حديثنا اليوم عن خلق ذميم، ووصف قبيح؛ أصيب به كثير من الناس فتاهوا في دروب الدنيا الشائكة، واتبعوا شهواتها الفانية، وانغمسوا في ملذاتها الزائلة، ونسُوا ما خلِقوا من أجله من طاعة وعبادة؛ إنها الغفلة، وما أدراكما الغفلة؛ داء عضال، من ابتلي به وتمكن من قلبه لا...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام: ما زال حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق، وقبيح الخصال، وحديثنا اليوم عن خلق ذميم، ووصف قبيح، أصيب به كثير من الناس فتاهوا في دروب الدنيا الشائكة، واتبعوا شهواتها الفانية، وانغمسوا في ملذاتها الزائلة، ونسُوا ما خلِقوا من أجله من طاعة وعبادة؛ إنها الغفلة، وما أدراكما الغفلة؛ داء عضال، من ابتلي به وتمكن من قلبه لا تنفعه ذكرى، ولا تفيده موعظة ولا فكرة، ولا يؤثر في نفسه زجر ولا تخويف، ولا آية ولا حديث.
الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ.
والغفلة متابعة النفس على ما تشتهيه.
والغفلة غيبة الشّيء عن بال الإنسان، وعدم تذكّره له.
والغفلة عن الشيء نسيانه، وإهماله، والإعراض عنه.
والغفلة التي نريد الحديث عنها، والتحذير منها هي: الغفلة عن عبادة الله ولقائه سبحانه.
وللغفلة صور ومظاهر؛ منها: الغفلة عن آيات الله؛ فمن الناس من هو غافل عن آيات الله المنظورة، وآياته المتلوة؛ كما قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 92].
لا يتأمل ولا يتفكر في الآيات الكونية التي تدل على عظمة الله وقدرته ووحدانيته، كمن قال الله في حقهم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105].
ولا يُقبلُ على كتاب الله ليتلوه ويتدبره: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان: 7].
الغفلة عن عبادة الله؛ أن يتيه الإنسان في دروب الحياة الشائكة، ويُسَخرَ كل طاقاته في العمل لهذه الدنيا الفانية، وينسى ما خلق من أجله وهو عبادة ربه سبحانه. لا همّ له إلا أن يستمتع بملذات هذه الدنيا الفانية، ولا هدف له إلا أن يركض وراء شهوات هذه الدنيا الزائلة. غافل عن طاعة ربه، معرض عن عبادة خالقه، مضيع للفرائض، مسرف في المعاصي، مفرّط في القربات، مكثر من السيئات.
وقد توعّد الله -تعالى- من يستكبر عن عبادته ويفرط في طاعته بأشد الوعيد، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60]، وقال عز وجل: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون: 4 - 7].
الغفلة عن الموت والدار الآخرة؛ فالغفلة تُنسي العبدَ ربّه وآخِرَته، وتجعله متعلقا بدنياه، مُعرضا عن آخِرَته، لا يتذكر الموت، ولا يستعد ليوم الحشر، تائه غافل، حتى إذا نزل به الموت تمنى العودة، وقال: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99 - 100]، قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) [ق: 19 - 22] أي كنت غافلا عن هذا اليوم مشغولا عنه بمتاع الدنيا الزائل، لم تتذكره ولم تستعد له: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 22]، ها أنت الآن ترى الحقيقة التي كنت تتهرب منها، ها أنت الآن ترحل عن الدنيا التي ملأتْ قلبك واستعبدتْ جوارحك.
وقال الله -سبحانه-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء: 1 - 3] فهم في غفلة عما خُلِقوا له، وإعراض عما زُجروا به، كأنهم للدنيا خلقوا، وللتمتع بها وُلِدُوا، وقلوبهم غافلة معرضة، وأجسادهم لاهية لاعبة.
إخوتي الكرام: الغفلة مرض خطير من أمراض القلوب، مخاطرها كثيرة، وعواقبها وخيمة، لذا بعث الله أنبياءه ورسله لينذروا الناس من هذا الداء العضال وما يترتب عنه من سيء الأعمال، فقال تعالى: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أنْذِرَ آبَاؤهُمْ فَهُمْ غَافِلونَ) [يس: 6].
الغفلة طريق إلى الهلاك والدمار؛ فبغفلة الإنسان عن مصيره يكون ظلمُه وطغيانه، وعقاب الله للظالمين شديد، قال الله -تعالى- عن فرعون وقومه: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 135 - 136].
الغفلة سبب في الحرمان والخسران؛ فمن استولت الغفلة على قلبه ضل وتاه وضاع وفقد كل خير، فتراه يعيش في الدنيا كما تعيش الأنعام؛ لا همّ له إلا في طعامه وشرابه وشهوته، وذلك هو الخسران المبين، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179] منعتهم الغفلة من الانتفاع بهذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية، كما قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف: 26].
من استولت الغفلة على قلبه وعقله لا ينتفع بآية، ولا تؤثر فيه موعظة؛ لأنه لم يؤهلْ نفسَه ويُعدّها للانتفاع بآيات الله؛ كما قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
الغفلة سبب في الحسرة والندامة؛ سيتجرّع مرارة الحسرة كلّ مَن غفل عن طاعة الله وعبادته وآياته، يوم لا ينفع ندم ولا تغني حسرة، قال الله -تعالى-: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم: 39 - 40] حينها يلوم المرء نفسه ويعاتبها على غفلتها وضلالها، يوم لا ينفع لوم ولا عتاب، قال تعالى: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء: 97].
الغفلة سبب في تسلط الشيطان على الإنسان وإغوائه؛ فبذِكر الله يبتعد، وبالغفلة عن ذِكره يقترب؛ لِذا أمر الله -تعالى- بذكره عند نزغات الشيطان، فقال سبحانه: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) [الأعراف: 200 - 202].
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنّه سمع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "إذا دخل الرّجل بيته، فذكرَ اللهَ عند دخوله وعند طعامه، قال الشّيطان: لا مَبيتَ لكم ولا عَشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشّيطان: أدركتم المَبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيتَ والعَشاء".
فانتبهْ من غفلتك لتكونَ من الناجين، وانتبه من غفلتك لتكون من الفائزين.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من الناجين، وأن يجعلنا من الفائزين.
إخوتي الكرام: ما السبيل إلى وقاية النفس من الغفلة ومخاطرها؟
أولاً: ذكرُ الله -تعالى-؛ فهل يليق بعاقل أن يكون غافلاً عن ذكر خالقه ومولاه؟ يَذكرُ المشاهير من البشر، ولا يذكرُ خالقَ البشر، وقد حذر الله -تعالى- من الغفلة عن ذِكره، فقال سبحانه: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف: 205].
وأمر عز وجل بكثرة ذِكره، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 41 - 42] فأين نحن من كثرة الذكر؟ وأين نحن من تسبيح الله صباحا ومساء؟
ثانيا: قراءة القرآن؛ فبالقرآن تزكو النفوس، وتزول الغفلة والغشاوة عن القلوب، وتكون الذكرى (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37] فيه هدى ونور، وموعظة وشفاء لما في الصدور: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة لِلْمُؤمِنِينَ) [يونس: 57].
ثالثا: مجالس العلم والذكر؛ فبحضور مجالس العلم والذكر تزول الغفلة عن القلوب، أن تجالس من يذكّرك بالله، ويَحُثك على ذِكر الله، ويُسْمِعك كلام الله، ويُحدثك عن رسول الله، مجالسُ العلم التي قال عنها حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرَهم الله فيمن عنده" (رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-)، يقول ابن القيّم -رحمه الله-: "إنّ مجالسَ الذّكر مجالسُ الملائكة، ومجالسَ اللّغو والغفلة مجالسُ الشّياطين، فليتخيّر العبد أعجبَهما إليه وأولاهما به، فهو مع أهله في الدّنيا والآخرة".
رابعا: الدعاء والتضرع إلى الله -تعالى-؛ فما أحوجنا إلى أن ندعوَ الله أن يذكّرنا إذا نسينا، وأن ينبهنا إذا غفلنا، وأن يرزقنا قلوبا طاهرة وألسُنا ذاكرة، وقد علمنا حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن ندعو الله بعد كل صلاة، فنقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وربنا -سبحانه وتعالى- يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
خامسا: المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة؛ فبالغفلة يكون تركُ الصلاة وتضييعُها، وبالمحافظة على الصلوات تكون البراءة من الغفلة ومن سبيل الغافلين؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يُكتبْ من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية كتبَ من القانتين" (رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
سادسا: الحرص على قيام الليل؛ قال الله -تعالى- مثنياً على عباده القائمين بالليل: (وَالذِينَ يَبيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان: 64]ن وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" (أخرجه أبو داود وابن حبان وابن خزيمة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
سابعا: الإكثار من ذكر الموت؛ فكفى بالموت واعظا، وكفى به منبّها ومذكرا، فكيف لمن يتذكر الموت ويحضر الجنائز ويزور المقابر، أن يكون غافلا عن طاعة ربه وعبادته ولقائه؟ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكرَ هاذم اللذات" (يعني الموت) (أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع)، فالموت يهدم اللذات التي هي سبب في الغفلة والإعراض والطغيان.
فما من إنسان إلا وسيرحل عن هذه الدنيا، طال به العمر أم قصر، وإنما البقاء والدوام لله وحده: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
الموت بابٌ وكلُّ الناسِ داخله *** فليت شعري بعد الباب ما الدارُ
على المرء أن يتذكر على الدوام أنه يوما ما سيكون القبرُ مسكنه ومأواه، فليُعِدّ العُدّة لذلك اليوم الذي سيدفن فيه في قبر ضيق مظلم موحش، حتى يكونَ قبرُه روضة من رياض الجنة يرى منه مقعده في الجنة، عن هانئ مولى عثمان -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ"، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظرا قط إلا والقبرُ أفظع منه" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
فإلى متى الغفلة والقبرُ ينتظرنا؟ وإلى متى الغفلة والموت ملاقينا؟ وإلى متى الغفلة وإلى الله مرجعنا؟ يقول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سُدى، وإن لكم مَعاداً يَنزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسِعتْ كل شيء، وحُرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترَدّ إلى خير الوارثين. وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبَه، وانقضى أجله، فتودّعونه، وتدَعونه في صَدْع من الأرض، غير مُوَسّد ولا مُمَهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته".
فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فليعلم الغافل أنه ليس بمغفول عنه، وأن الله -تعالى- يقول: (ومَا رَبُّكَ بغافلٍ عَمَّا تعْمَلون) [النمل: 93].
اعلم -يا عبد الله- أن دوام الحال من المحال، فاليوم في الدور وغداً في القبور، واتق ليلة فجرُها يومُ القيامة، واعمل لدار السلامة، ولا تعجز فتكون في دار الندامة، فليس هناك إلا داران: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: 7].
ثم اعلم -يا عبد الله- أنك في دارٍ ليست للبقاء وإن تراخى العمر وامتدَّ المدى، أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل. شبابُها إلى هرَم، وراحتُها إلى سَقَم، ولذّاتُها إلى نَدَم. الدنيا قنطرةٌ لمن عَبَر، وعبرةٌ لمن استبصَر واعتبر: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
اليومَ تُعزِّي وغدا يُعزّى فيك، واليومَ تبكي وغدا يُبكى عليك.
وإذا حَمَلْتَ إلى القبور جنازةً *** فاعلَمْ بأنَّكَ بعدها محمولُ
فاتقوا الله -عباد الله- واستبقوا الخيرات، وبادِروا قبل أن تتمنّوا المهلةَ وهيهاتَ هيهات، ولا تغترّوا بحياةٍ تقود إلى الممَات، لا يُرى في حُشودِها إلاّ الشتات، ولا يُسمَع في ربوعِها إلا "فلان مرِض، و "فلان مات": (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18 - 19].
فاللهم يَسّرْنا لليُسرى، وانفعنا بالذكرى، واجعلنا ممن يخشاك في السر والنجوى، وممن يتقيك حق التقوى.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من عبادك الصالحين، يا رب العالمين.
اللهم حببْ إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا مولانا من الراشدين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم اجمع شملهم، ووحد صفوفهم، وفرج همومهم، ونفس كروبهم، وانصرهم على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي