"لا إله إلا الله" موقعُها من الدين فوق ما يصفه الواصفون، ويعرفه العارفون، كلمةٌ جليلة، ذات فضائل عظيمة، وفواضل كريمة، ومزايا جمّة، لا يمكن لمخلوق استقصاؤها ولا حصرها، لها من المكانة ما لا يخطر ببال، ولها من المزايا ما لا يدور في خيال، فلأجل هذا الكَلِمَة...
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، تفرد بالجلال والكمال، وتنزه عن النظراء والأمثال، وأشهد أن "لا إله إلا الله" وحده لا شريك له، يتعبَّد الموحّدون بذكره: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) [الإسراء: 44]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله حتى يقرر أن "لا إله إلا الله"؛ فأقام الدين، ونشر التوحيد، وأوضح الشريعة، حتى توفَّاه الله -تعالى-، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، وأنوار الدجى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وأخلصوا العبادة لربكم تسعدوا وتفلحوا.
عباد الله: عندما حضرت نوحا -عليه السلام- الوفاة، وكان قد قضى في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو أطول تاريخ في الدعوة فقال وهو يُوصِي ابنه بخلاصة دعوته، وجِمَاعِ رسالته، وهو يلفظ آخر أنفاس الحياة: "يا بُنَي آمُرُكَ بِ "لا إله إلاّ الله"، فإن السموات السبع، والأرضين السبع لو وُضِعْنَ في كِفَّة، وَوُضِعَتْ "لا إله إلا الله" في كفة، لرجحت بهن "لا إله إلا الله"، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً لَفَصَمَتْهُنَّ "لا إله إلاّ الله"، هكذا أوصى نوح في آخر حياته.
"لا إله إلاّ الله" هي الوصية التي كان أنبياء الله يُوَدِّعُون بها الحياة: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 133]، هي الكلمة التي أُنْزِلَتْ بها الكتب، وبُعِثَتْ بها الرسل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].
"لا إله إلا الله" موقعُها من الدين فوق ما يصفه الواصفون، ويعرفه العارفون، كلمةٌ جليلة، ذات فضائل عظيمة، وفواضل كريمة، ومزايا جمّة، لا يمكن لمخلوق استقصاؤها ولا حصرها، لها من المكانة ما لا يخطر ببال، ولها من المزايا ما لا يدور في خيال، فلأجل هذا الكَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ، وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِهَا أَرْسَلَ الله -تعالى- رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ، وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبِهَا انْقَسَمَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَعَنْهَا وَعَنْ حُقُوقِهَا السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ، وَعَلَيْهَا يَقَعُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ حَقُّ الله عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، فَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَعَنْهَا يُسْأَلُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ.
عباد الله: هذه الكلمة خير كلمة قالها الأنبياء جميعًا، قال صلى الله عليه وسلمَ: "وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: "لَا إِلَهَ إِلَّا الله" وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
"لا إله إلا الله" أعلى شعب الإيمان؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة فأفضلها قول: "لا إله إلا الله", وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
هي أفضل الذكر وأعظمه؛ كما ثبت ذلك كما عند الترمذي وصححه الألباني.
"من قالها خالصاً من قلبه كان من أسعد الناس بشفاعة رسولنا"، كما في البخاري.
من قالها عُصم ماله ودمه وحَرُم التعرُّض له بقتل أو سلب مال أو غير ذلك من الأذى، يقول أسامة بن زيد -رضي الله-: "بَعَثَنَا رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا الله"، فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِي، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ "لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا! فَقَالَ: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ "لَا إِلَهَ إِلَّا الله؟"، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْم" [أخرجه البخاري ومسلم]، وسأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ مُشْرِكًا فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَأَبَانَ إِحْدَى يَدَيَّ بِضَرْبَتِهِ، أي قطع إحدى يدي، ثُمَّ قَدَرْتُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَالَ حِينَ أَرَدْتُ أَنْ أَهْوِيَ إِلَيْهِ بِسِلاحِي: "لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ"، أَقْتُلُه أَمْ أَتْرُكُهُ؟ قَالَ: "بَلِ اتْرُكْهُ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ؟ فَقَالَ: "وَإِنْ فَعَلَ"، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: "إِنْ قَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ يَقُولَ: "لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ"؛ فَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ".
"لا إله إلا الله"، شأنها عظيم؛ في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معاذ! فقال معاذ: لبيك يا رسول الله! وسعديك، فقال: يا معاذ! فقال معاذ: لبيك يا رسول الله! وسعديك، فقال صلى الله عليه وسلمَ الثالثة: يا معاذ! فقال معاذ: لبيك يا رسول الله! وسعديك، فقال صلى الله عليه وسلمَ: "ما من أحد يشهد أن "لا إله إلا الله"، وأن محمداً رسول الله، صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار"، الله أكبر! هذا الفضل العظيم لأجل هذه الكلمة العظيمة، وفي حديث عتبان عند الشيخين -رحمهما الله-: أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إن الله حرم على النار من قال: "لا إله إلا الله" يبتغي بذلك وجه الله" [متفق عليه].
الله أكبر! ما أعظم هذه الكلمة في لفظها ومعناها ومدلولها، وفضلها، وفي حديث البطاقة: "أن رجلا من أمتي يشخص به على رؤوس الخلائق يوم القيامة, فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا, كل سجل مثل مد البصر, ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب؛ فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب, فيقول الله -جلا جلاله-: بلى، إن لك عندنا حسنة, وإنه لا ظلم عليك اليوم, فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن "لا إله إلا الله", وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: فإنك لا تظلم, فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في كفة, فطاشت السجلات, وثقلت البطاقة, ولا يثقل مع اسم الله -تعالى- شيء" [صححه ابن حجر والألباني -رحمهما الله- وغيرهما]، قال سفيانُ بنُ عيينة -رحمه الله تعالى-: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرّفهم ب "لا إله إلا الله".
اللهمَّ أحينا على "لا إله إلا اللهُ"، وتوفّنا على هذه الكلمةِ، واجعلها آخرَ كلمةٍ نقولها في هذه الحياةِ.
أقولُ هذا القول، وأستغفر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
أما بعد:
عباد الله: فإن هذه الكلمة العظيمة التي بعث الله بها جميع الرسل يجب على المسلم أن يعرف معناها وفضلها وثوابها، وأن يعمل بمقتضاها.
أما معناها، فإن الذي يستحق العبادة هو الله وحده دون ما سواه، فلا معبود بحق سواه، وكل معبود سواه فباطل، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحـج: 62].
إخوة الإسلام: لا بدّ أن يعلم المسلم أن "لا إله إلا الله" لا تُقبل من قائلها بمجرّد نطقها باللسان فقط، بل لا بد من أداء حقها وفرضها، واستيفاء شروطها الواردة في الكتاب والسنة، جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قيل له: إن ناساً يقولون: من قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة؟! قال: "من قال: "لا إله إلا الله" فأدى حقها وفرضها دخل الجنة"، وقال وهب بن منبِّه لمن سأله: "أليس مفتاح الجنة "لا إله إلا الله"؟! قال: "بلى، لكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيتَ بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يفتح".
إن كلمة: "لا إله إلا الله" ليست اسمًا لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، أو لفظاً لا مضمون له؛ كما قد يظنُّه البعض، بل هو اسم لمعنى عظيم، وقولٌ له معنى جليل، هو أجلُّ من جميع المعاني في هذه الدنيا، وحاصله: البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال على الله وحده طمعاً ورغباً، إنابة وتوكلا، هيبة له وإجلالاً.
فصاحب "لا إله إلا الله" لا يسأل إلا الله.
صاحب "لا إله إلا الله" لا يستغيث ولا يتوسل إلا بالله، ولا يتوكَّل إلا على الله، ولا يرجو غير الله -جل وعلا-.
صاحب "لا إله إلا الله لا يذبح إلا لله، لا يصرف شيئاً من العبادة والخضوع والتذلل إلا لله وحده.
صاحب "لا إله إلا الله" لا يطوف على قبر ولا يعتقد في ولي أن ينفع أو يضر، ولا يدعوه من دون الله.
صاحب "لا إله إلا الله" لا يأتي ساحراً أو مشعوذاً أو كاهنا.
صاحب "لا إله إلا الله" لا يتطير ولا يتشاءم ولا يعلق تميمة أو حرزاً.
ف "لا إله إلا الله" -أيها الموحدون- تحرِّر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم إلى التعلق بالواحد الأحد الفرد الصمد -سبحانه-، فالله -جل وعلا- يقول لسيد الموحدين وأفضل العالمين نبينا محمد: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي) [الزمر: 11 - 14].
عباد الله: إن جميع أعمال الإسلام داخلة في شهادة أن "لا إله إلا الله"؛ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وكلِّ أمر أمر الله به ورسوله، وكل أمر نهى الله عنه ورسوله، فإنه لما منع بعض العرب الزكاة بعد موت النبي قاتلهم الصحابة -رَضي الله عنهم-، وقالوا: "إن الزكاة من حق "لا إله إلا الله".
تقتضي "لا إله إلا الله" -أيها الإخوة- أن تسلم المجتمعاتُ الإسلامية حكاماً ومحكومين، أن يسلموا الوجوهَ لله، وأن ينقادوا لأوامره، وأن يلتزموا ذلك في المنهج والعمل، وفقَ منهج كامل متكامل بكافة جوانب حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها، وأن تسير وفق ضوابط هذا الدين، ووفق تعاليمه وأهدافه ومقاصده، كما أقام بذلك نبينا محمد دولة الإسلام العظمى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
وإنَّا لنسألُ اللهَ -عز وجل- أنْ يجعلنا أجمعين من أهلِ "لا إله إلا اللهُ" حقًّا وصدقًا، إنَّه جلَّ وعلا سميعُ الدعاءِ، وأهلُ الرجاءِ، وهو حسبُنا ونِعمَ الوكيلِ.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي