حديثنا اليوم عن عادة اجتماعية.. وعبادة جليلة.. بتطبيقها تستقيم المجتمعات, وبالتفريط فيها تتفكك وتدب فيها الآفات.. أمر الله -تعالى- بها في كتابه, وحث عليها رسوله -صلى الله عليه وسلم-, ومارسها واقعًا عمليًّا, اشتكت إلى الله تعالى.. فأجابها ربنا جل وعلا.. إنها صلة الرحم. صلة الرحم.. الرحم مشتقة من الرحمة.. والتي تشمل معاني الرقة والعطف والرأفة, فهي دائرة بين أن تَرحم أو تُرحم. ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه صلة الرحم في اثني عشر موضعًا...
الحمد لله خالق الدُّجى والصباح، ومسبِّب الهدى والصلاح، ومقدِّر الغموم والأفراح, عزَّ فارتفع، وفرَّق وجمع، ووصل وقطع، وحرَّم وأباح. رفع السماء، وأنزلَ الماء، وعلَّم آدَمَ الأسماء، وذَرَى الرِّياح. أعطى ومنح، وأنعم ومدح، وعفا عمَّنِ اجْتَرَح، وداوى الجراح. (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) [النور: 35].
أحمده وأستعينه وأتوكَّل عليه، وأشهد بوحدانيته عن أدلةٍ صحاح. وأشهد أن محمدًا عبده المقدَّم، ورسوله المعظم، وحبيبه المكرَّم، تفديه الأرواح, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقب الليل والصباح, وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد.. فاتقوا الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. حديثنا اليوم عن عادة اجتماعية.. وعبادة جليلة.. بتطبيقها تستقيم المجتمعات, وبالتفريط فيها تتفكك وتدب فيها الآفات.. أمر الله -تعالى- بها في كتابه, وحث عليها رسوله -صلى الله عليه وسلم-, ومارسها واقعًا عمليًّا, اشتكت إلى الله تعالى.. فأجابها ربنا جل وعلا.. إنها صلة الرحم.
صلة الرحم.. الرحم مشتقة من الرحمة.. والتي تشمل معاني الرقة والعطف والرأفة, فهي دائرة بين أن تَرحم أو تُرحم.
ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه صلة الرحم في اثني عشر موضعًا, بل تكرر في موضعين من كتاب الله قولُه -سبحانه وتعالى-: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [الأنفال: 75].
أمر الله بصلة الرحم, وقرنها بالتوحيد وبر الوالدين: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [النساء: 36].
أثنى الله -تعالى- على من يصل رحمه, وجعل صلة الرحم من صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) [الرعد: 21].
وأوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه بصلة الرحم, فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي أن لا تأخذني في الله لومة لائم, وأوصاني بصلة الرحم وإن أَدْبَرَتْ".
بل أوصى -صلى الله عليه وسلم- بصلة الرحم وإن كان القريب مشركًا, روى البخاري في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: قدِمَتْ أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم, إذ عاهدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبيها, فاستفتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إن أمي قدِمَت وهي راغبة "يعني في صلتها", قال: "نعم, صلي أمك".
صلة الرحم سبب لحسن العشرة وقوة العلاقة بين الأقارب, والذكر الطيب في الحياة وبعد الممات, كما أن لها أيضًا ثمرات جاءت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فمن ذلك أنها سبب لسعة الرزق وطول العمر, روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أحبَّ أن يبسُطَ لَه في رزقِه، ويُنسَأَ لَه في أثَرِه، فليَصِلْ رَحِمَهُ", وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يُعَمِّران الدِّيارَ, ويزيدان في الأعمار".
والمرء ممدود له أمل *** لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
الواصلون لأرحامهم يصلهم الله.. والقاطعون لها يقطعهم الله, روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ, حتَّى إذا فرغَ من خلقِهِ قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذِ بكَ منَ القطيعةِ, قالَ: نعَم؛ أما ترضِينَ أن أصلَ من وصلَكِ, وأقطعَ من قطعَكِ, قالت: بلى يا ربِّ, قالَ: فهوَ لكِ" قالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فاقرؤوا إن شِئتُمْ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد: 22].
وصلة الرحم سبب لدخول الجنة, أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنبئني عن أمر إذا عمِلتُ به دخلتُ الجنة؟ قال: "أفشِ السلام, وأطعم الطعام, وصِلِ الأرحام, وقُم بالليل والناس نيام, ثم ادخل الجنة بسلام".
صلة الرحم تدفع سوءَ الخاتمة, روى أحمد في مسنده وصححه الشيخ أحمد شاكر عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سرَّه أن يمد له في عُمُره, ويوسَّع له في رزقه, ويُدفع عنه ميتةُ السوء, فليتق الله وليصل رحمه".
لا خير في قربى بِغَيرِ مَودَّةٍ *** ولرب منتفع بودّ أباعد
وإذا القرابة أقبلت بِمَودةٍ *** فاشدد لها كفّ القَبُولِ بِسَاعد
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أوصل الناس لِرَحِمِه, فها هو عليه الصلاة والسلام لما أُنزل عليه قول الله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دعا قريشًا فاجتمعوا. فقال: "يا بني كعبِ بنِ لؤيّ! أنقِذُوا أنفُسَكُم منَ النارِ. يا بني مرةَ بنِ كعبٍ! أنقذُوا أنفُسَكُمْ منَ النارِ. يا بني عبدِ شمسٍ! أنقذُوا أنفسَكُم من النارِ. يا بني عبدِ منافٍ! أنقذُوا أنفُسكُم من النارِ. يا بني هاشمٍ! أنقذُوا أنفسكُم منَ النارِ. يا بني عبدِالمطَّلبِ! أنقذُوا أنفُسكمْ منَ النارِ. يا فاطمةُ! أنقذِي نفسَكِ منَ النارِ. فإني لا أملكُ لكُم منَ اللهِ شيئًا. غيرَ أنَّ لكُم رحِمًا سأَبُلُّها ببِلالِها".
بل تجاوز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلته لرحمه ما تتوقعه العقول, روت عائشة -رضي الله عنها- كما عند مسلم في صحيحه قالت: ما غرتُ على نساءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إلا على خديجةَ. وإني لم أُدركها. قالت: وكان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا ذبح الشاةَ يقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاءِ خديجةَ".
أيها الإخوة.. بعد أن عرفنا قدر هذه العبادة العظيمة, والخصلة الجليلة, فإنه يجب على كل مِنَّا أن يبادر إلى صلة رحمه, قال القاضي عياض -رحمه الله-: "لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة, وقطيعتها معصية كبيرة, والأحاديث تشهد لهذا", وأما الأرحام الذين تنبغي صلتهم فهم الأقارب, وكلما زادت القرابة زاد التأكيد بالأمر بالصلة.
وقد يسر الله في هذه العصور بحمد الله -تعالى- وسائل الصلة, فالسيارات قربت الصلة بالزيارة, والهواتف قربت الصلة بالاتصال والرسالة, فلم يعد لأحد عذر في تقصيره في صلة رحمه.
كما أن من وسائل صلة الرحم أن يصل المرء رحمه بالهدية حال كون الرحم مقتدرًا, والصدقة والمساندة حال كونه محتاجًا.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على النبي الأمين, أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: يتذرع كثير من الناس في ترك صلة الرحم بأن الأرحام الذين أُمر بصلتهم لا يستحقون أن يوصلوا, فهم سيئو الخلق, أو متكبرون على غيرهم, أو مستغنون بأنفسهم عمَّن سواهم, أو بينه وبينهم خصومة, أو غير ذلك.
والواقع أن هذا لا يعد عذراً مقبولاً لترك الصلة, روى أبو هريرة -رضي الله عنه- كما عند مسلم في صحيحه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ! إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطَعوني. وأُحسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ. وأحلمُ عنهم ويجهلون عليَّ. فقال: "لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ -الرماد الحار-, ولا يزال معك من اللهِ ظهيرٌ عليهم، ما دمتَ على ذلك".
قال النووي: "كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه" ا.هـ.
وجاء الثناء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مَن يصل رحمه المقطوعة, فقد أخرج البخاري -رحمه الله- من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ ، ولَكنِ الواصلُ الَّذي إذا قُطِعتْ رَحِمُه وصلَها".
قال المقنع الكندي:
وإن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني عمِّي لَمُختلفٌ جِدّا
إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم *** قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا
وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ *** وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
ولا أَحْمِل الحقدَ القديمَ عليهمُ ***وليس رئيسُ القومِ مَنْ يَحْمِلُ الحقدا
وأعطيهمُ مالي إذا كنت واجداً *** وإن قلّ مالي لم أكَلّفْهمُ رِفْدا
إذا أساء أحد إليك فاعلم أن هذه سيئة منه.. وتذكر قول الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35- 36].
هذه الدنيا لا تساوي عند الله -تعالى- جناح بعوضة, وهي لا تستحق الأحزان والأكدار, وفي الوقت ذاته لا تستحق أن يعادي أو يخاصم لأجلها, والجنة تحتاج إلى مجاهدة وعمل.. أفلا تستحق أن نزيل ما في نفوسنا من أجلها.
إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ زالت الأحقاد والخصومات, وعاشوا إخواننا متحابين (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47].
أيها المحب: إذا أردت أن تدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة فاعف عمَّن ظلمك.. وصِل من قطعك, وأحسن إلى من أساء إليك..
اللهم أعنَّا على أنفسنا والشيطان, ونقِّ نفوسنا, وسرائرنا يا رب العالمين.
اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي