الوقت مُنصرم بنفسه، مُنقضٍ بذاته؛ أي لا يحتاج إلى مَن يُديره ويُحرِّكه؛ ولذا فمَن غفَل عن نفسه، تصرَّمت أوقاته، وعَظُمت حَسراته، واشتدَّ فوَاته، والواردات سريعة الزوال، تمرُّ أسرعَ من السحاب، ويَنقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلاَّ أثرُه وحُكمه، فاختَرْ لنفسك...
الحمد لله...
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله الذي خلقَكم وسوَّاكم، ومن الخير زادَكم ومن الشر وقَاكم، وتذكَّروا نِعَمَه الغِزار التي لا حدَّ لها ولا حصر: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل: 18]، فجدِّدوا له -سبحانه- الشكر، وأكثِروا له من الحمْد، فهو وحْده المُستحق لذلك جلَّ في علاه.
ومن تلك النِّعم التي نتقلَّب فيها صباح مساء، وقد غفَل الكثيرون عنها، وقلَّ المُتنبهون لها، المستغلون لها بما يَنفعهم في الدنيا والآخرة: نعمة الوقت؛ يقول سبحانه مُذكِّرًا بهذه النعمة: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 33 - 34]، وفي آية أخرى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل: 12]، وقال سبحانه: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإسراء: 12].
فهذا الوقت الذي نعيش فيه من أجَلِّ النِّعم والمِنن، ومَن غفَل عنه فسيَندم كما يَندم الكفَّار إذا عايَنوا النار ووقَعوا فيها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر: 36 - 37]، فيُجابون: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37]، فجعَل سبحانه التعمير وطول العُمر موجِبًا للتذكُّر والاستبصار، وأقام العُمر الذي يحياه الإنسان حجَّة عليه؛ قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي أوَ ما عِشتم في الدنيا أعمارًا، لو كنتم ممن يَنتفع بالحقِّ، لانْتَفعتم به في مدَّة عُمركم".
ولذا كان طول العُمر حجَّة على ابن آدمَ؛ ففي الحديث: "أعذَر الله -عزَّ وجلَّ- إلى امرئٍ أخَّر أجَله؛ حتى بلَّغه ستين سنة" (رواه البخاري) أي أزال عُذره ولَم يُبقِ له موضعًا للاعتذار؛ إذ أمهَله طول هذه المدَّة المديدة من العُمر، فالزمن نعمة جلَّى، ومِنحة كُبرى، لا يَستفيد منها كلَّ الفائدة إلاَّ المُوفَّقون؛ كما أشار إلى ذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: "نعمتان مغبونٌ فيها كثيرٌ من الناس: الصحَّة، والفراغ" (رواه البخاري)، قال ابن القَيِّم: "فالوقت مُنصرم بنفسه، مُنقضٍ بذاته؛ أي لا يحتاج إلى مَن يُديره ويُحرِّكه؛ ولذا فمَن غفَل عن نفسه، تصرَّمت أوقاته، وعَظُمت حَسراته، واشتدَّ فوَاته، والواردات سريعة الزوال، تمرُّ أسرعَ من السحاب، ويَنقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلاَّ أثرُه وحُكمه، فاختَرْ لنفسك ما يعود عليك من وقتك؛ فإنه عائدٌ عليك لا مَحالة؛ لهذا يقال للسُّعداء في الجنة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، ويُقال للأشقياء المعذَّبين في النار: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [غافر: 75].
ولذا كان حِرص سلفنا الصالح على أوقاتهم شديدًا؛ يقول ابن مسعود -رضي َالله عنه-: "ما نَدِمت على شيء ندمي على يوم غرَبت شمسه، نقَص فيه أجلي، ولَم يَزِد فيه عملي"، وهذا ابن الجوزي يقول: "وقد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا يَنفع، أو بقراءة كتاب فيه غزلٌ وسمرٌ، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق"، وما ظنُّكم بما سيقوله ابن الجوزي لو رأى ما يقضي فيه كثير من المسلمين أوقاتهم في هذا الزمان، الذي كَثُرت فيه الصوارف، واسترخَص فيه أقوام أوقاتهم، فبذلوها فيما حرَّم الله عليهم، فإلى الله المُشتكى، وهو المستعان والمسؤول -جلَّ وعلا- أن يمنَّ علينا باستغلال أوقاتنا فيما يَنفعنا نده (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].
الحمد لله...
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله: اعْلَموا أنَّ الدنيا سريعة الانقضاء، فقد سمَّاها الله -تعالى-: متاعًا: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].
فخذوا من العاجل للآجل، وتزوَّدوا من الخير ما دُمتم قادرين على اكتسابه، وتذكَّروا واحْذروا أن تكونوا ممَّن يقولون يومَ القيامة: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99 - 100].
واستحضروا هذا المشهد العصيب والموقف العظيم: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر: 21]؛ فالسعيد حقًّا مَن اغتنَم أيامه، وحرَص على تقديم ما ينفعه عند ربِّه، والبائس المَغبون هو ذاك الذي لا تَزيده الأيام من الله إلاَّ بُعدًا، يرى الأيام تمضي تباعًا، فيفرح لقُرب ترقية، أو حصول علاوة، أو تحقُّق أُمنية، وهو غافل عن طاعة الله، مرتكب لِما نَهى الله، وما عَلِم المسكين أنَّ كلَّ يومٍ يمرُّ به يُدنيه من قبره، ويُباعده عن دنياه، وما أجمل أن يَعتني المسلم بوقته، فيَعمره بالخير وعمل البرِّ، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويعتني برأس ماله، وهو أداء الواجبات والانتهاء عن المحرَّمات، ثم يُسابق إلى الأرباح بفِعل المُستحبَّات، والتزوُّد بالأعمال الصالحات، فما رَبِح إلاَّ المُتقون، ولا خَسِر إلاَّ المُفرِّطون المُتقاعسون.
والحمد لله ربِّ العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي