لقد قست قلوبنا، فصرنا عند استماع القرآن وتلاوته لا تدمع عيوننا، ولا تقشعر جلودنا، نقرأ القارعة والزلزلة والحاقة وأهوال الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه فلا نتأثر! نسمع عن موت فلان وفلان، بل نشيِّع الجنائز وندخل المقابر فلا نتغير شيئًا يُذكر! نلقي المواعظ ونسمع الزواجر فلا تتحرك قلوبنا إلا يسيرًا.
الحمد لله العليم الحكيم، الصبور الحليم، القريب الرحيم يجيب دعوة الداعي إذا دعاه وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له يجبر المنكَسِر إذا لاذَ بحِماه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وتجديد التوبة والاستعانة به سبحانه على طاعته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 71- 72].
إخوة الإسلام: قلب العبد وأعماله موضع نظر الرب سبحانه، ففي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (أخرجه مسلم). وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صدره ثلاثًا، وقال: "التقوى ههنا".
وأخبر أن هذا القلب إذا صلح صلح الجسد كله وإذا إذا فسد فسد الجسد كله، والكرامة عنده جل شأنه بحسب تقى العبد (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وإن حديثنا اليوم عن مشكلة قلبية إيمانية، وقد جاء في القرآن الكريم آيات عديدة تحذر هذه الظاهرة إذ معها يتبلد الإيمان، وأهلها عرضة لفتن الشيطان، هذه البلوى تحرِم العبد مناجاة الله –تعالى-، والتضرع والانكسار له سبحانه، كما أنها سبب لجفاف الدمع، وفظاظة الطبع وقد حذَّر الله –سبحانه- الصحابة أن يكونوا مثل من أصيب بها من الأمم السابقة وهي درجات متفاوتة .. إنها ظاهرة قسوة القلب.
نعم لقد قست قلوبنا، فصرنا عند استماع القرآن وتلاوته لا تدمع عيوننا، ولا تقشعر جلودنا، نقرأ القارعة والزلزلة والحاقة وأهوال الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه فلا نتأثر!
نسمع عن موت فلان وفلان، بل نشيِّع الجنائز وندخل المقابر فلا نتغير شيئًا يُذكر!
نلقي المواعظ ونسمع الزواجر فلا تتحرك قلوبنا إلا يسيرًا.
إخوة الإيمان: وقسوة القلب لا تقتصر على جفاف الدمع وقلة الذكر، بل إن الأخلاق السيئة لها ارتباط بقسوة القلب تأمل قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، قال السعدي فظا:"أي سيء الخلق، غليظ القلب أي: قاسيه" . اهـ فاللين إذن ضد القسوة.
إذا قسا القلب لم يهتم لأوجاع إخوانه المسلمين ولا يتأثر لأهات المنكوبين.
عباد الله: يبتلى الله عباده بالفقر والحرب والفقر وغيرها لينكسروا لربهم ويتضرعوا، ولكن قسوة القلب تحرم المرء من التضرع لله كما قال سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام: 43].
وللشيطان مكائد للعباد والقلوب القاسية هشة تنهار أمام ذلك قال عز شأنه: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الحج: 53].
وقد يتصور كثيرٌ من الناس أن قسوة القلب مجرد سبب للمعصية، ويغفل الكثيرون عن أن قسوة القلب قد تكون نتيجة وعقوبة من الله على المعصية ذاتها، فيعاقب الله العبد إذا عصاه بأن يسلط عليه قسوة القلب، التنزيل (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) [المائدة: 13] تأمل.. لقد لعنوا وجعلت قلوبهم قاسية. أعاذنا الله من ذلك كله.
واتباع الهوى وترك الاستجابة لأوامر الله ورسوله تصاحب قسوة القلب (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ) [القصص: 50]، وفي آية أخرى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
وذكر الله أن قلوب قوم من بني إسرائيل قست حتى صارت كالحجارة أو أشد قسوة، ذكر الله ذلك بعد خبر أصحاب البقرة من بني إسرائيل الذين عاندوا وتشددوا فذبحوها وما كادوا يفعلون، ولعل السبب في تسمية سورة البقرة بهذا الاسم تنبيه أمتنا إلى الاستجابة لأوامر الله ورسوله وألا نشابه أصحاب البقرة وخصوصًا أن سورة البقرة أطول سورة، وهي مليئة بالأحكام والأوامر، وفي آخر السورة حكى الله قول المؤمنين: (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
إخوة الإيمان: قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: "مَا كَانَ بَينَ إِسْلاَمِنَا وَبَينَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ" (رواه مسلم).
فإذا كان الله قد حذر أفضل الأمة وخير القرون وهم أهل عبادة وجهاد وتضحية وتقوى فكيف بنا نحن في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الفتن وتزينت فيه الدنيا؟!
لقد قست قلوبنا بسبب ذنوبنا مع قلة توبتنا وضعفنا في العبادات، وفي الحديث: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه" (رواه مسلم).
فالذنب مع الذنب يقسي القلب حتى يكون غلافا يغطي القلب عياذًا بالله (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
وقد توعد الله -جل جلاله- صاحب القلب القاسي بالويل فقال: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].
إخوة الإيمان: قسوة القلب هي نتيجة طبيعية للمعاصي والخطايا بشكل عام، ولكن ثمة عامل له خصوصية في إنتاج قسوة القلب، وهو بكل اختصار: "بُعْدُ العهد عن ذكر الله"..
يقول الله تعالى: (أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
فانظر كيف أن طول الأمد، وبعد العهد عن كتاب الله، أورثهم قسوة قلوبهم، وتنبيه القرآن لهذه الظاهرة التي وقعت في الأمم السابقة ليس للمتعة والتسلية التاريخية، وإنما لكي نتحاشاها ونستفيد من الدرس..
ولاحظ هذه العلاقة -أيضاً- بين بعد العهد عن الذكر وقسوة القلب في قول الله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقول ابن جرير: «يقول الله تعالى ذكره: فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت».
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع .. واستغفروا الله إنه كان غفارًا..
الحمد لله ...
عباد الله: إن علاج قسوة القلب يكون بتوبة صادقة بين العبد وربه عز شأنه فيبتعد فيها عن الذنوب مع إكثار الأعمال الصالحة وبهذين الأمرين يتطهر من أوساخ الذنوب ويتداوى من سمومها.
وإن من خير ما تلين به الأفئدة وتخشع له هو كلام الله قال سبحانه (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23]، ولاستماع القرآن أثر عجيب (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) [الأنفال: 2] تُليت.. إذن هم يستمعون.
وقال سبحانه مخبرًا عن أنبيائه وعمن اجتباهم (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) [مريم: 58]، بل فاضت عيون من لم يكن مسلما كما في خبر جعفر وأصحابه رضي الله عنهم في الحبشة لما استمع النجاشي ومن معه القرآن (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83].
ومما يعالج به قسوة القلب: كثرة ذكر الله تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
قال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أَذِبْهُ بالذِّكْر".
ومن العلاج: الدعاء والالتجاء لله سبحانه فإن القلوب بيده سبحانه، وقد استعاذ عليه الصلاة والسلام من قلب لا يخشع، وسأل ربه قلبًا سليمًا، وسأله الهدى والتقى، وكان مكثرًا من سؤال الثبات.
ومن العلاج: زيارة المسلم المقابر، وخصوصًا حين يكون وحيدًا، ويجلس بعض الوقت متفكرا متذكرا حاله إذا لحق بهم وأهيل عليه التراب ثم تركه الأهل والأحباب.
ومن العلاج: الصدقات يقول أبُو هُرَيرَةَ: شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: "إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِم الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ" (رواه أحمد وحسنه الألبانيُ).
وعلينا ألا نقنط من رقة القلب ولو طالت قسوة قلوبنا فالله لما حذر الله حال من طال عليهم الأمد وقست قلوبهم قال: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد: 17] وفي الآية التي تليها أمر بالصدقة: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد: 18].
ومما يلين القلب ويحمي قسوته: صحبة الصالحين والبعد عن مجالس العصيان، قال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
وختاما عباد الله: لنحرص على تليين قلوبنا وعلاج قسوتها باستماع كلام الله وبتلاوته وتدبره وبزيارة المرضى وبالدعاء وبزيارة المقابر وبالصدقات وبكثرة ذكر الله وبمجالسة أهل الصلاح والذكر.
ثم صلوا وسلموا ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي