لقد حفظ الإسلام بهداياته الكريمة وآدابه العظيمة وتوجيهاته الرفيعة ما يحقق لأهله أخوَّتهم والتوادَّ بينهم والبُعد عن التشاحن والعداء، جاء بتوجيهاتٍ عظيمة تُمتِّن الأخوة الإيمانية وتقوِّيها وتزيدها وتنمِّيها، وتُبعد أهل الإسلام عن كل موجبٍ للعداء مسبِّبٍ للبغضاء والشحناء.
الحمد لله الكريم الحميد؛ يهدي لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، ويصرف عن سيئها، لا يصرف عن سيئها إلا هو، أحمده حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذاكرين، أحمده جل في علاه على نعمائه وعلى منِّه وفضله وعطائه حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وتقوى الله جل وعلا: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: لقد حفظ الإسلام بهداياته الكريمة وآدابه العظيمة وتوجيهاته الرفيعة ما يحقق لأهله أخوَّتهم والتوادَّ بينهم والبُعد عن التشاحن والعداء، جاء بتوجيهاتٍ عظيمة تُمتِّن الأخوة الإيمانية وتقوِّيها وتزيدها وتنمِّيها، وتُبعد أهل الإسلام عن كل موجبٍ للعداء مسبِّبٍ للبغضاء والشحناء.
وتأمل أيها المسلم في هذا المقام سياقًا كريما وتوجيهًا عظيمًا في سورة الحجرات؛ قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 10- 11].
أيها المؤمنون: إن الواجب على كل مسلم أن يرعى للأخوة الدينية مكانتها، وأن يحفظ لها قدرها، وأن يربأ بنفسه عن كل خادشٍ لها أو مُخلٍّ بها، ومن أعظم ذلك -عباد الله- ما بُدئ به في هذا السياق في ذكر جملةٍ من المنهيات تضر بالأخوة الإيمانية أيما إضرار؛ ألا وهو -عباد الله- «السخرية»، والسخرية -عباد الله- خصلة ذميمة وخلَّة لئيمة إذا اتصف بها العبد أضرت به إضرارًا عظيما وكانت موجبًا للإخلال بالأخوة الإيمانية والرابطة الدينية.
عباد الله: والسخرية وليدة الاحتقار، والاحتقار وليد الكبر، فهي صفاتٌ ذميمة يتوالد بعضها من بعض، وسوءاتٌ مشينة يأتي بعضها إثر بعض، وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ"؛ أي يكفيه حظًا ونصيبًا من الشر أن يكون بهذه الصفة؛ يحقر أخاه المسلم ثم يتولد عن ذلك الاستهزاء به والسخرية منه والتهكم فيه.
عباد الله: والسخرية تنشأ في المرء عندما ينظر إلى نفسه المقصِّرة بعين الرضى وينظر للآخرين بعين الانتقاص؛ فيلوك حينئذ أعراضهم تهكمًا وسخرية واستهزاء.
أيها المؤمنون: ليحذر كل مسلم من أن يكون متصفًا بهذه الخصلة الذميمة من أهل السخرية بالمؤمنين والاستهزاء بالمسلمين والانتقاص لعباد الله المطيعين، فما أعظمه من جُرم وما أسوأه من ذنب.
عباد الله: وكلما يوغل المرء في الإجرام ويتمادى في الآثام يزداد حظه من الانتقاص لأهل الإسلام؛ نعم عباد الله، يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطففين:29-30] فجعل الله عز وجل هذا التغامز والتلامز والسخرية لصيق الإجرام والمتولد عنه.
أيها المؤمنون: لا يستهن مسلمٌ ناصح لنفسه بأمر السخرية أيًّا كان أمرها، ومهما كانت صورتها ومهما ظن صِغر حجمها؛ فإن أمرها عند الله عظيم، وقد يسخر امرؤ من آخر ويكون المسخور منه المستهزَئ به خيرٌ عند الله عز وجل من عشرات بل مئات من مثل هذا الساخر، ولهذا جاء في هذا السياق الكريم في سورة الحجرات قول الله -عز وجل-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، وفي الحديث: "رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ".
بعض الناس -عباد الله- يتهاون في هذا الباب فيسخر من آخر لرثاثة هيئته أو تردد كلامه أو دمامةٍ في بعض صفاته أو شيء في أعماله فيتندَّر منه ويسخر، ولا يدري قد يكون هذا الذي هو يسخر منه من عباد الله المقربين ومن أوليائه المتقين، فإن الأكرم عند الله الأتقى له جل في علاه، فإن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صور الناس ولا إلى هيئاتهم ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم.
عباد الله: قد يسخر بعض الناس من الآخرين في صفات هي فيه وهو متصف بها، وتأملوا في هذا أمرًا نبَّه عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب على المنبر، ففي الصحيحين عن عبدالله بن زمعة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب، وذكر أمورًا من خطبته قال: "ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ"، وَقَالَ صلوات الله وسلامه عليه: "لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ".
وهذا تنبيهٌ -عباد الله- إلى بابٍ شريف عظيم في باب الآداب والأخلاق؛ أن يحذر المرء من التندر والسخرية بأمور ربما يكون متصفًا بها وربما يبلى بعد وقت بالاتصاف بها، وقد كان كثير من السلف على حذرٍ شديد من ذلك لأمور منها خشية أن يُبتلى بشيء من ذلك، وفي هذا آثار عديدة عن السلف -رحمهم الله تعالى-.
عباد الله: وليُحذر في هذا المقام من أقل القليل ولو أن تصف آخر بما هو من صفاته أو من أعماله إذا كان على وجه التقليل من شأنه، جاء في سنن أبي داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا»، وهي تعني كما جاء في بعض الروايات قَصِيرَةً، فَقَالَ النبي عليه الصلاة والسلام: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ".
ولم يكن هذا خُلقًا لعائشة ولا منهجًا لها رضي الله عنها، قالت ذلك مرة في تلك المرة فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قال، فكيف عباد الله بمجالسَ ومجالس قائمة على السخرية والاستهزاء والتهكم والاحتقار والانتقاص والازدراء !!
أيها المؤمنون: ومن الخطير في هذا الباب محاكاة الآخرين تقليدًا لأصواتهم أو لطريقة مشيهم أو لبعض حركاتهم إضحاكا للجالسين، ولهذا جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة حين حكت له إنسانًا قال: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا".
عباد الله: وكثيرٌ مما يسمى في زماننا هذا بـ«التمثيليات» قائمٌ على هذا الباب؛ باب السخرية والاستهزاء والانتقاص والازدراء، إضحاكًا للناس وملأً لأوقاتهم بهذا الركام من الآثام، ويعظم الخطب ويشتد الأمر عندما تكون تلك التمثيليات قائمةً على الاستخفاف والازدراء بأهل الدين والعلماء وأهل الحسبة والدعاة إلى الله عز وجل، فما أعظم هذا المنكر وما أشد هذا الجرم.
أيها المؤمنون: إن من شغلته عيوب نفسه سعى في إصلاحها، ومن اشتغل بعيوب الناس لم ير عيوبه شيئًا فازداد تقصيرًا وتفريطًا وإهمالاً.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا أجمعين ديننا وأخلاقنا، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الحمد لله حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد معاشر المؤمنين: اتقوا الله جل وعلا وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.
عباد الله: ومن يجلس مجالس الساخرين المستهزئين -سواءً جلوسًا مباشرا أو من خلال الشاشات والقنوات- فيضحك لما يقولون من سخريةٍ واستهزاء أو حتى يتبسَّم فله حظٌ من الإثم بحسب ذلك، روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الكهف:49] قال: «الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة القهقهة بذلك»، وهذا من التفسير للآية ببعض أفرادها. فليحذر كل ناصح لنفسح من السخرية أو من مجالس الساخرين، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، واخذل أعداء الدين، اللهم وعليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جنودنا المرابطين على حدود البلاد بتوفيقك، واحفظهم بحفظك يا حي يا قيوم، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه ونائبيه لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، ربنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي