ومن جليل حكمته وعظيم منته أن (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ركّب فيه وسائل المعرفة من عقل وسمع وبصر، وغرس فيه جبلة الترقي وفتح له عوالم المحدثات والمخترعات، فتطور الإنسان عبر الزمن، وأصبح يتحكم في أقطار الفضاء وأغوار الأرض وأعماق البحار، وفتح بصيرته كل يوم عن اختراع جديد؛ فقفز فوق المسافات وتخطى الأوطان والقارات، ونصب أجهزة الاتصال، فجمع أهل الأرض حتى صار من بأقصاها يتحادث مع من بأدناها
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخصه بالإنعام والتكريم، نحمده سبحانه وتعالى على وافر فضله وكريم إحسانه، ونشكره جل جلاله على ترادف عطفه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأفهمه ما لم يكن يفهم.
وأشهد أن سيدنا وحبيب قلوبنا وإمامنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، آتاه الله فصل الخطاب إذا ما تكلم، فكان للأولين والآخرين خير معلم، ولشرائع هذا الدين خير مبلغ، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه الطاهرين، صلاة عطرة موصولة إلى يوم الدين، اللهم يسر لنا اتباع نهجه المبين، واحشرنا تحت لوائه المتين، واجعله شفيعنا وقائدنا إلى جوارك الأمين.
أما بعد:
إخوة الإيمان والعقيدة: الله الذي خلقنا, فأبدع ما خلق، والله الذي أودع فينا العقل, فأروع ما أودع، خلقنا بحكمته وشملنا بعنايته ورحمته؛ فسبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى، وسبحان من أكرم ورعـى، فجعل الإنسان خليفته في الأرض، وخلق له كل ما فيها؛ قال تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)؛[البقرة:29] فما أعظم كرم الله وما أجل فضله، وهو الذي سخر للإنسان ما في الوجود، فقال -جل وعلا-: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [الجاثية:13]
ومن جليل حكمته وعظيم منته أن (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:5] ركّب فيه وسائل المعرفة من عقل وسمع وبصر، وغرس فيه جبلة الترقي وفتح له عوالم المحدثات والمخترعات، فتطور الإنسان عبر الزمن، وأصبح يتحكم في أقطار الفضاء وأغوار الأرض وأعماق البحار، وفتح بصيرته كل يوم عن اختراع جديد؛ فقفز فوق المسافات وتخطى الأوطان والقارات، ونصب أجهزة الاتصال، فجمع أهل الأرض حتى صار من بأقصاها يتحادث مع من بأدناها.
ففي كل جيب أذن واعية متحفزة للإجابة عن كل طلب، لا فرق عندها بين البعيد والقريب، لا فرق عندها بين المستقر في بيته والسائر في الطريق، ولا فرق عندها بين الراكب جو الفضاء والغائص في أعماق الماء، هذه نعمة من نعم الله -جل وعلا- أظهرها الله للإنسان بفضله، وعرفه لها بجوده وكرمه، إنه الهاتف الجوال الذي شغل دنيا الناس وملأ حياتهم، اقتناه الغني والفقير، واستعمله الكبير والصغير.
وهو منحة من الله ورحمة منه لإنسان هذا الزمان، يقول الله -جل جلاله-: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) وهو كذلك نعمة من نعم الله الذي وهبنا كل فضل وخير، يقول -عز وجل-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53] فوجب على الإنسان أن يشكر الله على نعمه، وأن يستعمل هاتفه في مرضاة الله.
هذا الهاتف الجوال سهل للإنسان الكثير من أمور دنياه، وأعانه في عبادته وتقربه من مولاه، فكم من صفقة تجارية أبرمت بالهاتف, وكم من سفر ألغي لعدم جدواه بواسطة الهاتف، وكم أسعد من آباء وأمهات حين وصلهم بأبنائهم رغم طول المسافات.
وهو أداة صلة أرحام يتواصل المؤمن به مع أهله وأقربائه وأحبابه، وهو أداة إسعاف في الحوادث، وأداة نجدة لدفع الكوارث، وهو كذلك منبه في الفجر للعبادة، وحامل للقرآن تلاوة وكتابة، تلك هي بعض من مزايا هذا الجهاز وكل اختراع علمي وكل انجاز بشري، فإنه يحمل الوجهين: وجه الخير والنفع، ووجه الشر والضر، والوجهان واضحان.
وإني هنا للتذكير ببعض آفات استغلاله، وبعض آداب استعماله، لنستعمل فيه وجه الخير، ونجتنب منه وجه الشر؛ فمن أوجه الشر التي يجب التنبيه عنها: الاتصالات غير المشروعة، فكم شـُيدتْ من قصور في الأوهام ضاعت جميعاً مع الأحلام، وخلفت وراءها المآسي والأحزان في العديد من بيوت المسلمين، ما دام الهاتف يرن عند الولد والبنت، والرسائل الصوتية والمكتوبة في متناول الجميع في مختلف ساعات الليل والنهار، فمن الرقيب؟ إن لم نجعل الله الرقيب! نعم: هناك من الشباب من جعل من الرقيب رقيباً الشباب الطاهر، الشباب المتوضئ.
ومع ذلك لا بد للإنسان أن يعلم أنه كما يدين يدان، وكما يزرع يحصد، وكما يعتدي في هذه الدنيا يعتدى عليه فيها، طلب أحد الشباب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن له بفعل الفاحشة، فزجره الحاضرون من الصحابة، وأرادوا تعنيفه، فقال لهم الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "أدنوه مني، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً قَالَ له يا ولدي: أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جعلني اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جعلني اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جعلني اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ" رواه الإمام أحمد.
من أجل ذلك: وجب على المسلم أن لا يفتح هاتفه إلا في الخير، وألا يستعمله إلا في صالح الأعمال، ومن الاتصالات غير المشروعة: الاتصال في أوقات غير مناسبة، كوقت الصلاة ووقت النوم، فيكون في ذلك إيذاء للغير وما استبيحت بيوت الله، ودخلتها الموسيقى فأذهبت الخشوع، وشغلت الأذهان عن المناجاة، وضاعت الصلوات بين النغمات، -إلا لما استخف المسلمون بخطورة أذى الغير، وشدة عقوبته عند الله، يقول الله جل في علاه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58] في المساجد كلها لافتات تمنع ترك الهاتف مفتوحاً، والرنات والنغمات تنطلق من مكان إلى مكان في بيت الله، في أحب البقاع عندالله، في أقدس المقدسات عند المسلمين.
قد يقول القائل: نسيت هاتفي مفتوحاً، فيقال لهذا الناسي: لماذا إذا سمعت هاتف غيرك لم تغلق هاتفك؟ لماذا تتكرر النغمات في بيوت الله؟ وربما يقال: إن غلقه عديد المرات يفسده، والجواب: لا الغلق يتلفه، إنما الخوف من غلقه يتلف الصلاة وأجر الصلاة، ويضاعف الذنوب، فقدوم المسلم للمسجد، إنما هو استجابة لنداء الله لأداء فريضة الله.
يأتي المسلم طاعة لله مع أمل ادخار أجر سعيه وثواب حضوره عند الله، فإذا الجوال يفسد عليه أجور سعيه وطاعته وحضوره؛ فإن كان المسلم لا يستطيع غلقه فليتركه ساعة في البيت يستريح ويريح، وليأتي إلى بيت الله في سكينة، ولينعم في بيت الله بمناجاة الله في خشوع وطمأنينة، ومع ذلك؛ فإن للهاتف الجوال آداباً يجدر بالمسلم والمسلمة التحلي بها تكون موضوع الخطبة الثانية بعد جلسة الاستراحة بإذن الله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وجنبنا اتباعه، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم واحفظنا بما حفظت به عبادك الصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم.
إن الحمد لله نحمده حمد الأتقياء الطائعين، ونثني عليه ثناء الشاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً رسول الله المبعوث بالهدى والحق المبين، اللهم صل عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون والمؤمنات عباد الله: من آداب استعمال الهاتف الجوال: أن يتأكد المؤمن من الرقم المطلوب، حتى لا يطلب رقماً خاطئاً، فلا يزعج مريضاً ولا يوقظ نائماً، ولا يفاجئ آمناً، فإذا بدأ بالكلام جعل أول كلمة ينطق بها: السلام عليكم، وهي تحية الله لأهل الإيمان.
يقول الله -عز وجل- في أول لقاء بالمؤمنين في الجنة: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) [الأحزاب:44] وهي تحية الملائكة لأهل النعيم، يقول العظيم في جلاله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:53] وهي تحية المؤمنين في الجنة فيما بينهم، يقول -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) [يونس 9: 10]
فأول كلام المسلم مع المسلم: السلام عليكم، فإذا تحدث المسلم اختصر الكلام بما يكفي الحاجة دون إسراف ولا تبذير في المال والوقت، فإذا وجد امرأة على الخط تأدب معها واختصر، وعليها أن تكلمه بحشمة ووقار، دون الخروج عن موضوع المكالمة، وقد أمر الله النساء بقوله -جل وعلا-: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا) [الأحزاب:32]
فليس من الإسلام أن ترى امرأة في الطريق تكلم من تكلم بصوت مرتفع، وضحكات مسموعة، فللمرأة في ديننا حياؤها، وللمرأة في ديننا وقارها، فلا يصح منها ما تفعله بعض النساء، كذلك المسلم أو المسلمة لا يتكلم في هاتفه بغيبة أو نميمة، فكما قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" رواه الإمام مسلم.
ومن آداب الهاتف الجوال -أيضاً-: أنه أداة صدق فلا يصح لمسلم أن يكذب على مسلم، فإن كان يتكلم من مكان لا يمكنه أن يشير إلى وجوده في مكان آخر، كذلك من الآداب أن تكون رنة الهاتف عادية سلسة وهادئة يقبلها الذوق السليم، وأن ينزه كلام الله عن الهاتف أو الآذان، فلا يمكن أن يقطع التلاوة ليكلم من طلبه، وجُعل الأذان في المساجد للإعلام بدخول وقت الصلاة، لا أن يرفع في الهواتف.
وكثيرة هي آداب الاتصال، وعلى المؤمن والمؤمنة اتباع ما شرع الله، وفي كل ما شرع خير وفلاح، وأن يلتزم بما حواه ديننا من خلق كريم، وأن يكون عاملاً لأخراه بما يفيده في دنياه.
اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين، وارزقنا التوجه إليك وحسن اليقين، واهدنا للعمل بشرائع هذا الدين، اللهم احفظ أوقاتنا من الضياع، واحفظ أيامنا من الغفلة، واجعل مقاصدنا من أيامنا عظيمة، وأعمالنا فيها صالحة كريمة، اللهم زدنا بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفرانا، اللهم ارحم الآباء والأمهات، واهد لنا الأبناء والبنات، وأصلح لنا حال الزوجات، واجمع شملنا في أعلى الجنات.
يا فاطر الأرض والسماوات، يا رفيع الدرجات، يا عظيم البركات، يا بديع الكائنات، يا منزل البركات، ويا مجيب الدعوات، نسألك اللهم عزة ورفعة للإسلام والمسلمين، وذلاً وخذلاناً لكل أعداء هذا الدين، ونصراً ومؤزراً لإخواننا على أرض فلسطين.
اللهم أمنا في دورنا، ووفق إلى الخير والصلاح ولاة أمورنا، واجعل اللهم بلدنا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي