قال ابن أبي جمرة -رحمه الله-: "وددت لو كان من الفقهاء من لا يشغل نفسه إلا تعليم الناس مقاصدهم ونواياهم، وودت أنه كان من الفقهاء من يشغل نفسه بالتدريس إلا في باب النوايا"، فالنوايا هذه بحاجة إلى إصلاح نوايا العباد، ومقاصد العباد بحاجة إلى أن تكون على مقتضى الشريعة، هذا من الأمور المهمة التي ينبغي بل ويجب على كل مسلم أن يفتِّش عن نواياه، وأن يسعى في إصلاح مقاصده ونواياه، وإلا كان العطب وكان الهلاك عياذًا بالله.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد سبق أن ذكرنا في الخطب الماضية أعمال القلب وقواه وجنوده، وأن القلب يصلح ويتم صلاحه بجنوده، وكذلك بتصريف قواه بالتصاريف الشرعية.
ألا وإن مما هو من أعمال القلب النوايا والمقاصد، فقد أجمع العلماء على أن النية محلها القلب؛ فالقلب يصلح بصلاح النية، ويفسد بفساد النية، فرأينا أن نطرق هذا الموضوع أولا وهو إصلاح النية.
النية وردت بهذا اللفظ في السنة المطهرة، وهي في القرآن الكريم ترد بلفظ الإرادة، وبلفظ الابتغاء، وغير ذلك من الألفاظ، وهي بلفظ الإرادة أكثر والله -عز وجل- متصف بالإرادة، وليس متصفًا بالنية، والإرادة أعم من النية، والنية بيَّنتها السنة أيما بيان فقد روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.." إلى آخر الحديث.
هذا الحديث تكلم العلماء في بيان عظمته، وبيان عمومه ونفعه، وأهمية فهمه والتفقه فيه، فلهذا أجمع العلماء على أنه من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولا يختلفون أنه من جوامع الكلم التي أوتيها رسولنا الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك أيضًا ذكر عددًا كبيرًا منهم من غير مخالف لهم أن هذا الحديث من أصول الدين، وأنه من قواعده العظمى وأنه من الشرع المبين.
كذلك أيضًا بعض العلماء جعلوا هذا الحديث جعلوه ربع الإسلام، ولا نعلم أنهم يختلفون في ذلك، ومنهم من جعله ثلث الإسلام، ومنهم من جعله نصف الإسلام؛ لأنهم جعلوا الإسلام أعمالاً ظاهرة وأعمالاً باطنة فجعلوه حاكمًا على الأعمال الباطنة، فقالوا هو من هذا الباب نصف الإسلام وبعضهم جعله الإسلام كله لاشتماله على الأعمال الظاهرة كما سيأتي بعد قليل إيضاح ذلك.
فهذا الحديث العظيم عوَّل عليه أهل العلم وبنوا عليه الأعمال، وعرفوا من هذا الحديث العظيم أن الأعمال لا تقوم إلا بالنوايا ولا يُعتد بها ويعتبر بها إلا بحسب النوايا والمقاصد والنية هي أن يطلب العبد ما عند الله، وأن يبتغي ما دعاه الله إلى ابتغائه عنده -سبحانه وتعالى-، فمتى كانت نية العبد النية التي تُرضي الله في طلب الأجر من الله وفي الإخلاص لله وفي ابتغاء ما عند الله فتلك نية صالحة.
والعلماء -رحمهم الله تعالى- قد بينوا أهمية صلاح النية من أجل أن تصلح الأعمال، ولهذا قال جعفر بن حيان -رحمه الله-: "النية ملاك الأعمال فبصحتها تصح وبفسادها تفسد" الأثر أخرجه أحمد في الزهد وهو صحيح وقال مطرف بن عبدالله كما في الزهد عند أحمد وعند أبي نعيم قال: "لا صلاح للقلب إلا بصلاح الأعمال، ولا صلاح للأعمال إلا بصلاح النية" والأثر حسن.
وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "النية معيار الأعمال لتصحيحها، فإن كانت صالحة صلحت الأعمال، وإن كانت فاسدة فسدت الأعمال".
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص -رحمه الله تعالى- عن معقل بن عبيد الله الجزري قال: "كان العلماء اذا التقوا تواصوا بثلاثٍ، وإذا غابوا كتب بعضهم بها إلى بعض وهي: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح آخرته كفاه الله أمر دنياه".
وكذلك أخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص عن أبي حازم -رحمه الله- أنه قال: "إذا صلحت الضمائر غفرت الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام جاءته الفتوح"، أي يفتح الله عليه بمفاتيح الخير من أنواع الأعمال الطيبة بسبب صلاح النية.
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "المعول عليه في النوايا والمقاصد والإيرادات النية فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهبًا، ويقلب ذهبها خبثًا".
وصح عن بلال بن سعد -رحمه الله- أنه قال: "لا تكن وليًّا في الله في الظاهر عدوًّا لله في الباطن"، فإصلاح النية أساس الخير كله، والنية الصالحة هي روح الأعمال ولبّها وقوامها، وهي الخير كله؛ فإن المؤمن يبلغ بنيته الصالحة مبلغًا عظيمًا من الخير والقبول عند الله -عز وجل-.
فيا معشر المسلمين: المطلوب إصلاح النوايا والمقاصد، وإلا حصل من الخراب والفساد والضياع ما لم يكن في الحسبان ولعظمة حديث عمر وهو "إنما الأعمال بالنيات"، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "ينبغي أن يعقد على هذا الحديث سبعون باب من أبواب الفقه".
وقال ابن أبي جمرة -رحمه الله تعالى-: "وددت لو كان من الفقهاء من لا يشغل نفسه إلا تعليم الناس مقاصدهم ونواياهم، وودت أنه كان من الفقهاء من يشغل نفسه بالتدريس إلا في باب النوايا"، فالنوايا هذه بحاجة إلى إصلاح نوايا العباد ومقاصد العباد بحاجة إلى أن تكون على مقتضى الشريعة، هذا من الأمور المهمة التي ينبغي بل ويجب على كل مسلم أن يفتش عن نواياه، وأن يسعى في إصلاح مقاصده ونواياه، وإلا كان العطب وكان الهلاك عياذًا بالله.
نأتي إلى الحديث المبارك ألا وهو "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، ذكر بعض العلماء أن "إنما" هذه تفيد الحصر بالاتفاق، وهي كذلك فقوله "إنما" حصر أداة حصر أي: إنما يعتد بالأعمال بالنيات وبدون النيات لا يعتد بها، والأعمال الداخلة في هذا اللفظ أعمال القلوب بإجماع العلماء أنه لا يعتد بها، ولا تكون صالحة ولا مقبولة عند الله ولا سببًا لرفعة صاحبها، وتكفير سيئاته ومغفرة ذنوبه ورفع درجاته إلا أن تكون قائمة مبنية على النية الصحيحة والنية الطيبة.
هذا في أعمال القلوب، ولهذا روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فالله يريد قلوبنا، ويريد أعمال قلوبنا، فانظر إلى ماذا في قلبك من أنواع النوايا والمقاصد والعزائم والحرص والحب، وغير ذلك من أعمال القلوب.
كذلك يدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما الأعمال بالنيات"، الأعمال المباحة، فالأعمال المباحة بالنيات الصالحة تنقلب إلى عبادات وقربات؛ كما أن الأعمال المباحة بالنيات الفاسدة تنقلب إلى معاصٍ ومنكرات، وكذلك أيضًا أعمال الجوارح من أقوال وغير ذلك من أعمال الجوارح هذه إذا كانت طاعات لله فتقبل عند الله بسبب أنها طاعات، وبسبب صلاح النية، فإن افتقدت أعمال الجوارح الصالحة إن افتقدت النية الصالحة كانت أعمال منافقين، فإذا كانت هذه الأعمال الصالحة مبنية على النية الصالحة كانت مقبولة عند الله.
ويخرج من قوله "إنما الأعمال بالنيات"، أعمال الجوارح التي هي معاصي، فإن أعمال الجوارح إذا كانت معاصي لا تنقلب طاعات بالنية الطيبة، فبعضهم قد يظن أن المعصية والظلم وأن المخالفة لشرع الله تكون طاعة بصلاح نيته، لا، النية لا تجعل الفاسد صالحًا بهذا المفهوم الذي عندهم فما كان معصية في حكم الشريعة فهو معصية كما سمعت.
إذًا فقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما الأعمال بالنيات"، سمعتم المراد بالأعمال وماذا تشمل هذه اللفظة الكريمة قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" دلَّ هذا اللفظ الكريم بأن الناس بحسب نواياهم إن خيرًا فخيرٌ وإن شرُّا فشر".
فانظر إلى نياتك، فمن هنا نحتاج إلى شيء من التفاصيل في أمر النية؛ فالنية مشروطة في العبادات؛ إذ لا تصح العبادات إلا بالنية التي دعا الله العبد إلى أن يتصف بهذه النية.
فالعبادات من أنواع الصلوات والصيام والزكوات، وقراءة القرآن والحج، والجهاد في سبيل الله، وهكذا أيضًا من أنواع الذبائح والكفارات، وغير ذلك من أنواع العبادات لا تقبل عند الله إلا إذا كانت نية العابد نية صالحة بمقتضى حكم الشريعة على هذه النية.
فانظر يا عبد الله إلى نيتك في أمر العبادة، ولهذا النية الصالحة، إنها سببٌ لتصفية العبادة من الشوائب والخبائث والأغراض السيئة، فالنية الصالحة سببٌ لتصفية العبادة من الرياء، وكذلك أيضًا إلى جانب تصفيتها من الرياء سببًا لتصفيتها من المفاخرة ومن المباهاة وكذلك أيضًا سبب لتصفيتها من أنواع أخرى مما يشوب الأعمال والعبادات.
فيا أيها المسلم! إن النية الصالحة رأس مالك، فعندما تكون نيتك طيبة فأبشر، وعندما تكون صالحة فأبشر بالقبول عند الله، وعندما تكون حسنة فأبشر بحسن الأعمال، فلهذا المطلوب من الناس أن يحرصوا على تحقيق النية في أمر العبادات بحيث لا يندفع إلى العبادة إلا لأنه ناوٍ نية طيبة لا رياء ولا مفاخرة ولا مباهاة ولا تصنُّع ولا شيء من الشوائب التي ذمتها الشريعة والتي منعت منها الشريعة.
فالنية حارسة لأمر العبادة، والنية تفرق بين عبادة وعبادة؛ فالنية يفرَّق بها بين طاعة وطاعة بين صيام وصيام، وبين صلاة وصلاة، وبين صدقة وصدقة إلى غير ذلك، هذا مطلوب، النية التي مظهرها واحد لكن بالنية يفرَّق بين ما كان واجبًا وبين ما كان مستحبًّا، ما كان فرضًا وركنًا من أركان الدين وما كان طاعة ومستحبًّا إلى غير ذلك من فوائد النية، ومما تفعله النية ويكون مما دعينا إليه شرعًا أن يكون هذا بسبب صلاح النية.
إذاً أمر العبادات لا بد فيها من صلاح النية قبل العبادة وعند العبادة حتى تنقضي العبادة والعبد على نيته الصالحة، فالشخص إذا جاء ليصلي مثلاً فإن كانت نيته صالحة أنه جاء ليعبد الله، وليؤدي ما فرَض الله عليه لينال ما عند الله من الأجر والمثوبة ومن التكفير للسيئات؛ فهذه نية طيبة، فإذا دخل في الصلاة وهذه النية باقية فهذا هو المطلوب فإذا دخل في الصلاة، وتغيرت هذه النية إلى شيء آخر، فهذا من الفساد الطارئ الذي ينبغي أن يحافظ على الصلاة والعبادة من هذا الشائب، ومن غيره من الشوائب؛ فلهذا المطلوب أن تستمر النية في حال أداء العبادة إلى أن تنتهي العبادة، فكم من شخص يبدأ في العبادة بنية طيبة، وينتهي بنية خبيثة نية قد انحرفت إلى ما حرم الله -سبحانه وتعالى-.
فلهذا يا معشر المسلمين! أخلصوا العبادة لله بإصلاح النوايا أن يقصد وجهه، وأن يبتغي ما عنده -سبحانه وتعالى-، فالنية الطيبة هي أساس قبول الأعمال أعمال القلوب، وهكذا الأعمال الظاهرة فلا قبول لها إلا أن تكن النية صالحة كما أراد الله، وفي الأعمال الظاهرة يشترط أيضًا أن تكون موافقة لشرع الله لهدي رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
هذا ما تعلق في أمر النية في باب العبادات، وما أكثر الذين تكون عبادتهم مشوبة بخلاف النية الطيبة مشوبة بخلاف ذلك، ولهذا قد جاء في مسلم من حديث أبي هريرة أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: "أول من تسعر بهم النار ثلاثة"، وذكر "العالم والمجاهد في سبيل الله والمنفق في مرضاة الله"؛ هؤلاء الثلاثة لما تحولت نواياهم إلى مقاصد لا ترضي الله بل تغضبه كان هذا مآلهم.
إذا صار العالم يعلِّم لأجل الجاه أو الملك أو المال أو السمعة والثناء، وما أشبه ذلك فسد علمه بفساد نيته، وإذا كان المنفق ينفق الأموال في أبواب الخير وفي الطاعة وفي إصلاح حال الناس لكن نيته أن يقال: إنه جواد، وإنه كريم، وإنه رحيم، وإنه مشفق إلى آخره، أفسد هذا العمل العظيم، وهكذا المجاهد في سبيل الله إذا خرج يجاهد لتُرَى شجاعته وترى قوته، ومكانته أو لينال من حطام الدنيا كالغنائم، وأشبه ذلك فسد جهاده بفساد نيته فيا عباد الله، الله الله في إصلاح الأعمال بصلاح النية، فالنية بحاجة إلى محافظة عليها فهي رأس مالك، وهي سائقنا إلى الجنة أو إلى النار.
انتبهوا عباد الله! فإن الأمر خطير، ولهذا فارق المؤمن الصادق المنافقين بصلاح النية؛ فالمنافق يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويحج كما نحج إلى آخره، ولكنَّ أعماله هذه لا تنفع عند الله، بل هو في الدرك الأسفل من النار، إذا كان نفاقه نفاقًا أكبر وهو أنه لا يريد الإسلام، وإنما يعمل بهذه الطاعات من أجل عصمة ماله وعصمة دمه وعرضه ليعيش في أوساط المسلمين عياذًا بالله فيا من تريد أن تقبل عند الله فقبولك حقيقته بصدق النية وإخلاص الأعمال لله الواحد القهار -سبحانه وتعالى-.
فانظروا في هذا الأمر، وأعيدوا النظر في هذا الأمر ما وجدتم في هذا سبيلاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فالمطلوب إصلاح النية في باب المعاملات، وهذا أمر مهم، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، ويحرم منه كثير من الناس، أخرج البيهقي في الشعب بإسناد جيد عن ابن المبارك -رحمه الله- قال:"خصلتان حرمهما الناس؛ الحسبة في الاكتساب، والحسبة في النفقة".
وذكر ابن الجوزي -رحمه الله- في تلبيس إبليس قال: "ومن جمَع المال بنية طيبة فجمعه أفضل من تركه بلا خلاف بين العلماء".
فلهذا المعاملات بين الناس المطلوب أن تكون مبنية على النية الصالحة، وإلا حصل من الخراب ومن الفساد ما حصل، روى الإمام البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ"، هذا سبب فساد النية، وهذا الذي يقضي الله عنه ويسهل أمره ويفرِّج كربه سببه إصلاح النية، هذا هو الفارق بين الصنفين، فانظر كيف تتعامل مع الناس في باب التجارة، في باب الزراعة، في باب الإيجارات، في باب الأعمال الوظيفية في كل شيء في المعاملات مع الناس في النكاح في أمر الرضاع في غير ذلك من أنواع المعاملة مع الناس.
المطلوب أن تكون النية في ذلك صالحة وإلا حصل بسبب فساد النية من عدم الاعتداد بهذه الأعمال الظاهرات، وإن كانت في أصلها مباحة، فالذي يكتسب الأموال عن طريق التجارة أو الزراعة أو الوظيفة أو غير ذلك من اكتساب الأعمال إن كانت نيته صالحة، فإنه على عبادة وفي جهاد في سبيل الله، وإن كانت نيته فاسدة فإنه إن كان في حدود الحلال حُرم من الأجر والثواب؛ لعدم احتسابه عند الله.
فمن اكتسب المال واقتنع بالحلال ولم يقترف الحرام واكتسب المال لنوايا طيبة من أجل أن يعفَّ نفسه عن الحرام، ومن أجل أن يؤدي الواجبات التي عليه؛ ينفق على من أوجب الله عليه أن ينفق عليهم، ومن أجل يتصدق، ومن أن يفعل الخير، ومن أن يؤجر عند الله، هذه عبادات كلها في كسب المال عندما تكون النوايا على ما سمعت؛ فإذا كانت النوايا ليست حول ما يوافق شرع الله في أمر الاكتساب فيحرم الشخص ما يحرم.
كذلك أيضًا النية الصالحة إنها مانعة من الحِيَل ومن الغشّ والخداع والخيانة، والمكر والغدر؛ فإن الذي عنده نية صالحة لا يقبل النوايا الخبيثة، ولا يقبل التعامل بالمعاملة السيئة مع الناس؛ لأنه يرجو الله ويخاف عذاب الله، ويعلم أن الله يراه وأن الله يسمعه ويعلمه، فتكون نيته الطيبة كما سمعت تكون حائلة بينه وبين هذه المفاسد وبين هذه الانحرافات فما أحوجنا إلى إصلاح النية.
وهكذا احتساب النفقة المطلوب أن تكون في ذلك نية طيبة، وذلك أن المسلم عندما ينفق على نفسه وعلى ولده وعلى أهله وعلى من ينفق عليهم يحتسب ذلك عند الله يريد الأجر والمثوبة من الله، ويفعل ذلك ابتغاء ما عند الله، ويفعل ذلك من باب أن الله أمرَه وفرض عليه أن يصرف المال في أبواب الخير، وحرَّم عليه أن يبدِّده في أبواب الشر، فمتى كانت النية هكذا، فهي نية طيبة، والحمد لله.
معاشر المسلمين: أعيدوا النظر ولا بد في إصلاح النوايا في التعامل مع الناس أخرج أبو داود وغيره من حديث ابن عمر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع"، فشخص يدخل بين متخاصمين ونيته فاسدة؛ نيته التحريش، نيته الإفساد، وإن كان في المظهر أنه مصلح وأنه فاعل خير، وقد يؤكد لنا هذا بيمينه والله كذا.. وقد يكون صادقًا وقد يكون غير صادق، فإن كان غير صادق فهذا كثير ما يبتلى به الناس أنهم إذا جاءت الفتن يدخلون فيها بنوايا سيئة لا للإصلاح الشرعي الحقيقي.
أيها الناس: أعيدوا النظر في أمر النية في التعامل مع الناس روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل" أي: دخل النار بجُرم قتله "فما بال المقتول؟"، باعتبار أنه مظلوم، قال: "لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه".
فلنطهر قلوبنا من أيّ نوع من أنواع الإضرار بالناس ما دام أنه يخالف شرع الله، فليطهر العبد نفسه فلا ينوي ولا يرغب ولا يري ولا يرضى بشرٍّ لأحدٍ من الناس، بل يحب الخير للناس، ولهذا قال بعض العلماء: "من أراد عملاً لا ينقطع من الخير فلتكن نيته صالحة".
من كانت نيته طيبة فعلمه الخيري لا ينقطع بهذه النية، وأما العبادات فالصلاة أنت تؤدي في اليوم والليلة خمس صلوات تأخذ منك نصف ساعة وانتهى، وبقية الوقت بدون صلاة، والصيام هو في السنة شهر فقط، والزكاة هي في السنة مرة فقط، والحج فرض في العمر مرة فقط، لكن العمل المستمر الذي فيه الأجور الكثيرة؛ أن المسلم يصلح قلبه، وينوي النوايا الطيبة المباركة في أنه يريد الله، ويريد ما عند الله، ويريد الخير للناس وإن آذوه وإن أساؤوا إليه لا يقصد بهم شرًّا، ولا ينوي فيهم ضررًا، بل يحب لهم الخير ويتعامل معهم بمقتضى الشريعة.
إذًا إصلاح النية أمر سهل على من سهله الله، نسأل الله أن يصلح نوايانا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي