أثر الكلمة الطيبة في المجتمعات

محمد بن حسن المريخي
عناصر الخطبة
  1. تهذيب الشريعة للمجتمع المسلم .
  2. سمو المجتمع الذي تنتشر فيه الكلمة الطيبة .
  3. أثر الكلمة الطيبة على المجتمع .
  4. دناءة المجتمع الذي تنشر فيه الكلمة الخبيثة .
  5. ذم الشريعة لنقلة الأخبار الكاذبة .
  6. خطر الكلمة على قائلها في الدنيا والآخرة .
  7. عظمة حق المسلم على أخيه .

اقتباس

إن المجتمع الذي تنتشر فيه الكلمة الطيبة الناصحة، والمحبة للخير لهو مجتمع مستقر آمن، ترفرف عليه رايات السعادة والمودة، فذلك يشعر بعضه ببعض، فلا تكاد تبرز فيه ثغرة إلا تسابق الناس في هذا المجتمع لسدها، ولا ترفع فيه أفعى أو حيّة رأسها تهم بأذية أحد إلا...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبطاعته تطيب وتكثر البركات، وتعم الخيرات، أحمده سبحانه وأشكره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: (اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

عباد الله: المجتمع الإسلامي مجتمع تحكمه شريعة الله -تعالى- وتعمل فيه نصوص القرآن والسنة، فتأمر وتنهى، وتقر وتنكر، إنه مجتمع تهذبت نفوس أفراده بدين الله، وخضعت فيه الرقاب لأمر الله، فهو مجتمع آمن مطمئن بدين الله، اجتمعت كلمة أهله، وحفظت فيه الكلمة، أو حفظ فيه حق الكلمة، وعلمت مدلولاتها، وأدرك المؤمنون خطورتها إذا خرجت معوجة، كما علموا وفائدتها ومنفعتها إذا قيلت خيّرة مستقيمة.

وإن المجتمع الذي تنتشر فيه الكلمة الطيبة الناصحة، والمحبة للخير لهو مجتمع مستقر آمن، ترفرف عليه رايات السعادة والمودة، فذلك يشعر بعضه ببعض، فلا تكاد تبرز فيه ثغرة إلا تسابق الناس في هذا المجتمع لسدها، ولا ترفع فيه أفعى أو حيّة رأسها، تهم بأذية أحد إلا وانهال الناس عليها لقتلها، والتخلص منها، ليبقى الناس في مجتمعهم آمنين مطمئنين، وإذا كثر أهل المعروف، ومن يشعر بالمسؤولية في هذا المجتمع، فإن الناس سينعمون -بإذن الله- بكل خير، وإن كان في المجتمع من الطفيليات والفقاعات والزبد التي تبرز هنا وهناك فلا يضر هذا لضعف هذه الطفيليات أمام أهل الخير والمعروف.

أقول هذا -معشر المسلمين- مبيناً أثر الكلمة الطيبة، وأثر الرجال الخيرين، وأهل المعروف الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه ربهم -عز وجل-، ثم تجاه عباد الله من الرأفة بهم ورعايتهم، ومظهراً حال المجتمع الذي تغلب فيه الكلمة الطيبة وتنتشر، من اجتماع كلمة أهله، والتقائهم على الخير، وبذل المعروف، والأمر به، والنهي عن المنكر في هذا المجتمع، ورد الظالم وردع السفيه والمغرض، وزجر المفسد، وقطع الطريق على الخبيث الذي يهدم ولا يبني، ويدمر ولا يعمر، هذا هو المجتمع الإسلامي المتعاون على البر والتقوى.

أما المجتمع الذي تفتح فيه الأبواب للكلمة الخبيثة تعمل فيه شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، تصبح بين أهله وتمسي معهم، فهذا مجتمع الشر الذي لا يخفى عليكم حاله، وأعني بالكلمة الخبيثة: أهل النميمة الذين ينقلون الكلام بعد أن يزيدوا عليه، من هذا إلى ذاك، ومن هذه إلى تلك، وأعني نقلة الأخبار الملفقة والروايات المكذوبة، ينشرون ذلك في المجتمع لأغراض دنيئة، يبلبلون بها الأفكار، ويقلقون بها الناس، ويكدرون بها سعادتهم، فهذا مجتمع يحتضر وسوف يكبر عليه أربعاً، إنه مجتمع يضيع فيه حق الرجال الشرفاء، وتغيب فيه مروءة أهل المروءة، ويجوع فيه المسكين والفقير، ويكون لمن لا مقام له مكان وشأن، والنطيحة والمتردية كلمة، ولمن لا يعرف دين الله أو من لا يقيم للدين وزناً ولا يرفع به رأساً يكون له ما يكون من الأقوال والأفعال التي يغتر بها البعض ممن لا يميزون.

وأشد من يفسد المجتمعات، ويفرق الكلمات، ويشق الصفوف، من يتصف بهذا الخلق الذميم، والتصرف الممقوت صاحب الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.

ومن شدة خطورة هذه الفئة صاحبة هذا الخلق؛ حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- لخطورة وشدة إفساده، فقال: "وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية: "إن من شر الناس ذا الوجهين..."، وجعله النووي -رحمه الله- عنواناً من عناوينه على صحيح مسلم، فقال: "باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله"، ثم قال: "تسميته بأنه من شرار الناس؛ لأن فعله نفاق محض وخداع وتحيّل على اطلاعه على أسرار الفريقين، وهو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها ويظهر لها أنه منها في خير أو شر وهي مداهنة محرمة"، وقال ابن حجر -رحمه الله-: "وصفه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بشر الناس مبالغة في التحذير من هذا الخلق الذميم" فصاحب الوجهين منافق معلوم النفاق، يتخلق بأخلاق المنافقين، ويسير في ركابهم، ويضار المؤمنين في مجتمعاتهم، ويضرم نار العداوة بينهم.

إن ذا الوجهين -يا عباد الله- يجمع بمحاولاته بين مجموعة من المحرمات، يرتكبها عمداً ومع سبق الإصرار تدفعه إلى ذلك نفسه المريضة وأغراضه الدنيئة، فتحمله على الكذب، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار كما صح الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما تحمله على النميمة واليمين الفاجرة، والهمز والغيبة، وكل هذا جالب لسخط الله وغضبه، ووسائل لإهلاكه، وتعرضه للوعيد: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم: 10 - 12]، وتدفعه نفسه الخبيثة إلى خيانة أمانة نقل الحديث للتقرب بها إلى المنقول إليه، وفي هذا تعاون على الإثم والعدوان، وصح عن رسول الله أنه قال: "لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"، وفي هذا قطع على ذي الوجهين، والحد من إفساده، وإرضاءً لله ثم للضمير.

أيها المسلمون: إن خطورة الكلمة على العبد في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فإنه بكلامه القبيح ونقله للكلام يحدث فتناً، ويشق الصفوف، ويقطع أرحاماً، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل، ويصبح ذميماً مبغوضاً مكروهاً بين الناس إذا عرف بإفساده، ويكفي هذا إثماً وحقارة له، وإن صاحب الكلام الكثير يكفيه أن الناس يكرهون منه كثرة كلامه فيلقبونه بالثرثار، وهو كثير الكلام، ومن كثر كلامه كثرت زلاته وذنوبه.

أما في الآخرة فإن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أخبر أن العبد تزل به الكلمة الخبيثة في النار فقال: "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم"، وفي رواية: "ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" [رواه البخاري ومسلم]، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن الكلام الخبيث يكب الناس في النار منكسين على مناخرهم لشدة إثمهم ووزرهم، فقال وقد نصح معاذ بن جبل فقال له: "كف عليك هذا"  (يعني اللسان) قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" [رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"].

وقبل هذا قال الله -تعالى- متوعداً: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24].

وإن الكلمة المنقولة من هذا إلى ذاك لا تأتي -عباد الله- بلا سبب ولكنه تدفعها دوافع كالحسد والكراهية والرغبة في تحقيق مطامع خاصة، ويكفي في ناقل النميمة أن الله -تعالى- سماه: فاسقاً؛ كما في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6].

فيا أيها المسلمون: استيقظوا من نومكم، وانتبهوا لأصحاب السلوكيات المغرضة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فإن حق المسلم على المسلم كبير وعظيم؛ كما قال رسول الله: "المسلم أخو المسلم"، فانظر -يا رعاك الله- حق أخيك ابن أمك وأبيك عليك، فإذا علمته فأعلم أن أخوة الإسلام أعظم من أخوة النسب، فحق المسلم أخيك عليك أن لا تصدق النمام فيه، ووالله لو كان في هذا النمام خير ما اتصف بهذا الخلق الذي توعد عليه الله ورسوله، وحق أخيك أن تنهى هذا المغرض عن سلوكه هذا، وتبين له مقام أخيك المنقول الكلام فيه، وأن تبغض هذا البغيض المفسد، وإن من حق أخيك أن لا تظن به ظن السوء، وأن لا تتجسس عليه قال أو لم يقل.

أسأل الله -سبحانه- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأن يجنبنا سيئها إنه سميع مجيب.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي