وَيَظْهَرُ مِنْ صُوَرِ هَذَا الظُّلْمِ الْخَفِيِّ عَلَى الْغَافِلِينَ: أولًا: مَنْ يَقُودُ السَّيَّارَةَ بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ، وَبِطَرِيقَةٍ مُرَوِّعَةٍ، فَيُفَزِّعُ مِنْ أَمَامَهُ، وَيُرَوِّعُهُ بِسُرْعَةٍ مُسِيرِهِ، وَقَدْ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَنْ يَأْخُذُ المَسَارَ الأَيْمَنَ حَتَّى يَتَجَاوَزَ السَّيَّارَاتِ المُنْتَظِمَةَ فِي سِيَرِهَا المُنْضَبِطَةُ فِي مُسَيِّرِهَا؛ فَيَقَعُ مِنْهُ الظُّلْمُ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا: اِعْتِدَاؤُهُ عَلَى حُقُوقٍ مَنْ سَبَقُوهُ؛ فَتَجَاوُزُهُمْ بِدُونِ حَقٍّ أَوْ مُبَرِّرٍ، نَاهِيكَ عَنْ أَنَّهُ عَرَضَهُمْ لِلخَطَرِ مِنْ خِلَالِ إِخْلَالِهِ بِنِظَامِ السَّيْرِ.
إنَّ الحمدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الاِعْتِدَاءَ عَلَى الآخَرِينَ وظلمَهُمْ، وَسَلْبَهُمْ حُقَوقَهُمْ، وَإِيذَاءَهُمْ؛ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ. وَلِعِظَمِ الظُّلْمِ حَرَّمَهُ اُلله عَلَى نَفْسِهِ؛ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا" (رَوَاهُ مُسِلُمٌ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 108]، فَاللّهُ سُبْحَانَهُ أُولَى بِكُلِّ كَمَالٍ، وَأَحَقُّ بِكُلِّ حَمْدٍ، وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَظُلْمٍ. وَالظُّلْمُ مُنْتَفٍ عَنْهِ بِكُلِّ حَالٍ، بَلْ نَزَّهَ اللهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ الظُّلْمِ بِلَفْظِهِ الصَّرِيحِ، فِي القُرْانِ فِي اِثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ آيَةً. وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ: الشِّرْكُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعْطَاءُ حَقِّ اللهِ لِغَيْرِ اللهِ. وَالظُّلْمُ يَقَعُ مِنْ البَشَرِ، بَعْضُهُ بِحَقِّ اللهِ، وَبَعْضُهُ بِحَقِّ بَعْضِهُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، فَالظُّلْمُ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا، لَا يُحْمَدُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ، وَلَا يُطْلَقْ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالعَيْبِ.
وَالظُّلْمُ أَنْوَاعُهُ عَدِيدَةٌ، وَصُورُهُ كَثِيرَةٌ، بَعْضُهَا بِالأَقْوَالِ، وَبَعْضُهَا بِالأَفْعَالِ. وَحَدِيثُ اليَوْمِ عَنْ ظُلْمٍ يَجْهَلُ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ ظُلْمٌ، أَوْ يَغْفَلُونَ؛ مَعَ أَنَّ فِيهِ اِعْتِدَاءٌ عَلَى الآخَرِينَ؛ وَلَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا؛ لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي الظُّلْمِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلًا:
حِينَمَا يَقُومُ الإِنْسَانُ بِرَمْيِ المُخَلَّفَاتِ فِي الشَّوَارِعِ أَوْ فِي الطُّرُقَاتِ؛ فَهُنَا وَقَعَ فِي الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ هَذَا الشَّخْصُ يَكْمُنُ فِي أَمْرَيْنِ:. الأَمْرُ الأَوَّلُ: إِنَّهُ ظَلَمَ عُمَّالَ النَّظَافَةِ، الضُّعَفَاءَ المَسَاكِينَ، الَّذِينَ تَحْرِقُ الشَّمْسُ رُؤُوسَهُمْ، وَيُؤْذِي البَرْدُ أَجْسَادَهُمْ، وَيُيَبِّسُ الظَّمَأُ شِفَاهَهُمْ، فَيَبْذُلُونَ - بِسَبَبِ رَمْي النَّاسِ لَهَا فِي غَيْرِ أَمَاكِنِهَا- جُهْدًا مُضَاعَفًا؛ فِي جَمْعِهَا وَوَضْعِهَا فِي الأَمَاكِنِ المُخَصَّصَةِ لَهَا؛ فَبِأَيِّ حَقٍّ يُظْلَمُونَ؟ أَلَا يَخْشَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يَرْفَعَ أَحَدُهُمْ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَشْتَكِي إِلَى اللهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ؟
الأَمْرُ الثَّانِي: هَذَا الظُّلْمُ يَقَعُ عَلَى النَّاس –أَيْضًا- حِينَمَا تُلْقَى هَذِهِ المُخَلَّفَاتُ وَالْقَاذُورَاتُ فِي طُرُقِهِمْ، فَقَدْ تُعَرْقِلُ سَيْرَهُمْ، أَوْ تُلَوِّثُ أَبْدَانَهُمْ.
وَيَزْدَادُ الأَمْرُ سُوءًا وَإِثْمًا؛ حِينَمَا يَرْمِي قَائِدُ المَرْكَبَةِ، أَوْ أَحَدُ الرَّاكِبَيْنِ مَعَهُ مُخَلَّفَاتِهِمْ وَهُمْ يَسِيرُونَ؛ فَيَقَعُ مِنْهُمُ مَزِيدٌ مِنَ الظُّلْمِ؛ لأَنَّ هَذِهِ المُخَلَّفَاتِ قَدْ تَضُرُّ بِالسَّيَّارَاتِ الْمَارَّةِ، وَقَدْ تُرَوِّعُ قَائِدَ مَرْكَبَةٍ أُخْرَى حِينَمَا تَضْرِبُ بِسَيَّارَتِهِ، أَوْ قَدْ يَقِفُ أَحَدُهُمْ فَجْأَةً - بِسَبَبِ هَذَا الْاِرْتِطَامِ- مِمَّا قَدْ يُعَرِّضُهُ، أَوْ يُعَرِّضُ السَّيَّارَاتِ الأُخْرَى لِلخَطَرِ.
ويُشَوِّهُ الْفَاعِلُ صُورَةَ مُجْتَمَعِهِ وَبَلَدِهِ، وَيَظُنُّ الغُرَبَاءُ بِأَنْ هَذَا خَلُقٌ مُتَوَارَثٌ، مَعَ أَنَّ الدِّينَ قَدْ حَرَّمَةُ، وَالأَخْلَاقُ النَّبِيلَةُ وَمَكَارِمُهَا تَنْبُذُهُ.
وَمِنَ الظُّلْمُ أَيْضًا مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ تَشْوِيهٍ لِلمُتَنَزَّهَاتِ البَرِّيَّةِ، حَيْثُ يَتْرُكَ بَعْضَ المُتَنَزِّهَيْنِ الَّذِينَ أُتُوا لِيَسْتَجِمُّوا مُخَلَّفَاتِهِمْ عِنْدَ مُغَادَرَتِهِمْ بِمَنَاظِرِ بَشِعَةٍ، تَتَقَزَّزُ مِنْهَا الأَنْفُسُ، وَتَضِيقُ مَنْهَا الصُّدُورُ، وَلَا تُسَرُّ بِمَرْآهَا العُيُونُ؛ فَإِذَا أَتَى إِلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ زُوَّارٌ وَمُتَنَزِّهُونَ جُدُدٌ؛ ضَاقَتْ عَلَيْهُمْ الأَمَاكِنُ النَّظِيفَةُ؛ وَقَدّْ لَا يَسْلَمُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَلَيْهِ وَدُعَاءِ النَّاسِ، أَيَلِيقُ بِمُسْلِمٍ تَرَبَّى عَلَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا القُرْآنُ، وَعَرَفَ نَهْجَ النُّبُوَّةِ؛ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟!
وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ أَشْرَفُ السُّنَنِ وَأَعْلَاهَا، وَأَكْمَلُهَا وَأَوْفَاهَا، وَأُفَضَلُهَا فِي مَعْرِفَةِ حَاجَاتِ النَّاسِ، وَمُتَطَلَّبَاتِ الحَيَاةِ، وَمِنْهَا المُحَافَظَةُ عَلَى البِيئَةِ. قَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَفِي الحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنْ الأَفْعَالِ الَّتِي يَلْعَنُ مِنْ خِلَالِهَا النَّاسُ فَاعِلِيهَا، كَمَنْ يُلَوِّثُ قَارِعَةَ الطَّرِيقِ، أَوْ ظِلَّ الشَّجَرَةِ، أَوْ ضِفَاف الأَنْهَارِ، وَمَجَامِعَ السُّيُولِ بِفَضَلَاِتِه؛ مِمَّا يَحْرِمُهُمْ الجُلُوسَ فِيهَا وَالاِسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا مَنْ يُلَوِّثُهَا بِفَضَلَاتِ طَعَامِهِ.
وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الأَفْعَالَ تَجْلِبُ اللَّعْنَ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَلْعَنُهُمْ المَارَّةُ عَلَى فِعْلِهُمْ القَبِيحِ، حَيْثُ أَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَنْفَعَتَهُمْ، فَكَانَ ظُلْمًا ، وَكُلُّ ظَالِمٍ مَلْعُونٌ.
وَقَدْ تَأْتِي رِيَاحٌ تَنْقُلُ هَذِهِ المُخَلَّفَاتِ إِلَى آخَرِينَ؛ فَيَزْدَادُ عَدَدُ المُتَضَرِّرِينَ مِنْ هَذِهِ الأَفْعَالِ المَشِينَةِ، وَكَانَ مِنْ المُفْتَرَضِ يَجْمَعُوا مُخَلَّفَاتِهِمْ، وَيَضَعُوهَا فِي الأَمَاكِنِ المُخَصَّصَةِ لَهَا، وَيَفْصِلُوا الطَّعَامُ عَنْهَا، وَيَضَعُوهُ فِيمَا خُصِّصَ لَهُ، أَوْ يُقَدِّمُوهُ لِلْحَيَوَانَاتِ، وَإِذَا كَانَتْ بَعْضُ هَذِهِ المُتَنَزَّهَاتِ البَرِّيَّةِ، لَا تُوجَدُ فِيهَا أَمَاكِنُ مُخَصَّصَةٌ لِلمُخَلَّفَاتِ، فَعَلَيْهُمْ أَنْ يَضَعُوهَا فِي أَقْرَبِ مَكَانٍ مُخَصَّصٍ لَهَا، أَوْ أَنْ يَدْفِنُوهَا، أو يَحْرِقُوهَا فِي أَمَاكِنَ غَيْرِ مُعْشِبَةٍ؛ وَالمَقْصُودُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْهَا بِأَيِّ طَرِيقَةٍ مُمْكِنَةٍ وَمَشْرُوعَةٍ. فَلَيْسَ الإِنْسَانُ بِحَاجَةٍ إِلَى رَقِيبِ بَشَرِي، يُوَجِّهُهُ طَالَمَا أَنَّ الخَوْفَ مِنْ الجَلِيلِ مَوْجُودٌ بِقَلْبِهِ.
كَمَا أَنْصَحُ نَفْسِي وَغَيْرِي بِأَنْ نَتَوَاضَعَ لِلهِ، وَمَتَى رَأَيْنَا مِثْلَ هَذِهِ المُخَلَّفَاتِ فِي طُرُقِ النَّاسِ، وَفِيَّ مُتَنَزَّهَاتِهِمْ؛ فَلِنُبَادِرْ بإزَالَتِهَا إِمَّا بِأَنْفُسِنَا أَوْ بِتَنَبيه أَهْلِ الاِخْتِصَاصِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ؛ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ؛ الاِعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِ الآخَرِينَ، وَاللّه تَعَالَى قَالَ: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وَيَظْهَرُ مِنْ صُوَرِ هَذَا الظُّلْمِ الْخَفِيِّ عَلَى الْغَافِلِينَ:
أولًا: مَنْ يَقُودُ السَّيَّارَةَ بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ، وَبِطَرِيقَةٍ مُرَوِّعَةٍ، فَيُفَزِّعُ مِنْ أَمَامَهُ، وَيُرَوِّعُهُ بِسُرْعَةٍ مُسِيرِهِ، وَقَدْ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَنْ يَأْخُذُ المَسَارَ الأَيْمَنَ حَتَّى يَتَجَاوَزَ السَّيَّارَاتِ المُنْتَظِمَةَ فِي سِيَرِهَا المُنْضَبِطَةُ فِي مُسَيِّرِهَا؛ فَيَقَعُ مِنْهُ الظُّلْمُ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا: اِعْتِدَاؤُهُ عَلَى حُقُوقٍ مَنْ سَبَقُوهُ؛ فَتَجَاوُزُهُمْ بِدُونِ حَقٍّ أَوْ مُبَرِّرٍ، نَاهِيكَ عَنْ أَنَّهُ عَرَضَهُمْ لِلخَطَرِ مِنْ خِلَالِ إِخْلَالِهِ بِنِظَامِ السَّيْرِ.
وَثَالِثَةُ الأثَافِي أَنَّهُ أَغْلَقَ الطَّرِيقَ الأَيْمَنَ عَلَى أَصْحَابِ الحَقِّ، الَّذَيْنِ يَسْمَحُ لَهُمُ النِّظَامُ أَلَّا يَقِفُوا عِنْدَ الإِشَارَاتِ، فَأَوْقَفَ حَرَكَةَ سَيرِهِمْ، وَأَلْزَمَهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوا حَتَّى تُضِيءَ الإِشَارَات لَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُونَ لِدَقَائِقَ طَوِيلَةٍ مِنْ جَرَّاءِ كَثْرَةِ الزِّحَامِ، وَهُوَ حَجْرَةُ عَثْرَةٍ فِي طَرِيقِهِمْ، يَنْتَظِرُ أَنْ تُضِيءَ الإِشَارَةُ لِيَسْلُكَ الطَّرِيقَ الأَمَامِيَّ أَوِ الأَيْسَرَ.
عِبَادَ اللهِ، هَذَا ظُلْمٌ يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَقَدٌّ لَا يَعْرِفونَ أَنَّهُ ظُلْمٌ، وَالنَّاسُ الَّذِينَ حَبَسَهُمْ فِي سَيَّارَاتِهُمْ يَتَحَسَّبُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ، وَكَذَلِكَ شَوَّهَ صُورَةَ المُجْتَمَعِ أَمَامَ الغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ نُظْهِرَ لَهُمْ اِنْضِبَاطَنَا فِي حَيَاتِنَا مِنْ خِلَالِ طَاعَتِنَا لِلهِ، ثُمَّ طَاعَةِ أُولَى أَمْرِنَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ.
وَمِنْ الظُّلْمِ الخَفِيِّ أَيْضًا، وَهَذَا يُلْحَظُ فِي أَمَاكِنِ الاِنْتِظَارِ، أَوْ الصُّفُوفِ المُزْدَحِمَةِ؛ مِنْ خِلَالِ المَسَارَاتِ الَّتِي لَا أَرْقَامَ فِيهَا، وَخَاصَّةً فِي المَطَارَاتِ؛ حَيْثُ يَظُنُّ البَعْضُ أَنَّهُ يَتَذَاكَى، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي السَّيْرِ المُتَقَدِّمِ، إِمَّا بِحِيَلٍ أَوْ كَذِبٍ، أَوْ صَلَافَةٍ؛ سَمِّهِ مَا شِئْتَ، مَعَ أَنَّهُ حَضَرَ مُتَأَخِّرًا ؛ فَيَحْرِمُ المُتَقَدِّمِينَ مِنْ حُقُوقِهِمْ؛ فَيَضُرُّ بِهِمْ؛ فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْضَبِطَ فِي مَسَارِهِ، وَأَلَّا يَعْتَدِيَ عَلَى حُقُوقِ غَيْرِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مضطرًا أَوْ يَخْشَى مِنْ فَوَاتِ مَوْعِدَ رِحْلَتِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ مِنْهُمْ، وَيَشْرَحَ لَهُمْ ظَرْفَهُ، وَلَنْ يَجِدَ مِنْ النَّاسِ إِلَّا كُلَّ خَيْرٍ.
أُمَّا الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْحُقُوقِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْغَيْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ النَّاسُ حَيَاءً وَكَظَمُوا غَيْظُهُمْ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ اللهِ لَا يَضِيعُ، (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)، وَقَال تَعَالَى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15].
عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَقَعُ فِيهَا الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ الأُمُورِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى، وَيَسْتَهِينُونَ بِهَا، وَلَا يُلْقُونَ لَهَا بَالًا، وَهَذَا –وَرُبِيَ- مِنْ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ؛ وَلَكِنَّهَا ظُلْمٌ أَوْ اِعْتِدَاءٌ، كَبِيرُهُ كَبِيرٌ، وَصَغِيرُهُ صَغِيرٌ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى الهَالِكِ كَيْفَ هَلَكَ، وَلَكِنِ انظُرْ للنَّاجِي كَيْفَ نَجَا، فَلَا تُعَامِلْ هَؤُلَاءَ الْمُسْتَهْتِرِينَ بِالْمِثْلِ، لَكِنِ اِرْفَعِ السُّفَهَاءَ وَالْمُسْتَهْتِرِينَ وَغَيْرَ الْمُبَالِينَ إِلَى أَخْلَاقِكِ الَّتِي عَلَّمَهَا لَكَ الدِّينُ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى أَخْلَاقِهِمُ الَّتي نَبَذَهَا الدِّينُ.
إِنَّ هَذِهِ الأَفْعَالَ يَغْفُلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ كَوْنِهَا ظُلْمٌ؛ وَإِلَّا لَمَا فَعَلُوهَا؛ لِأَنَّ غَالِبِيَّتَهُمْ يَخْشَوْنَ اللهَ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهَا ظُلْمٌ؛ لَتَرَكُوهَا خَوْفًا مِنْ اللهِ. فَمَنْ وَقْعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَفْعَالِ فَعَلَيْهِ الاِسْتِغْفَارُ لِمَا مَضَي، وَالعَزْمُ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ آتٍ، قَالَ اللّه تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 199]، وَقَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الظُّلْمِ!
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبةُ الثَّانيةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى
وَمِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الخَفِيِّ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مَنْ وَضَعِ أَحْذِيَتِهِمْ فِي مَدَاخِلِ المَسَاجِدِ بِطَرِيقَةٍ عَشْوَائِيَّةٍ، مَعَ وُجُودِ أَمَاكِنَ مُخَصَّصَةٍ لَهَا، فَكَمْ تَعَرْقَلَ - بِسَبَبِ تَكَدُّسِهَا وَتَكَوُّمِهَا - أُنَاسٌ، وَتَعَثَّرَ مُصَلُّونَ؛ خَاصَّةً كِبَارُ السِّنِّ وَأَصْحَابُ العَرَبَاتِ؛ فَلِمَ العَجَلَةُ بِوَضْعِهَا فِي غَيْرِ أَمَاكِنِهَا؟!
فَلَا تَنْظُرْ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ اِسْتَهَانُوا بِهَذَا الأَمْرِ؛ فَإنَّ كَثْرَتَهُمْ لَا تَعْنِي أَنّهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَغَالِبًا المَسَاجِدُ - وَلِلهِ الحَمْدُ - فِيهَا أَمَاكِنُ قَدْ خُصِّصَتْ لِلأَحْذِيَةِ وَهُيَّأَتْ؛ فَإِذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنَ الاِحْتِيَاجِ، أَوْ لَا تُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَضَعَ حِذَاءَكَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ؛ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى بِسَبَبِهِ الآخَرُونَ، فَكَمْ سَمِعْنَا مَنْ يَدْعُو عَلَى مَنْ وَضْعَ أَحْذِيَتَهُ الَّتِي تُعِيقُ الدُّخُولَ إِلَى الْمَسْجِدِ! إِنَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي يَسْتَهِينُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، لَيْسَ بِالأَمْرِ الْهَيّنِ، وَلَا يَلِيقُ بِمُسْلِمٍ.
وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ السَّيِّئَةَ لَا تُوجَدُ- وَلِلهِ الحَمْدُ وَالشُّكْرُ- فِي الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ - مَعَ كَثْرَةِ المُصَلِّينَ - الَّتِي تَصِلُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَلَايِينَ فِي الفَرْضِ الوَاحِدِ؛ فَإِذَا كَانَتِ المَلَايِينُ قَدْ اِنْضَبَطَتْ، وَتَمَّ ضَبْتُهَا؛ أَفَيَعْجَزُ العَشَرَاتُ أَنْ يَضْبِطُوا أَنْفُسَهُمْ؟!
إِنَّ هُنَاكَ - مَعَ الأَسَفِ - مَنْ يَسْتَقِلُّ هَذِهِ المَسْأَلَةَ؛ لِعَدَمِ شُعُورِهِ بِالأَضْرَارِ، وَالَّتِي قَدْ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا أَئِمَّةُ المَسَاجِدِ، الَّذِينَ يُكْثِرُ النَّاسُ مِنْ الشَّكْوَى لَهُمْ مِنْ هَذَهِ الفَوْضَى وَالعَشْوَائِيَّةِ فِي رَمْيِ الأَحْذِيَةِ الَّتِي تَتَكَدَّسُ خَاصَّةً فِي أَيَّامِ الجَمْعِ.
عِبَادَ اللهِ، إِنْ هَذِهِ نَمَاذِجُ مِنَ الظُّلْمِ الخَفِيِّ وَالَّتِي قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا مِنَ اللَّمَمِ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ؛ فَلْنَحْذَرْ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ، سَوَاءً كَبُرَ أَمْ صَغُرَ، قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَنَنْصَحُ الْمُحْسِنِينَ أَلَّا يُهْمِلُوا تَخْصِيصَ أَمَاكِنَ لِلأَحْذِيَةِ فِي مَدَاخِلِ الْمَسَاجِدِ.
الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي