دخل علينا شهر رجب وهو من الأشهر الحرم. فماذا نعرف عن الأشهر الحرم؟ وكم عدد الأشهر الحرم؟ وما الواجب علينا في الأشهر الحرم؟ وهل تقام الحدود والقصاص في الأشهر الحرم؟ وهل تغلظ الدية على من قتل في الأشهر الحرم؟ هذا ما سنجيبُ عليه في هذه الخُطبة بإذن الله.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة في الله، دخل علينا شهر رجب وهو من الأشهر الحرم.
فماذا نعرف عن الأشهر الحرم؟ وكم عدد الأشهر الحرم؟ وما الواجب علينا في الأشهر الحرم؟ وهل تقام الحدود والقصاص في الأشهر الحرم؟ وهل تغلظ الدية على من قتل في الأشهر الحرم؟
هذا ما سنجيبُ عليه في هذه الخُطبة بإذن الله.
أما عن عدد الأشهر الحرم فهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب؛ وذلك لما رواه أبو بكرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان" (رواه البخاري).
والأشهر الحرم تختلف عن أشهر الحج، فأشهر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وأما الأشهر الحرم فأربعة: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.
ولقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الأشهر الحرم، وقد أخذت ذلك الإرث عن إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكانوا يحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يتعرض له، ولذلك جاء في البخاري أن وفد عبد القيس قالوا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عندما قدموا عليه من البحرين وهي الأحساء حالياً، قالوا: "يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر المحرم"؛ لأنهم كانوا يأمنون على أنفسهم من قُطاع الطرق في هذه الأشهر، ولما جاء الإسلام أكد حرمة هذه الأشهر وعظمها، فقال تعالى في سورة التوبة: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 36].
ولكن بعض المشركين تحايلوا في استباحة القتال في الأشهر الحرم؛ وذلك بقيامهم تغيير مسميات الأشهر أو تأخير حرمتها إلى شهر آخر حسب أهوائهم ومصالحهم، وسبب ذلك كما قيل أنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الحروب على بعضهم البعض لمدة ثلاثة أشهر متواليات، كما كان يشق عليهم أداء الحج والقيام بتجاراتهم بالسنة القمرية حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف ولا يستفيدون بتجارتهم التي يصطحبونها معهم في موسم الحج، فلذلك تركوا استخدام السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية والتي نسميها حالياً بالسنة الميلادية.
ونظراً لزيادة السنة الميلادية على السنة القمرية أحد عشر يوماً كل عام احتاجوا إلى تكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية فزادوا كل ثلاث سنين شهراً في العام؛ فأصبحت بعض السنوات لديهم ثلاثة عشر شهراً، كل ذلك لتحقيق مصالحهم الاقتصادية.
وإذا أرادوا غزو قبيلة والاستيلاء على ثرواتها ووافق ذلك شهر من الأشهر الحرم كرجب مثلا، قالوا: فلنسمِّ هذا الشهر برمضان حتى يكون علينا حلالاً، وإذا جاء رمضان سميناه رجب، أو فلنجعل شهر محرم هذه السنة حلالاً، ولننقل حرمته إلى شهر آخر، ويسمونه النسيء يفعلون ذلك حتى تبقى الأشهر الحرم أربعة كما هي لا تتغير في العدد فقط.
ولذلك عاب الله على هؤلاء المشركين الذين كانوا يحرمون على غيرهم ما يشاءون ويبيحون لأنفسهم ما يشاءون ويكيلون بمكيالين متى ما تعارضت الأمور مع مصالحهم كما هو حال الدول الغربية الآن فقال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة: 37].
والنسيء هو تأخير حرمة شهر من الشهور الحرام إلى غيره من الشهور.
أيها الإخوة في الله ما الواجب علينا في الأشهر الحرم؟
إن الواجب علينا تعظيم هذه الأشهر فلا نظلم فيها أنفسنا بالمعاصي، فإنها أعظم وزرًا في هذه الأشهر المحرمة، استجابة لأمر الله عز وجل الذي قال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 36].
فما سميت هذه الأشهر الأربعةُ حرماً إلا لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، وقد نقل ابن كثير في تفسيره قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) الآية: أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرامًا وعظَّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء اهـ.
فلذلك يجب علينا تعظيم الأشهر الحرم باجتناب المعاصي وفعل الطاعات؛ لأن الحسنات والسيئات تعظَّم في هذه الأشهر، ولذلك جاء عن بعض أهل العلم تغليظ الدية على من قتل فيها شخصًا خطأ بأن تجعل قدر ديةٍ وثُلث، أما عن الحدود والقصاص فأجاز العلماء إقامتها في الأشهر الحرم؛ لأن الله لم يأتِ عنه -جل وعلا- نص بالمنع من ذلك ولا من رسوله –صلى الله عليه وسلم-، كما اتفق العلماء على جواز دفع العدو وقتاله إذا قاتلنا في الشهر الحرام، واختلفوا في تحريم الابتداء بالقتال في الأشهر الحرم، والأصح عدم جوازه فقد صح عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ-رضي الله عنه- قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِلَّا أَنْ يُغْزَى، أَوْ يُغْزَوْا، فَإِذَا حَضَرَهُ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ» (رواه الإمام أحمد).
أما عن أفضل العبادات التي يمكن أن نتقرب بها إلى الله -عز وجل- في الأشهر الحرم فينبغي أن نعلم بأنه لم يثبت حديث صحيح في تخصيص بعض العبادات في هذه الأشهر الحرم كصيام أو صلوات أو دعوات ونحو ذلك إلا ما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم".
وما جاء عنه –صلى الله عليه وسلم- في الترغيب في صيام يوم عرفة وما جاء في فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة، فهذا هو الثابت عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وليس معنى ذلك أنه لا يجوز الصيام في بقية الأشهر الحرم بل يجوز الصيام فيها، وقد كان بعض السلف كالحسن البصري يستحب الصيام في الأشهر الحرم.
وكان الثوري -رحمه الله تعالى- يقول: "الأشهر الحرم أحب إليَّ أن أصوم فيها"، فيجوز الصيام في شهر رجب مثلاً، ولكن دون الاعتقاد أن له مزية فضل وتعظيم عن بقية الشهور؛ لعدم ثبوت أي حديث صحيح في ذلك، بل ورد عن عمر –رضي الله عنه-أنه كان يضرب من يخصص رجب بصوم، ويقول: "كلوا، فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية" لماذا قال ذلك؟
لأنه لم يصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في شهر رجب والصيام فيه أي حديث، وكل ما جاء فيه فهو إما ضعيف أو مكذوب، ومن ذلك المثل الشائع عند عوام الناس الذي يقولون فيه "لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب"، مما يوحى ظاهره بفضيلة صيام رجب وهو ما ليس عليه دليل صحيح.
أما ما يعتقده البعض من أفضلية العمرة في رجب ويسمونها الرجبية فلم يصح فيها أيضًا أي حديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- بل جاء في البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: ما اعتمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في رجب.
وإنك لتعجب من كثرة الوافدين من شتى دول العالم لأداء عمرة في شهر رجب ظناً منهم في فضلها.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهُدى والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن معرفة الأشهر الحرم لا يتأتى إلا بالاعتماد على التقويم الهجري، وقد ربط الإسلام كثيرًا من الأحكام والعبادات بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعرفها العجم والروم والقِبط، فلا يليق بالمسلمين أن يقدموا الشهور الميلادية على الشهور القمرية في تعاملاتهم الرسمية كما تفعله بعض الدول اليوم.
أيها الإخوة في الله: إن المطلوب منا في نهاية هذه الخطبة أن نعلم أن الأشهر الحرم أربعة هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، وأن الذي جعلها حراماً هو الله جل وعلا، فنهانا أن نظلم فيهن أنفسنا بقوله تعالى (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).
فليحفظ المسلم نفسه وأهله من مواطن المعصية في كل وقت وحين وبالأخص في الأشهر الحرم، فإذا سمعت أحدا يغتابُ أو يرتكبُ معصيةً، فقل له: اتق الله وكف عنك هذا، فأنت في أحد الأشهر الحرم التي تعظم فيها الحسنات والسيئات، وقد قال الله لنا: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).
وإذا أرسل لك أحد مقطعًا أو كلامًا لا يليق عبر وسائل الاتصال الاجتماعي فقل له مثل ذلك (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).
هذا هو الذي يطلبه الله منا في هذه الأشهر، ألا نقول لله عز وجل سمعنا وأطعنا؟ بلى والله.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يفقهنا أمر ديننا، ويقينا شر أنفسنا ويبصِّرنا بعيوبنا، اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألك الجنة ما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي