أهمية العمل بالعلم

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. انتشار العلم وانحسار العمل به .
  2. الوعيد الشديد لمن لا يعمل بما علم .
  3. اليقظة والعمل استعداداً للآخرة حيث لا عمل .

اقتباس

وفي زمننا هذا تكاثرت وسائل طلب العلم ومعرفة الأحكام، فلا تكاد تجد أحدا يخفى عليه شيء من أحكام الدين الظاهرة، فضلا عن المحرمات والواجبات؛ بيد أنه ينقصنا جميعا -بلا استثناء، إلا من رحم ربك- ينقصنا العمل بذلك العلم، فالجميع يعلم، ولكن يقلّ أهل العمل، سواء في فعل الخير أو اجتناب الشر.

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الناس، لقد خُلق الإنسان جاهلا لا يعلم شيئا فجعل الله له قدرة على التعلم والاكتساب، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل:78]، ثم امتن الله على عباده بالعلم، فعلمهم ما لم يكونوا يعلمون: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5]. ولا يزال العبد يترقى في درجات العلم حتى يبلغ شأوا عظيما عند نفسه، ثم تأتيه الآية: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85]؛ لتبين للعبد ضعفه، وسعة علم الله -تعالى-.

عباد الله : لقد وصف الله نفسه بأنه (علام الغيوب)، و(عالم الغيب والشهادة)، ومدح العلماء، واستشهدهم على ألوهيته. ولا يزال أهل العلم ينشرون العلم بين الناس، وجعل -سبحانه- نشر العلم من أعظم القرب إليه.

وفي زمننا هذا تكاثرت وسائل طلب العلم ومعرفة الأحكام، فلا تكاد تجد أحدا يخفى عليه شيء من أحكام الدين الظاهرة، فضلا عن المحرمات والواجبات؛ بيد أنه ينقصنا جميعا -بلا استثناء، إلا من رحم ربك- ينقصنا العمل بذلك العلم، فالجميع يعلم، ولكن يقلّ أهل العمل، سواء في فعل الخير أو اجتناب الشر.

عباد الله: من حكمة الله أن حث على العلم، وسهل طرقه، ورتب على طلبه الأجر العظيم. وعلى الجانب الآخر، رتب الوعيد الشديد على من لم يعمل بعلمه، وحذر أن يكون العلم حجةً على صاحبه ووبالا عليه، أخرج الإمام الترمذي في سننه بسنده، وأصله في مسلم، عن عقبة بن مسلم أن شفيا الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا قلت له: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: افعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة -يعني أغمي عليه- فمكثنا قليلاً ثم أفاق، فقال: لأ حدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيرُه، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم أفاق ومسح وجهه، وقال: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته طويلاً.

ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل، وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلاناً قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله -تعالى-: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله -تعالى- له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك".

ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ركبتي فقال: "يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة".

وقال الوليد أبو عثمان المدائني: فأخبرني عقبة بن مسلم أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا.

قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لمعاوية؛ فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فُعل بهؤلاء هذا؛ فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشرّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [هود:15-16].

معاشر المؤمنين: سنُسأل عن علمنا ماذا عملنا فيه، ولو كان مسألة واحدة، فاتقوا الله واعملوا بما علمكم الله. أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي برزة أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقَهُ".

يُسأَلُ عَنْ عِلْمِهِ ماذَا عملَ فيهِ، أي: يُسألُ: هل تعلّمتَ عِلْمَ الدِينِ الذي فَرضَهُ اللهُ عليكَ؟ لأنَّ العِلْمَ الدِّينِيَّ قِسمانِ، فمنْ تعلمَ القِسمَ الضَّروريَّ وعمِلَ بِهِ سَعِدَ ونَجا، ومنْ أهْملَ العملَ بعدَ أنْ تعلّمَ خَسِرَ وخابَ وهلكَ، وكذلكَ منْ لا يتعلّمُ، فهوَ أيضًا من الهالكين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما يا كريم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الله سائلكم عما كنتم تعملون، فاعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، وتجهزوا للعرض الأكبر، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

عباد الله: إن الحرام بيِّن، وإن الحلال بين، وقليل من الناس من يجهل الحكم، ولكن؛ كلنا بحاجة لمراقبة الله، واستشعار معيته لخلقه، حتى لا نتوانى في فعل الأمر وترك النهي، فمَن مِن الناس يجهل تحريم شرب الخمر أو الدخان، أو ارتكاب الزنا، أو تحريم حلق اللحى أو إسبال الثياب، أو عقوق الوالدين، أو النظر إلى الأفلام الساقطة، أو معاكسة النساء، والعلاقات المحرمة بين الرجال والنساء الأجانب؟ وهل يجهل النساء وجوب الستر وعدم كشف الوجه أو التبرج في اللبس، أو مصافحة الأجنبي، أو الخلوة بالرجل الأجنبي؟ ثم من يجهل من الناس الواجبات؟ فهل يجهل أحد وجوب الصلوات الخمس في المسجد جماعة، والكثير من الناس هذه الأيام لا يصلي إلا بعد طلوع الشمس!.

أيها الناس: لا أريد الإطالة عليكم في تعداد الأوامر والنواهي التي يعلمها الجميع وقليل من الناس يعمل بعلمه، ألا يظن أولئك انهم مسؤولون، وأمام الله واقفون، وبأعمالهم مجزيون؟ ستوزن الأعمال بمثاقيل الذر، سيقول المجرمون: ياويلنا! ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيعض آخرون أصابع الندم على التفريط في هذه الحياة الدنيا يوم لا ينفع الندم.

عباد الله: كلنا بحاجة لوقفة صدق مع النفس، ومحاسبة شديدة لها، قبل النهاية، فمن مات قامت قيامته، فاليوم علم وعمل، وغدا علم ولا عمل، فتداركوا ما بقي من أعماركم، بفعل ما استطعتم من الأوامر، وترك النواهي صغيرها وكبيرها، فوالله! إنها سنواتٌ لبعضنا، ولبعضنا أشهر، ولبعضنا أيام، ولآخرين ساعات، ثم يصاح بنا للانتقال إلى دار البرزخ، حيث يسأل العبد في قبره وينعم أو يعذب، حتى يبعث الله من في القبور، ثم حياة أخروية سرمدية، إما في الجنة أو النار، وبئس القرار، فهل استعد أحدنا لهذا الأمر؟ وهل قدر قدره وهوله؟ فوالله إنها لشدائد لا يجوز فيها إلا المخف من الذنوب، لا يجوز فيها إلا أهل العمل الصالح.

اللهم أيقظنا من الرقدات، وأعذنا من الغفلات...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي