عندما نقرأ تفاصيل هذه المعركة نعجب جدًّا من وجود هذه الأخطاء؛ لأن الجيش فيه كفاءات عسكرية كبيرة؛ يقوده الرسول-عليه الصلاة والسلام- بحكمته العسكرية المعروفة، وبدقته في إدارة الأمور، ويضم بين صفوفه قادة عسكريين كبار كخالد بن الوليد، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، وغيرهم من القادة العسكريين، فكيف يحدث هذا القصور؟!...
الحمد لله معزّ من أطاعه واتقاه، ومذلّ من خالف أمره وعصاه، قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، ينصر من نصره، أحمده -سبحانه- وأشكره حمدًا وشكرًا يملآن أرضه وسماه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ولكل من نصره ووالاه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
عباد الله: لقد كان فتح مكة فتحًا عظيمًا للمسلمين، إذ أصبحوا قوة ترهبها العرب, وقد دفع هذا دفع الفتح بالكثير من أهل قبائل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن بعض هذه القبائل أخذت موقفًا معاديًا من الإسلام، حيث شعرت أن هذا النمو السريع والمتعاظم يهدد وجودها وكيانها خلال زمن قصير لقربها من مكة, ومن أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العُدَّة لحرب الدولة الإسلامية قبل أن يستقر لها الوضع.
وكان من أكبر وأقوى القبائل التي أخذت هذا النهج المعادي للمسلمين قبيلة هَوازِن، إذ كانت انتصارات الرسول -عليه الصلاة والسلام- المتكررة تمثل خطر كبير عليهم، فمنازل هوازن قريبة جدًّا من مكة المكرمة في الشمال الشرقيّ منها، ولا يستبعد أن تكون الدائرة عليهم في المرة القادمة.
وهوازن قبائل كثيرة ومن أشهرها ثلاث قبائل؛ وهم بنو نصر، وبنو سعد الذين أرضعوا الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وقبيلة ثقيف, والتجمع الرئيسي لقبائل هوازن هو في الشمال الشرقي من مكة، لكن ثقيف استقرت في مدينة الطائف في الجنوب الشرقي من مكة.
وكانت ثقيف من أهم القبائل العربية ومن أقواها, وكانت الطائف هي المدينة المهمة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة المكرمة، وأعظم سادة في الجزيرة العربية كانوا سادة مكة والطائف، أي قبيلتا قريش وثقيف، وكانت ثقيف تشعر بمساواة دائمة مع قريش، بل كانت تشعر بالتفوق عليها عسكريًّا واقتصاديًّا وعدديًّا؛ التجارة فيها رائجة عندهم، لولا أن قريشا كانت ترعى البيت الحرام المعظَّم عند العرب، وهذا كان يرفع منزلة قريش فوق ثقيف، ولكن ذلك لم يغيِّر من العَلاقة القبلية المتنافرة بين القبيلتين الكبيرتين.
لأجل ذلك كان إسلام ثقيف صعبًا، ولهذا عودي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عندما ذهب إلى الطائف؛ لأنه في نظرهم قرشي، ولم يسلم في هذه الزيارة ثقفي واحد، وقد تأخر إسلامهم كثيرًا، ومعظمهم لم يؤمنوا إلا في العام الثامن الهجري، والكلام نفسه يصدق على هوازن وبني سعد، فقد تأخر إسلامهم أيضاً.
كعادة العرب كانت هوازن بفروعها الثلاث بني نصر، وبني سعد، وثقيف, يعيشون حياة التفرُّق, لم تتوحد في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد, حتى الفترة التي سبقت فتح مكة, حين ظهرت شخصية هوازنية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة، وغيّرت كل شيء فيها، وهي شخصية مالك بن عوف من بني نصر من هوازن, وهو شاب لم يبلغ الثلاثين من عمره بعدُ، ولكنه كان يملك ملكات قيادية وعسكرية متميزة، كما كان خطيبًا مفوَّهًا بارعاً، له قدرة كبيرة على التأثير في الناس وجمعهم.
بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن بل وقبائل العرب، فهذه هي المرة الأولى التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة, وهذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، وخاصةً أنه من بني نصر، وجمع تحت رايته ثقيفًا، وهي أعظم قبائل هوازن وأعزها، ومع ذلك قَبِلت أن يقود رجالها مالك بن عوف النصري وتنضوي تحت إمرته.
عباد الله: لقد جمع مالك أكثر من خمسة وعشرين ألف مقاتل، وهذا رقم كبير يُجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبةً، جمعهم العصبية القبليَّة وأذكى في نفوسهم نارها، وكان المبدأ: "أن محمد من قريش"، مع أن الرسول-عليه الصلاة والسلام- ما سعى قَطُّ إلى تجميع القرشيين قبلياً، بل على العكس فقد كان العدو الأكبر للرسول-عليه الصلاة والسلام- قبيلته قبيلة قريش، وكان جيشه -عليه الصلاة والسلام- يضم أفرادًا من كافة قبائل العرب.
وقف مالك بن عوف يحرض قومه ويشجعهم, قائلاً: "إن محمدًا لم يقاتل قَطُّ قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم، أما نحن فأهل الحرب، وإذا التقينا سيكون الظفر لنا".
وقد أمر أن تؤخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال، وكل ممتلكات قومه إلى أرض المعركة، فتوضع خلف الجيش؛ تحفيزًا لهم على القتال, وقد حاول بعض الحكماء في هوازن أن يرفضوا هذه الفكرة, وكان منهم دُرَيد بن الصِّمَّة الذي نصح قومه بقوله: "يا معشر هوازن! والله ما هذا لكم برأي، إن هذا فاضحكم في عورتكم -يقصد النساء والأطفال-، وممكِّن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم". لكن كلامه لم يصغَ إليه وانصرفوا واتركوه.
وخرج مالك بالجيش إلى سهل أوطاس بالقرب من حُنَيْن، وبدأ بالفعل في تنظيم جيشههناك، ووضع الكمائن على جانبي سهل حُنَيْن حيث سيمرُّ المسلمون فيه, ورتب جيشه في صفوف متوازية، ووضع الخيل في المقدمة، ثم الرَّجَّالة خلفهم، ثم وضع النساء فوق الإبل خلف الرجال؛ لكي يوهم المسلمين أن هناك عددًا كبيرًا من الجنود فوق الجمال؛ فيتزايد العدد إلى الأضعاف، ويؤثر ذلك سلبًا في نفسية المسلمين, ثم صفَّ بعد ذلك الغنم، وأخيرًا النَّعَم, ولقد كان هذا الترتيب بالفعل ترتيبًا عسكريًّا في غاية الإتقان، حتى إن أنس بن مالك -رضي الله عنه- وصف جيش هوازن بقوله: "فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت".
عباد الله: نقل الاستطلاع الإسلامي إلى الرسول-عليه الصلاة والسلام- أخبار هوازن، واستعدادها للحرب، وأن هوازن قد جاءت عن بكرة أبيها بنسائهم ونعمهم وشائهم, فتبسم الرسول -عليه الصلاة والسلام- وقال: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
وبدأ الرسول في إعداد العُدَّة, وكان إعداده -عليه الصلاة والسلام- فعلاً على أعلى مستوى, فقد قرر الخروج للقتال في مكان متوسط بين هوازن ومكة، وآثر ألاّ ينتظر بمكة؛ لأنه لو بقي في مكة وغزتها هوازن، فقد يتعاون بعض أهل مكة معهم؛ لأنهم حديثو عهد بشركٍ وجاهلية، وستصبح الحرب من الداخل والخارج.
كما قرر أن يخرج بكامل قوته العسكرية، ويأخذ معه العشرة آلاف مقاتل الذين فتح بهم مكة من قبل؛ لأن أعداد هوازن ضخمة وكبيرة, وأخذ معه من داخل مكة المكرمة ألفين من المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح، ليشعرهم الرسول-عليه الصلاة والسلام- بقربهم منه وثقته فيهم، وهذا أدعى إلى تثبيت أقدامهم في الإسلام، إضافةً إلى وجود غنائم كثيرة، فإذا أعطاهم-عليه الصلاة والسلام- نصيبهم من هذه الغنائم، سيكون ذلك تأليفًا لقلوبهم. وأصبح الجيش الإسلامي بعد إضافة الألفين اثني عشر ألفًا، وهذا أكبر عدد في تاريخ المسلمين حتى الآن, هذا من حيث الرجال.
أما من حيث السلاح فلم يكتفِ الرسول-عليه الصلاة والسلام- بالسلاح الذي فتح به مكة المكرمة، وإنما سعى إلى استئجار أسلحة أخرى لتدعيم الجيش الإسلامي, وذهب بنفسه إلى تجار السلاح في مكة المكرمة، وكان على رأسهم صفوان بن أمية، ونوفل بن الحارث، وكانا لا يزالان على شركهما وقتئذ، فطلب منهما السلاح على سبيل الاستعارة بالإيجار والضمان.
ومما سبق يتبين لنا أن إعداد المسلمين لمعركة حُنَيْن كان إعدادًا قويًّا متقنًا، وقد أخذ المسلمون بكل الأسباب المادية المتوفرة لديهم، وكان جيشهم بالفعل في أبهى صورة عندما خرجوا من مكة المكرمة.
أقول ما سمعتم وتسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وآله وصحبه, وبعد:
أيها المسلمون: توجه الجيش الإسلامي إلى وادي حُنَيْن حيث جموع هوازن هناك في السادس من شهر شوال في السنة الثامنة هجرية، ووصل يوم العاشر، وفي أثناء الطريق قال بعض المسلمين الجدد كلمة سَرْعان ما انتشرت في الجيش بكامله, هذه الكلمة في ظاهرها تبدو عادية، ولكن كان لها من الأثر على سير المعركة ما لم يتخيله المسلمون قَطُّ، قالوا: "لن نُغْلَب اليوم من قلة".
في ظنهم مادام أن هذا الجيش أفضل عدد وعدة؛ فلا شك أنهم سينتصرون على هوازن, هكذا صرح بعض المسلمين، فشقَّ ذلك على رسول الله-عليه الصلاة والسلام-، وظهر على وجهه الحزن، وشعر أن أمرًا ما سيقع لهذا الجيش الكبير.
أيها المؤمنون: إن هذه الكلمة البسيطة تدل على مرض قلبي خطير، هو العُجْب بالنفس، والاعتماد على الأسباب، ونسيان رب الأسباب، لقد أعجب المسلمون بعددهم، وركنوا إلى كثرتهم، قال-تعالى-: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة: 25], الجيش الإسلامي اتجه إلى حُنَيْن وهو متيقن ومطمئن أن النصر حليفه؛ لأنه كثير العدد!!.
عباد الله: مرض العجب اقاد إلى شيء خطير آخر، وهو الثقة الزائدة بالنفس، مما دفع إلى الاستهانة بقوة العدو، فأدى ذلك إلى بعض القصور في أداء المسلمين, وقد رأينا كيف كان أداء المسلمين على أحسن صورة، عندما كانوا معتمدين تمام الاعتماد على الله قبل أن ينطقوا بهذه الكلمة، ولكن عندما أُعْجبوا بالكثرة بدأ الخلل.
كانت خطوات الجيش الإسلامي متثاقلة وهو في طريقه إلى حُنَيْن، فقد قطع المسافة القصيرة في فترة طويلة؛ قطع مسافة 20 كيلو مترًا فقط في ثلاثة أو أربعة أيام، والمفروض أنه يقطع هذه المسافة في نصف يوم، وهذا التأخير في الحركة مرجعه في الأساس عدم المبالاة بالعدو؛ لشدة الثقة بالنفس, ومن ثَمَّ فقد وصل مالك بن عوف بجيشه إلى وادي حُنَيْن قبل المسلمين، واستعد للمعركة فنشر قواته في الأماكن المناسبة، وعمل الكمائن واستراحت جيوشه بصورة كافية قبل اللقاء، وكل ذلك كان في صالحه.
والجيش الإسلامي لم يتعامل مع المعركة بدقة كافية، ومن ثَمَّ لم يكتشف كمائن هوازن حول وادي حُنَيْن، وبالتالي دخل إلى منطقة شديدة الخطورة, واندفع المسلمون إلى سهل حُنَيْن دون تروٍّ، وألقى الجيش بثقله الكامل في الوادي، وهذا خطأ عسكري فادح.
وفي الحقيقة عندما نقرأ تفاصيل هذه المعركة نعجب جدًّا من وجود هذه الأخطاء؛ لأن الجيش فيه كفاءات عسكرية كبيرة؛ يقوده الرسول-عليه الصلاة والسلام- بحكمته العسكرية ودقته في إدارة الأمور، ويضم بين صفوفه قادة عسكريين كبار كخالد بن الوليد، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وأبا عبيدة بن الجراح، وغيرهم فكيف يحدث هذا الخلل؟!. والجواب: أن هذه الأخطاء الكبيرة قد حدثت بتدبير الله -تعالى-, يريد الله أن يلفت الأنظار إلى المرض القلبي الذي أصيب به المسلمون؛ فلذلك حجب الرؤية عنهم، ووقعوا في أخطاء لم يقعوا فيها في المعارك التي خاضوها من قبل.
إذن بل لا بد من درس عملي قاس وصعب؛ حتى تتطهر نفوسهم من هذا المرض, فكانت مصيبة تهز المسلمين، وتترك أثرًا تربويًّا أعمق من الأثر الذي تتركه ألف خطبة, لا بد أن يذوق المسلمون ثمرة إعجابهم واعتدادهم بأنفسهم، لتيكون هذا الدرس العملي تربية لهم أولاً, وتربية للأمة كلها من بعدهم.
ولا شك أن ما حدث في غزوة حُنَيْن من انتكاسة ما زالت محفورة في أذهان المسلمين إلى يومنا هذا، وستظل كذلك إلى يوم القيامة؛ لأن الله -تبارك وتعالى- سجلها في كتابه الكريم لتظل ذكرى وعبرة إلى يوم الدين؛ كي يعلم المسلمون أن النصر من عند الله, وأن الاعتماد على الأسباب والإعجاب بالنفس نتيجته الفشل.
وأما تفاصيل ما حدث في حُنَيْن, وما دار فيها من أحداث؟!. ذلك ما سيكون موضوع خطبتنا في الجمعة القادمة بمشيئة الله -تعالى-.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي