لقد قدر الله -تعالى- أن يتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- صغيرة لتحفظ عنه، وتعي علمه، وتعيش بعده نحو نصف قرن من الزمان تنشر هديه، وتحيي سنته، وتكون مرجعًا موثقًا لأمته...
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأوصيكم بتقوى الله وطاعته: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) [الأنفال: 29].
أيها الأحبة في الله: ويستمر الحديث العذب عن بيت النبوة الكريم، عن أزواج المصطفى الأمين، اللاتي شرفن بصحبته، وبوّأهن الله -تعالى- منزلة عظيمة، قال فيها: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) [الأحزاب: 32].
فما أجمل الحديث عن بيت الرسول -صلى الله عليه وسلمَ-، الأنموذج البشري الأعلى، الذي تتطلع إليه القلوب قبل العيون، وتهفو إلى ظلاله النفوس.
وحديث هذه الخطبة محصور فيمن اصطفاها الله -تعالى- لتكون حبيبة المصطفى، وأثيرته بين نسائه اللاتي تقاسمن الحياة معه: عائشةَ بنتِ أبي بكر، الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنهما-.
لقد وُلدت عائشة بعد أربع سنين من البعثة، وخطبها النبي -صلى الله عليه وسلمَ- طفلة صغيرة لم يعد عمرها ست سنين، حين توفيت خديجة -رضي َالله عنها-، فجاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فعرضتها عليه مع سودة بنت زمعة، فقالت له: "بنت أحب خلق الله إليك؛ عائشة بنت أبي بكر"، فأذن لها في ذلك، فأتت أم رومان، فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أخطب عائشة، قال: وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه! فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فذكرت ذلك له، قال: ارجعي، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فرجعت فذكرت ذلك له، فقال: انتظري وخرج، قالت أم رومان: إن مطعمَ بنَ عدي كان قد ذكرها على ابنه -ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا قط فأخلفه-، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتيان، فقالت: يا ابنَ أبي قحافة لعلك مصبئ صاحبنا، فتدخله في دينك الذي أنت عليه أن يزوّج إليك، قال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقول هذه تقول، إنك تقول ذلك، فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فقال لخولة: ادعي لي رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فدعته فزوّجها إياها، وعائشة -رَضي الله عنها- يومئذ بنت ست سنين، قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحرث بن الخزرج بالسنح، قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فدخل بيتنا، فجاءت بي أمي وأنا في أرجوحة ترجح بي بين عذقين، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيْمَة ففرقتها -تقصد شعرها-، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فاحتبستني في حجرة، ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- في بيتنا، ما نُحرت عليَّ جزور ولا ذُبحت عليَّ شاة حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إذا دار إلى نسائه وأنا يومئذ ابنة تسع سنين" [والحديث أخرجه أحمد في المسند وحسنه الأرناؤوط]، وهناك رواية تقول: بأن الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- بنى بها وهي ابنة ست سنين، ودخل بها وهي ابنة إحدى عشرة سنة، فدخلت بيته وهي صغيرة، تهوى ما تهوى الصغيرات، روى أبو داود وصححه الألباني عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من غزوة تبوك أو حنين وفي سهوتها سترة، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة –لُعَب-، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه".
وإذا علمت بأن غزوة تبوك حدثت في العام التاسع من الهجرة، وأن حنين في العام الثامن، أي بعد أن شبت عائشة -رَضي الله عنها-، وبلغت من العمر قرابة عشرين عامًا، تعلم كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يعيش سماحة في بيته، ورقة في تعامله مع أهله، فها هي ذي تلعب بالألعاب وهي ابنة عشرين عامًا، ولا يعذرها فقط، بل يضاحكها ويحادثها ويتقبل منها ما تتصرف به الفتيات الصغيرات.
في يوم عيد مبارك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقاسم زوجه عائشة بهجة العيد في بيتها، ويعيش معها فرحته؛ إذ سمع جلبة وهزيجًا، فإذا هم الأحباش قد دخلوا ساحة المسجد ومعهم حرابهم ودرقهم -تروس من جلد-، وجعلوا يرقصون في المسجد على طريقتهم ويهزجون بلغتهم، وكان مشهدهم طريفًا ومبهجًا، فأقبل النبي -صلى الله عليه وسلمَ- على زوجه عائشة، وناداها: "يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟" قالت: نعم، وددت أني أراهم، فوقف لها رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- على باب حجرته، وجاءت هي من ورائه، فوضعت ذقنها على كتفه، وألصقت خدها بخده، وألقى عليها رداءه يسترها به، وهي تنظر إلى لعب الحبشة، والنبي ينظر معها إليهم. ويغريهم بمزيد الحماس في استعراضهم قائلاً: "دونكم بني أرفدة" -وهو لقب الحبشة-، وازداد حماسهم بهذه المشاركة الشعورية من النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهم يرقصون بين يديه، ولم يسعفهم في التعبير إلاّ لغتهم، فجعلوا يتكلمون بكلامهم الذي لا يفهمه، فقال صلى الله عليه وسلمَ: "ما يقولون؟" قيل: يقولون محمد عبد صالح، قالت عائشة: لم أعلم من كلامهم إلا قولهم: أبا القاسم طيبًا أبا القاسم طيبًا. وبينما هم كذلك إذ دخل عمر المسجد، فرأى مشهدًا لم يعهده، فسارع بطبيعته المبادرة إلى الإنكار، وأهوى بيده إلى حصباء المسجد يرميهم بها، مستنكرًا فعلهم ذلك في ساحة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلمَ-: "دعهم يا عمر، فإنهم بنو أرفدة" -أي أن هذا شأنهم وطريقتهم- ثم أقبل عليهم قائلاً: "أمنًا بني أرفدة" -أي العبوا بأمان-، وذلك حتى يهدئ من روعهم بعد أن أفزعهم عمر، ثم جعل يستثيرهم قائلاً: "العبوا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة" [والحديث أخرجه أحمد وصححه الألباني].
واستمر اللعب والأهازيج والاستعراض بالمهارات الحربية الحبشية بالحراب الدرق ورسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- واقف لعائشة ينتظر فراغها من الاستمتاع بالمشاهدة حتى إذا ظن أنها اكتفت بما رأت، قال لها: أَما شبعت؟! أما شبعت؟! وكانت جارية حديثة السن عروبًا حريصة على اللهو، فما يكفي رسول الله من المشاهدة لا يكفيها، ولذا قالت: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، فقام صلى الله عليه وسلمَ لها حتى إذا ظن أنها اكتفت، قال لها: حسبك؟ قالت: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، حتى إذا طابت نفسها من النظر إلى اللهو استشرفت إلى حاجة نفسية أخرى لا تقل في وجدانها أهمية عنها، وهي أن ترى منزلتها في نفس النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ومكانتها منه، ولذا استأذنته لما قال لها: حسبك، قائلة: لا تعجل عليّ، قالت: وما لي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه.
حتى إذا استوفت رغباتها النفسية من اللهو والشعور بالمنزلة والمكانة عند النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وملّت من قيامها ذلك، قال لها النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: حسبك؟ قالت: نعم، قال: فاذهبي، ولم ينصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حتى انصرفت هي، وبقيت ذكرى هذا المشهد ومذاقه في نفس عائشة، فكانت تتحدث عنه وتقول: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من أجلي، ولم ينصرف حتى كنت أنا التي انصرفت.
اللهم إنا أحببنا نبيك وأزواجه الطاهرات، فاجمعنا بهم في جنات النعيم، وأنعم علينا بلذة النظر إلى وجهك الكريم.
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه.
نعم، عائشة بنت أبي بكر التي سبقت الرجال إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، حين بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر"، فعد رجالاً، فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم" [رواه البخاري].
لقد قدر الله -تعالى- أن يتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- صغيرة لتحفظ عنه وتعي علمه، وتعيش بعده نحو نصف قرن من الزمان تنشر هديه، وتحيي سنته، وتكون مرجعًا موثقًا لأمته.
يكفيها حديث حبيبها -صلى الله عليه وسلمَ-: "لقد كانت كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" [رواه البخاري]، وفي البداية والنهاية (2/430- و4/323) أن ابن مردويه أخرج الحديث من طريق شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث، مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" [قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى شعبة"].
ومن فضلها: أن الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- طلب أن يُمَرَّض في بيتها، ومات بين سَحْرها ونَحْرها، ولها أن تفخر وتقول: "إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ليتعذر في مرضه: أين أنا اليوم، أين أنا غدًا. استبطاء ليوم عائشة، فلما كان يومي، قبضه الله بين سحري ونحري، ودُفن في بيتي" [رواه البخاري].
وكان يدعو لها فتفرح بدعائه صلى الله عليه وسلمَ: عن عائشة قالت: لما رأيت من النبي -صلى الله عليه وسلمَ- طيب النفس، قلت: يا رسول الله! ادع الله لي، قال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- من الضحك، فقال: أيسرك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال: "والله إنها لدعوتي لأمتي في كل صلاة" [والحديث أخرجه ابن حبان وصححه الألباني].
فانظر فقهها وفطنتها وهي تنتقي الزمن الذي تسأل الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- طلبتها، قال مسروق: دخلنا على عائشة -رضي َالله عنها-، وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرًا، يشبب بأبيات له، وقال:
حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك، قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك؟ وقد قال الله -تعالى-: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11]، فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان ينافح، أو يهاجي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- [رواه البخاري].
وكان حسان متهمًا بأنه تحدث في حادثة الإفك، ومع ذلك فقد غفرت له واستقبلته، وسمعت منه؛ لأنه كان يدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، وتروى بقية قصيدة حسان:
حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينًا ومنصبًا *** نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب *** كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيّب الله خيمها *** وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
فإن الذي قد قيل ليس بلائق *** بها ولكنه قول امرئ بي ما حل
وكيف وودي ما حييت ونصرتي *** لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم *** تقاصر عنه سورة المتطاول
رأيتك وليغفر لك الله حرة *** من المحصنات غير ذات قوائلي
اللهم انصر الإسلام وأهله، واخذل الكفر وأهله، واحم المسجد الأقصى الشريف من أيدي أعدائه، وكن عونًا لأهله على طرد البغاة المعتدين من أكنافه.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وبارك لنا في دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، وارزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله عليه، واجعله حربًا على أعدائك، سلمًا لأوليائك، ووفقه إلى ما تحبه وترضاه، إنك جواد كريم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية الآل والصحب أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي