عبادة قلبية، كثرة استحضارها دليل على الإخلاص وقوة الإيمان، خصلة إيمانية إذا قويت في القلب سَهُل على المؤمن فعل الطاعات، وساقته إلى مكارم الأخلاق ...، إنها تبعد صاحبها عن شبهة الرياء، وتجعل المسلم يتلذذ بأعمال الخفاء؛ إنها عبودية احتساب الثواب، والتقرب لله، والتماس رضاه.
الحمد لله الذي أضاء نوره الآفاق، الأحد الغني الرزاق، وأشهد أن لا إله إلا الله الحكم العدل يوم التلاق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله متمم مكارم الأخلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه ما تعقب العشيُّ الإشراق.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، تزودا من الباقيات الصالحات، وبعدا وتوبة من المحرمات؛ فإن من بعد سنيّ الدنيا أزمانا طويلة لن نستطيع فيها التقرب لله بالعمل، في آخر آية نزلت قال -جل جلاله-: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
إخوة الإيمان: عبادة قلبية، كثرة استحضارها دليل على الإخلاص وقوة الإيمان، خصلة إيمانية إذا قويت في القلب سَهُل على المؤمن فعل الطاعات، وساقته إلى مكارم الأخلاق من الصبر والجود والعفو والنصح والصدق والأمانة وغيرها، إنها تخفف على النفس المشقة كثيرا ويصل الأمر إلى الرضا ولو كان ثقيلا، إنها ترتبط بأداء الفرائض وترك المحرمات، ولها ارتباط قوي بالنوافل والأعمال التطوعية، إنها تبعد صاحبها عن شبهة الرياء، وتجعل المسلم يتلذذ بأعمال الخفاء؛ إنها عبودية احتساب الثواب، والتقرب لله، والتماس رضاه.
وإليكم -معشر الأحبة- بعض الأحاديث التي تحث على احتساب الثواب، والتقرب لله -سبحانه-.
ففي الصحيحين: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، وفي البخاري مرفوعا: "مَن اتبَعَ جِنازةَ مسلمٍ، إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يُصَلَّى عليها ويُفْرَغَ مِن دَفْنِها، فإنه يَرْجِعُ مِن الأجرِ بقيراطين، كلُّ قيراطٍ مثلَ أُحُدٍ. ومَن صلَّى عليها ثم رَجَعَ قبل أن تُدْفَنَ، فإنه يَرْجِعُ بقيراطٍ"، وفي صحيح مسلم مرفوعا: "إنَّ المسلِمَ إذا أنفق على أهلِه نفقةً، وهوَ يحتسِبُها، كانَتْ لهُ صدقةً".
وكثيرا ما نسمع في رمضان -بلغنا الله إياه-: "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ، ومَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ".
ولما أصيب الحارثة يومَ بدر وهو غلام، جاءت أمه إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: "ويحك! أوَهبلت؟! أوَجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس" أخرجه البخاري، فقولها: أصبر واحتسب: أي: أطلب الأجر من الله مع كف النفس عن الجزع.
عباد الله: نحفظ قول الله: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة:7]؛ ولكن، ما أثرها على حياتنا؟ ما أثرها على أقوالنا؟ وعلى أفعالنا؟ هل نحن نستشعر قوله -سبحانه-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:40]؟ هل نحن نجتنب ما نُهينا عنه مستشعرين: (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:8]؟.
إن استشعار هذه الآيات يجعل المسلم يحرص على فعل الخير ما استطاع، ويجتنب الشر ولو قلّ، ولا يحقر من الخير شيئا. وفي الحديث: "لا تحقرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلِقٍ" أخرجه مسلم.
إخوة الإسلام: احتساب الثواب والتقرب لله يجعل المسلم يصل رحمه ولو قُطعت، احتساب الثواب والتقرب للرب يجعل البائع يصدق ويبين العيب ولو أن القيمة نقصت. احتساب الثواب والتقرب لله يقيم المسلم من فراشه ويتجه إلى بيت الله في شدة البرد تلبية لنداء: حي على الصلاة حي على الفلاح!. احتساب الثواب والتقرب لله يسهّل على الموظف القيام بالعمل المطلوب ولو لم يَرَه مديره ولو لم يشكره رئيسه.
احتساب الثواب والتقرب لله يحدو الابن والبنت إلى المسارعة إلى بر والديه والتلذذ بخدمتهم. احتساب الثواب والتقرب لله سبب للإيثار الذي امتدح الله به الأنصار. احتساب الثواب والتقرب لله يجعل المسلم يخدم أقرباءه وجيرانه وأصدقاءه وزملاءه بما يستطيعه ولا يضره.
احتساب الثواب والتقرب لله جعل أولئك تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا. احتساب الثواب والتقرب لله جعل أولئك ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله.
الاحتساب والتقرب لله يجعل الداعية يمضي في دعوته لا يريد إلا الأجر، الاحتساب والتقرب لله يجعل التاجر يكتفي بربح معقول ويطبق في بيعه مبدأ الأخوة والمحبة: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
الاحتساب -أيضا-: في اتباع جنازة أعجمي مغترب عن أهله تعرفه أو لا تعرفه.
أخي المبارك: لا تحرم نفسك الاحتساب في ابتسامتك وطلاقة وجهك، احتسب الكلمة الطيبة نطقا أو كتابة، احتسب انضباط قيادتك، احتسب نفقاتك على أهلك وذريتك، احتسب إدخال السرور على غيرك، احتسب في جمع نفاياتك عند نزهتك، لقد كان بعض السلف يقاربون الخطى عند ممشاهم إلى المسجد احتسابا؛ إذ بالخطوة تُرفع درجة وتُحط خطيئة، كما في الحديث.
وبالجملة؛ فالنية الخالصة تجارة مع الله -عز وجل-. بارك الله لي ولكم...
أما بعد: إخوة الإيمان، فإن الاحتساب يضاعف الحسنات، ويحافظ على نشاط العبادة والرغبة فيها، والاحتساب يخفف المشقة، ويسكب في النفس الرضا والإخلاص والمراقبة.
والاحتساب يجعل العادات عبادات، وقد كان الصحابة يحتسبون العادات، كما قال معاذ بن جبل: "أما أنا فأنامُ وأقومُ، فأحتَسِبُ نوْمتي كما أحتَسِبُ قوْمتي" رواه البخاري، وقال سفيان بن زبيد -رحمه الله-: "يسرني أن يكون لي في كل شيء نيّة حتى في الأكل والنوم".
وإذا كانت العقلية التجارية تريد إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد؛ فإن عقل المؤمن يجعله يستحضر عدة نيات في العمل، قال الغزالي في إحياء علوم الدين: "وَأَمَّا تَضَاعُفُ الْفَضْلِ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ لَهُ بِكُلِّ نِيَّةٍ ثَوَاب". اهـ.
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: إذا توضأ الإنسان صلى ركعتين ينويهما سنة الوضوء , وإذا دخل المسجد بعد الوضوء صلى ركعتين ينويهما سنة التحية وسنة الوضوء، يحصل له الأجر، أجر سنة الوضوء وأجر تحية المسجد والحمد لله، فضل الله واسع، وإذا صلاها بنية راتبة الظهر، توضأ ودخل المسجد ونوى سنة الظهر وسنة الوضوء وتحية المسجد حصل له ذلك، والحمد لله. اهـ.
إخوة الإيمان: تعالوا إلى بعض الأمثلة التي يمكن فيها تعدد النيات:
ففي الزواج: نية امتثال الأمر النبوي: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، ونية إعفاف النفس، ونية إعفاف مسلمة، ونية ابتغاء ولد صالح، ونية تكثير المسلمين، ونية إدخال السرور عليها وعلى أهلها.
وفي تلاوتك كلام ربك: احتساب أجر الحرف الواحد، ونية زيادة الإيمان وحياة القلب، ونية العمل به، ونية الاستشفاء به، ونية تجنب هجره، وأنه يشفع لأصحابه الذين يعملون به.
وفي خدمتك لأختك وأخيك: احتساب بر الوالدين، واحتسابها صلة رحم، واحتسابها من حسن الخلق.
وفي إتقان العمل: نية... استحضار: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، ونية حل الأجرة والراتب، واستحضار مراقبة ربه -سبحانه-.
وفي إهدائك سواكا: احتسب ثواب الهدية، ونية نشر السنّة، واحتسب ثواب تسوكه عند وضوئه وصلاته وسائر أوقاته.
وفي نزهتك مع قرابتك: احتسب إدخال السرور، وهذا بر وصلة وإحسان.
وعند ذهابك إلى بيت الله: استحضر أن كل خطوة ترفع درجة وتحط خطيئة، وأن الله أعد لك نزلا في الجنة، وأن لك أجر صلاة ما دمت تنتظر الفريضة، واستحضر استغفار الملائكة لك بعد الصلاة وأنت في مصلاك، كما وردت بذلك كله الأحاديث الصحيحة، هذا كله مع ما يفتح الله لك من تلاوة أو علم أو نحوه، فكم من الفضائل والخير يدركه من استحضر هذا وانتظر صلاة بعد صلاة! والذي يمحو الله به الخطايا يرفع الله به الدرجات، وذهب جمهور أهل العلم أن الاعتكاف يصح ولو ساعة.
وأختم بعبارة شهيرة لابن المبارك تناقلها العلماء: "رب عمل صغير تكبره النية، وعمل كبير تصغره النية".
ثم صلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي