وفروا اللحى ولا تحلقوها، وحفوا الشوارب بقصها ولا تبقوها، وإياكم والإصرار على مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتكونوا من الفاسقين، فإن الإصرار على المعصية نقص في الدين، وضرر على القلب، وربما يستهين المرء بالمعصية، فتجره إلى معصية أخرى ثم الثانية إلى معصية ثالثة، وهكذا ...
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بإكمال الدين، وأمرنا باتباع هُدى الأنبياء والمرسلين، وحذرنا من سبيل المخالفين العاصين.
وأشهد أن لا الله إلا الله وحده لا شريك له، يقضي بالحق، ويحكم بالعدل، وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهداهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واتبعوا نبيكم محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فإن هديه خير الهدي، وسنته أقوم السنن، وسبيله أهدى السبل، اتبعوه في عبادته وأخلاقه، لتسعدوا في الدنيا والآخرة، وتفوزوا بالتجارة الرابحة، فإنه ما ترك خيرًا إلا بينه لكم، ورغبكم فيه، ولا ترك شرًّا إلا بينه، وحذركم عنه.
ولقد أدرك ذلك أقوام فتبعوه، ونَجَوْا وأعرض عن ذلك أقوام خالفوه، فهلكوا.
أيها الناس: لقد كان المسلمون خصوصًا في هذه البلاد إلى زمن قريب يتمسكون تمسكًا تامًّا بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خصال الفطرة التي فطر الله عباده عليها، فكانوا يستبقون لحاهم، ويحفون شواربهم، اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وامتثالًا لأمر نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ)[النساء:80]
كانوا على ذلك، وكانوا يعيبون من خالف هذا الأمر، ويهجرونه ويرونه مخالفًا، حتى دبَّ فيهم داء المخالفة والعصيان، في هذا الأمر، فتجاسروا على مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- في فِعْله وقوله في هذه الفطرة فبدؤوا قليلًا قليلًا يحلقون لحاهم، حتى فشا ذلك فيهم وكثر وانقلبت الحال إلى أن يعاب من يستبقي لحيته، فعاد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وصارت الأمة الإسلامية لا تمثل أمة الإسلام في مظهرها حين ظهور الإسلام وقوة أهله.
أيها المسلمون: ثبت في الكتاب والسنة: أن اللحية من سنن المرسلين الأولين والآخرين، فهذا هارون صلى الله عليه وسلم يقول لموسى -صلى الله عليه وسلم-: (يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي)[طه: 94].
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثبت عنه أنه كان كث اللحية، أي كثيفها، وأمر أمته بإعفائها وتوفيرها، فقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب"[البخاري (5553) مسلم (259) الترمذي (2764) النسائي (5046) أبو داود (4199) أحمد (2/118)].
فالمشروع في حق الرجل المؤمن بالله ورسوله حقًّا، المريد لنجاته يوم القيامة، وطهارة قلبه، وكمال إيمانه: أن يبادر إلى امتثال أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتوب من حلقها ليكون بذلك مقتديًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ممتثلًا لأمره، وليجدن من حلاوة الإيمان، ولذة المتابعة، ما يفوق ارتياحه لحلقها إن كان فيها راحة بأضعاف مضاعفة، فإن حلاوة الإيمان لا يعادلها شيء.
أيها المؤمنون: لنتمثل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولنتبع هديه، ولتغلب جانب الهدى على جانب الهوى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[الأحزاب: 36].
وفروا اللحى ولا تحلقوها، وحفوا الشوارب بقصها ولا تبقوها، وإياكم والإصرار على مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتكونوا من الفاسقين، فإن الإصرار على المعصية نقص في الدين وضرر على القلب، وربما يستهين المرء بالمعصية، فتجره إلى معصية أخرى ثم الثانية إلى معصية ثالثة، وهكذا حتى تتراكم عليه المعاصي فيهلك، ولذلك حذر الله عباده مخالفة أمر رسوله، فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63].
فحذرهم الله بأحد أمرين الفتنة في الدين، وهي الضلال والزيغ، أو العذاب الأليم.
كيف تطيب نفس المؤمن بالإصرار على معصية الله ورسوله، يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بشيء، ثم يخالفه، ويستمر في هذه المخالفة بتعليلات غير صحيحة، إما تأويلات فاسدة، وإما استهانة بهذه المعصية، وتحقير لها.
ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من مُحقِّرات الذنوب، وأخبر أن مثلها كمثل قوم نزلوا أرضًا فاحتطبوا، فجاء كل واحد بعود، فاجتمع من ذلك حطب كثير، وأججوا به نارًا كبيرةً، وقال: "إن محقرات الذنوب، متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه"[أحمد (5/331)].
لأنه يقول هذا هين، وهذا هين، حتى تتراكم عليه الذنوب فتهلكه.
أيها المسلمون: لقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتغيير الشيب، وأمر بتجنب السـواد، فثبت في صحيح مـسلم وغيره: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قـال: "غيروا هذا الشيب"[الترمذي (1752) أحمد (2/499)].
وجنبوه السواد، فلا تصبغوا بالسواد شيب الرأس، ولا شيب اللحية، ولا الرجال ولا النساء، ولكن غيروه بالحناء والكتم، وبلون غير السواد الخالص، ولا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم: "ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنةً، ورفعه بها درجةً، وحط عنه بها خطيئةً".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)[الأعراف: 3].
وفقني الله وإياكم لإخلاص النية، وإصلاح العمل، ورزقنا إيمانًا نقوى به على مخالفة الهوى، واتباع الهدى؛ إنه جواد كريم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي