صلة الأرحام

محمد بن صالح بن عثيمين
عناصر الخطبة
  1. المقصود بالأرحام .
  2. وسائل صلة الأرحام .
  3. بعض فضائل وثمرات صلة الأرحام .
  4. حقيقة صلة الأرحام .
  5. عقوبات قطيعة الأرحام .
  6. فظاعة قطيعة الوالدين وبعض صور عقوقهما .

اقتباس

إن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملةً تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور، ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام، ولا في الفعال، ولا في بذل المال. تجده مثريًا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم، بل قد يكونون ممن تجب ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، وأوجب صلة الأنساب وأعظم في ذلك أجرًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها ليوم القيامة ذخرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعظم الناس قدرًا وأرفعهم ذكرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بالحق وكانوا به أحرى، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
 
أما بعد:
 
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه، وحقوق عباده، صِلُوا أرحامكم.
 
والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا - كما يفهم بعض الناس- أقارب الزوج، أو الزوجة هم الأصهار.
 
فأقارب زوج المرأة أصهار لها، وليسوا أنسابًا لها، ولا أرحامًا.
 
وأقارب زوجة المرء أصهار له، وليسوا أرحامًا له، ولا أنسابًا.
 
إنما الأرحام والأنساب، هم أقارب الإنسان نفسه؛ كأمه وأبيه، وابنه وابنته، وكل من كان من بينه وبينه صلة، من قبل أبيه، أو من قبل أمه، أو من قبل ابنه، أو من قبل ابنته.
 
صِلُوا أرحامكم، بالزيارات والهدايا والنفقات.
 
صِلُوهم بالعطف والحنان، ولين الجانب، وبشاشة الوجه، والإكرام والاحترام، وكل ما يتعارف الناس من صلة.
 
إن صلة الرحم، ذكرى حسنة، وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة، وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم قول الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 19 - 24].
 
وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلًا، قال: "يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد وفق، أو قال: لقد هدي، كيف قلت؟ فأعاد الرجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك" فلما أدبر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة"[البخاري (1332) مسلم (13) النسائي (468) أحمد (5/417)].
 
صلة الرحم؛ سبب لطول العمر، وكثرة الرزق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه"[البخاري (5639) الترمذي (1979) أحمد (2/374)].
 
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله -تعالى- خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لك"[البخاري (5641) مسلم(2554) أحمد (2/330)].
 
وقال صلى الله عليه وسلم: "الرحم متعلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصـله الله، ومن قطعـني قطعـه الله"[البخاري (5643) مسلم (2555) أحمد (6/62)].
 
ولقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن صلة الرحم أعظم أجرًا من العتق؛ ففي الصحيحين عن ميمونة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: "يا رسول الله أشعرت أني أعتقت وليدتي، قال: "أو فعلت؟" قالت: نعم، قال: "أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" [البخاري (2452) مسلم (999) أبو داود (1690) أحمد (6/332)].
 
أيها الناس: إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه، وهذا في الحقيقة ليس بصلة، فإنه مكافأة.
 
إذ إن المروءة والفطرة السليمة، تقتضي مكافأة من أحسن إليك قريبًا كان أم بعيدًا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها"[البخاري (5645) الترمذي (1908) أبو داود (1697) أحمد (2/193)].
 
فصِلُوا أرحامكم وإن قطعوكم، وستكون العاقبة لكم عليهم، فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال: "إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ - أي الرماد الحار-، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم -أي معين عليهم- ما دمت على ذلك"[مسلم (2558) أحمد (2/412)].
 
واحذروا -أيها المؤمنين-: من قطيعة الرحم، فإنها سبب للعنة الله وعقـابه، يقـول الله -عز وجل-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[محمد: 22 - 23].
 
ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرعد: 25].
 
وقد تكفل الله سبحانه للرحم بأن يقطع من قطعها، حتى رضيت بذلك وأعلنته، فهي متعلقة بالعرش، تقول: من قطعني قطعه الله.
 
وعن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة قاطع" يعني قاطع رحم [البخاري (5638) مسلم (2556) الترمذي (1909) أبو داود (1696) أحمد (4/83)].
 
وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين، ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث مرات؟" قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"[البخاري (2511) مسلم (87) الترمذي (3019) أحمد (5/37)].
 
سبحان الله! ما أعظم عقوق الوالدين! ما أشد إثمه! إنه يلي الإشراك بالله -تعالى-.
 
إن عقوق الوالدين، قطع برهما، والإحسان إليهما، وأعظم من ذلك أن يتبع قطع البر، والإحسان بالإساءة والعدوان، سواء بطريق مباشر أم غير مباشر؛ ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"[البخاري (5628) مسلم (90) الترمذي (1902) أبو داود (5141) أحمد (2/216)].
 
استبعد الصحابة -رضي الله عنهم- أن يشتم الرجل والديه مباشرة.
 
ولعمر الله إنه لبعيد؛ لأنه ينافي المروءة والذوق السليم، فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك قد لا يكون مباشرةً، ولكن يكون عن طريق التسبب بأن يشتم الرجل والدي شخص فيقابله بالمثل، ويشتم والديه.
 
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غير منار الأرض" [مسلم (1978) النسائي (4422) أحمد (1/118)].
 
فيا عباد الله: يا من آمنوا بالله ورسوله: انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم: هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل أَلَنْتُم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجوه لهم؟ وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم توددًا؟ وهل عدتموهم في مرضهم احتفاءً وسؤالًا؟ هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟
 
فلننظر.
 
إن من الناس من لا ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه إلا نظرة احتقار وسخرية وازدراء، يكرم امرأته، ويهين أمه، ويقرب صديقه، ويبعد أباه، إذا جلس عند والديه فكأنه على جمر، يستثقل الجلوس، ويستطيل الزمن، اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر، لا يخاطبهما إلا ببطء وتثاقل، ولا يفضي إليهما بسر، ولا أمر مهم، قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة.
 
وإن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملةً تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور، ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام، ولا في الفعال، ولا في بذل المال.
 
تجده مثريًا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم، بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم، فلا ينفق.
 
وقد قال أهل العلم: كل من يرث شخصًا من أقاربه، فإنه تجب عليه نفقته، إذا كان محتاجًا عاجزًا عن التكسب، وكان الوارث قادرًا على الإنفاق؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)[البقرة: 233].
 
أي مثل ما على الوالد من الإنفاق.
 
فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم، مُحاسَب عليه يوم القيامة، سواء طلبه المستحق منه أما استحيا وسكت.
 
عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وصِلُوا أرحامكم، واحذروا من قطيعتهم، واستحضروا دائمًا ما أعد الله -تعالى- للواصلين من الثواب، وللقاطعين من العقاب.
 
واستغفروا الله، إنه هو الغفور الرحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي