بالهوية -يا عباد الله- يعرف المرء، وبها يقدم أو يؤخر، أو يكرم أو يهان، ويعلو أو يهبط في الدركات في الدنيا وفي الآخرة عند المولى -عز وجل-. بالهوية تعرف الدول والبلدان، وعلى أساسها تعامل كما هو الحال في...
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا بالإيمان، ومنّ علينا فجعلنا في أمة سيد الأنام، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه الخير كله، ونترك ونهجر من يكفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وحجته على الخلائق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحابته الكرام المهتدين، والتابعين ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) [لقمان: 33].
اتقوا الله -رحمكم الله- واستمسكوا بالدين الحنيف، والملة الإسلامية المحمدية، عضوا عليها بالنواجذ، استمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وإياكم والغفلة والانشغال عن العمل بالإسلام، فإنه المصير الذي أنتم إليه سائرون، وعنه مسؤولون، وبين يدي الله مجزيون ومحاسبون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18 - 19].
عباد الله: جرت سنة الله -عز وجل- في خلقه وكونه أن يكون المرء منتسباً إلى أناس وأقوام معينين، أو بلاد معلومة، أو أرض معروفة، أو بيئة وعقيدة أو عادات وتقاليد، تربى عليها وتأثر بها، وأثرت فيه فتعلق بحبالها واصطبغ بصبغتها حتى عُرف بها، وتميز عن غيره، شكلت كلها هويته وجنسيته وانتماءه، فعرف الناس هذا من المشرق، وذاك من المغرب، وهذه هي الهوية؛ فهي انتماء إلى شيء ما، والاصطباغ بصبغته، فصارت شعاراً مخصوصاً، وعنواناً موصوفاً لهذا الشيء، أو ذاك.
بالهوية -يا عباد الله- يعرف المرء، وبها يقدم أو يؤخر أو يكرم أو يهان، ويعلو أو يهبط في الدركات في الدنيا وفي الآخرة عند المولى -عز وجل-.
بالهوية تعرف الدول والبلدان، وعلى أساسها تعامل كما هو الحال في هذه الأزمان، فإذا ذكرت الهوية الفلانية عرفت وأهلها، وأتباعها وأجريت المعاملة لهم كما هو مقرر سلفاً في القوانين والدساتير والأعراف.
والهوية غالية عند أهلها مقدسة محترمة، بغض النظر عن استقامتها أو اعوجاجها، وتنشب الحروب والصراعات بين فريقين يحاول أحدهما طمس هوية الطرف الآخر.
ومن فضل الله -تعالى- علينا -معشر المسلمين- أنه تفضل علينا بأعظم هوية، وأجلّ عقيدة، وأقوم سبيل، هي هوية الدين الحنيف الهوية الإسلامية ولو كره الكافرون، ولو أغاظ ذلك المشركين، يقول الله -تعالى-: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) [الحـج: 78]، فالله -تعالى- وحده شرّف المسلمين، فسماهم: مسلمين، وهي الأمة الوحيدة من بين الأمم التي تولى الله -تعالى- تسميتها، بينما الأمم كلها اتخذت أسماء من تلقاء نفسها من معبوداتها وأوثانها وخرافات عقولها، يقول الإمام الطبري: "سماكم -جل ذكره- يا معشر من آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلمَ-"، ويقول البغوي: "هو سماكم يعني أن الله -تعالى- سماكم المسلمين من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة".
أيها المسلمون: إن الهوية الإسلامية وعقيدة التوحيد عقيدة تهاوت عندها كل العقائد، وتراجعت أمامها كل الهويات، ودين هيمن على كل الأديان، فاحتواها وأقصاها، وملة حنيفية انحسرت أمامها كل الملل والنحل، وأول من تشرف بهذه الهوية هم العرب الذي جعل لسانهم العربي هو لسان الإسلام، وأرسل الله -تعالى- من العرب أشرف رسول ونبي، وكان كتاب الله -تعالى- الذكر الحكيم بلسان عربي مبين.
فمنّة الله -تعالى- كبيرة عظيمة على العرب خاصة وعلى المسلمين عامة، ومن هنا أخذت العربية أهميتها وسمو مقامها ورفعة شأنها، فالله -تعالى- جعل العربية لسان رسالته للعالمين: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27 - 28].
هذه هويتنا إسلامية عربية، تستمد قوتها ورفعتها من الوحي من كتاب الله وسنة محمد رسول الله، هي ظلالنا وسعادتنا وسفينة نجاتنا.
أدرك السلف الصالح منّة الله -تعالى- عليهم بها، فاعتنقوها وتعلقوا بحبلها المتين، ودافعوا عنها، وجاهدوا أعداءهم بها، بذلوا الغالي والنفيس من أجل إبقائها بينهم، تنير لهم دروب حياتهم وفكرهم، أيقنوا أن بقاءهم مرتبط بهذه الراية المحمدية والهوية الربانية، فإن ذهبت هويتهم ذهبوا، وإن ضعفت عقيدتهم ضعفوا، وإن هانت راياتها هانوا.
قدموها على كل غال ونفيس، وردوا عنها كل حاقد وخبيث، ودافعوا عنها دفاع من يدافع عن عرضه وشرفه، خاطبوا الدنيا بها، وتحاوروا مع الناس بلسانها وأعزوها ووقروها بعز القرآن وكرامة السنة والرسول.
كانوا حذرين من أن ينال أحدٌ من هويتهم، خافوا الله -تعالى- الذي هددهم لئن تخلوا عنها أو أهملوا فيها ما لهم من الله من ولي ولا نصير.
عقلوا خبر الله -تعالى- الذي يحمل التهديد للناس لمن أعرض عن هذه الهوية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طـه: 124]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
كانت عندهم أغلى من خزائن الأرض ذهباً وفضة، رباهم إيمانهم بالله وبمحمد رسول الله أن الحائز على الهوية الإسلامية حائز على كل شيء، وإن فاقدها فاقد لكل شيء ولو كان يملك كل شيء.
وعت آذانهم نصح رسول الله وتحذيره من إهمال الهوية الربانية في قوله عليه الصلاة والسلام: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (رواه مسلم).
كانوا على يقين أن من تخلى عن هوية محمد -صلى الله عليه وسلمَ- فهو من التائهين في هذه الحياة الخاسرين في دار البقاء، روي أن عمر بن الخطاب -رضي َالله عنه- كان يقول للناس: "لا تأتوني بأحسابكم وأنسابكم، ويأتي الناس بمحمد رسول الله فهم يومئذ أحق بمحمد منكم" (يعني الذين اتبعوه)، وعند أحمد وأبي داود -رحمهم الله تعالى- من حديث عبد الله بن عامر بن يحيى أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال للناس: "يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم -صلى الله عليه وسلمَ- (يعني الدين الإسلامي) فغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به"، وذلك؛ لأن العرب مطالبون أكثر من غيرهم من المسلمين بالاعتناء بالدين والمحافظة على الهوية الإسلامية قولاً وعملاً، لكونهم أهل التشريف، فاللغة لغتهم، والنبي منهم، وهم حملة الشريعة وحماتها، والناس لهم تبع، فإذا تأخر العرب عن التحلي بالهوية الربانية والراية النبوية فالناس يتأخرون ويتراجعون من بعدهم، وهذا الذي يجري في هذا الزمان، تراجع الناس عن التخاطب بالإسلام، وإعلاء مبادئه، ورفع رايته، والتحلي بحليه لما رأوا أهله يؤخرونه.
أيها المسلمون: إن هوية الإسلام لا كالهويات، وشعاره لا كالشعارات، هوية رافعة غير خافضة معلية غير مهبطة حقيقية غير تقليدية دنيوية وأخروية ربانية لا بشرية.
إن الأمم والشعوب لتحترم الأمة التي تعتز بهويتها ومبادئها وتوقر الأمة التي تعتمد على نفسها، وتجبر الآخرين على احترامها، وتعد الأمم للأمة التي تعلي من هويتها تعد لها وتحسب حسابها.
وإن الأمة لتموت بين الأمم وتذوب بين الناس ويذهب ريحها إذا تخلت عن هويتها وضعفت ثقتها برايتها.
إن الأمم اليوم لتعتصم بهويتها وتؤكد عليها وتجبر من يخاطبها على النزول لمبادئها ومعتقداتها.
إن أمة الإسلام أمة لا هوية لها بين الأمم وهي أمة الحق والرشاد، وذلك بسبب تخليها عن هويتها الإسلامية ولسانها العربي، تستحي أمة الهادي أن تقول: إنها مسلمة، ولا تمانع من حذف لسانها العربي في المحافل الدولية، مستبدلة إياه بما عجم وارطن: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة: 61].
يا أمة العرب: أنتم حماة الإسلام وحملته للعالمين، وعليكم من الحمل ما ليس على غيركم من إخوانكم المسلمين، أنتم الذين شرفكم فاصطفى منكم محمداً -صلى الله عليه وسلمَ- واصطفى لسانكم العربي لأشرف وحي أنزله، أنتم على رأس من قال الله لهم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110]، اهتدى بكم الناس، وعرفوا بكم ربهم، أخرجتم الناس بإذن الله من ظلمات الوثنية والكفريات والشركيات إلى نور الإسلام، التوحيد للواحد الديان، وكان الناس على شفا حفرة من النار بكفرهم فجاء الله بكم مبشرين ومنقذين للبشرية.
لماذا أنتم أذلة صاغرون؟ وعلى عدوكم لا تنتصرون؟ لقد قال الله -تعالى-: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، فهلا راجعتم إيمانكم وإسلامكم؛ لأن الله يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126]؟ فهل أخذتم بالأسباب التي ينصركم الله بها، فلن يكون نصر إلا من الله -تعالى-.
إن الأمة كلها تحتاج إلى مراجعة مع الله -تعالى-، إن القرآن والسنة ومن بعدهما التاريخ يثبت أنه ما كان نصر للمسلمين إلا عندما يتصلون بربهم -عز وجل- حقيقة وصدقاً حتى نزلت بهم الهزيمة ورسول الله بين أظهرهم يوم خالف الرماة أمر رسول الله ونزلوا يجمعون الدنيا والغنائم وتركوا مراقبة العدو فانقض عليهم وأنزل بهم الهزيمة التي سجلها القرآن لتكون عبرة وعظة: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
عودوا إلى الله -تعالى-، واعتذروا له، واعتنوا بدينه وشريعته، واهتموا بها، وأعلنوا للدنيا إسلامكم، واقتفاء أثر نبيكم، ولا تستحوا فأنتم أهل الحق والناس ينتظرون عودتكم للإسلام، وسوف يبعثهم الله يؤيدونكم وينصرونكم حتى فاجرهم وفاسقهم، سوف يكون لكم مؤيداً -بإذن الله- فإن رسول الله أخبر أن هذا الدين مؤيد حتى بالرجل الفاجر، فقال: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" (رواه البخاري).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي