحوا لا يعرفون من الدين إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه.

هجروا المساجد فلا يعرفون طريقها، هجروا القرآن فلا يعرفون قيمته ولا كيف يقرأ، أخذت ألسنتُهم بدلا من حفظ القرآن وتلاوتِه في تعلم وحفظ ما يغضب الرحمان.

ألسنتُهم اعتادت سب الآباء وشتمَهُم، وقذف والأمهات وإذلالَهُن!

بل الأعظم من ذلك تطاولت ألسنتهم في سب الله، والملة والدين.

زلّت أقدامهم وسارت بهم إلى الشرّ والفتنة والانحراف والفساد، قادتهم أقدامهم إلى التشبث بالغرب وعاداته وتقاليده وموضاته.

والمصيبة العظمى أصبح الممثلون والمغنون من الغرب المفسدون الذين يتعاطون الفواحش على أشكالها، أصبحوا قدوة لأولادنا، يقتدون بهم ويقلدونهم في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وحركاتهم.

هذا التقليد وهذا الاقتداء تفشى في مجتمعاتنا، فقتل في أولادنا صغارا وكبارا روح الانتماء لهذا الدين ولأمة الإسلام، بل تركهم أجسادا بلا أرواح، حتى صدق فيهم قول ربنا –سبحانه-: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ) [المنافقون: 4].

فمن يا ترى السبب في ذلك؟

البعض قد يُلقي بلائمة ما يقع من انحراف وفساد للأولاد، على التلفاز ووسائل الإعلام والشارع والرفقة السيئة الفاسدة.. و.. و.. و..

نقول: لا ريب، كل ذلك من العوامل المدمرة لأولادنا.

ولكن السببَ الأعمق يتجدر في أوضاع البيوت أولا، حين لا يجد الأولاد من يشبعهم عاطفيا ويرشدهم سلوكيا، ويأخذ بأيديهم في متاهة الفتن، ويعمل على تقوية مناعاتهم الفطرية والإيمانية تجاه المؤثرات الخارجية السلبية، ويحسن قيادتهم وتوجيههم.

وقد يزعم البعض أنهم لم يقصروا في شيء من لوازم وضرورات عيش أولادهم، في المسكن والمطعم والملبس والعلاج والتمدرس والترفيه.

ونقول لهؤلاء كذلك: إنكم قد قمتم في الحقيقة بواجب الرعاية فقط، والذي هو حق من حقوق الأولاد على آبائهم، ولكنكم لم تقوموا بالأهم، ألا هو واجب التربية.

فأولادَنا أحوج إلينا فيما هو أهم وأولى وأعظم وأغلى من الرعاية، هم في حاجة للتربية الصحيحة الصالحة، تربية الروح والعقل والقلب، هم في حاجة للغذاء الروحي الإيماني والخلقي الذي يُشبعهم عاطفيا ويُرشدهم سلوكيا بضرورة الاستقامة على طاعة الله -جل وعلا-.

فالتربية الصحيحة تشكل أساسَ انطلاقتهم في الحياة وأساسَ شخصيتهم وهويتهم وقيمِهم وأفكارِهم وتوجهاتِهم.

وهذا هو الأهم الذي يحتاجه أولادنا اليوم.

فلو أننا تأملنا وأمعنا النظر جيدا فيما نشكوه من فساد أخلاق أولادنا وانحرافهم وطيشهم، لوجدنا أن سبب ذلك كلِّه هو تَرْكُ التربية البيتية، وإهمالُ التأديب في وقته.

فقبل أن نلوم الأولاد، وقبل أن نتدمر من أوضاع الحياة الصعبة التي تحيط بهم، وقبل أن نُدين عناصرَ الفتنةِ التي تتربص بهم.

علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحبهم حبا حقيقيا يدفعنا بصدق وإخلاص لنحسن تربيتهم

علينا أن نسأل أنفسنا هل استجبنا فيهم لأمر الله -تعالى- بتنشئتهم على الإيمان به وتوحيده؟ وهل عملنا على وقايتهم من سبل الغواية في الدنيا والهلاك في الآخرة؟ هل أنشأناهم على كريم الأخلاق؟ هل عاملناهم بالرحمة والعطف والمواساة؟

هل أولادنا أفلاذ أكبادنا أهَمُّ وأولى؟ أم أن مشاغلنا الدنيوية المادية مِن أموال ومناصب وديار وملاهي؟

أسئلة لا بد أن نجيب عنها بصدق، مع الاعتراف والإقرار بأننا مفرطون مقصرون، والدليل ما نراه في أجيالنا من عواقب ذلك، فهل من مذكر ومعتبر؟

وللحديث بقية إلى جمعة قادمة بحول الله؛ لأنه ما يزال في النفس شوق للحديث عن هذا الموضوع، فإلى ذلك الحين نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي