بعض الناس إنما يجمع مال وارث الثروة التي بيده إنما هي للورثة يتعب فيها ويكدح فيها ويجمعها للورثة، تنتقل إليهم غنيمة باردة، لم يشأ أن يتصدق منها في حياته، ولم يشأ أن يجعل منها وقفا أو وصية تنفعه بعد...
الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، والحمد لله الذي منَّ على عباده بمواسم الخيرات، ووفق من شاء منهم لفعل الطاعات، أحمده -تعالى- وأشكره حمدا وشكرا كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أحمده وأشكره حمدا وشكرا، عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله --تعالى-- بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون - اتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: ها نحن نعيش في موسم من مواسم التجارة مع الله -عز وجل- بالأعمال الصالحة، نعيش موسما من مواسم الخيرات والبركات، نعيش أيام وليالي: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185].
هذا الشهر المبارك هذا الشهر العظيم وهذا الموسم الكريم الذي جعله الله -تعالى- رحمة للمؤمنين لكي يتزود فيه بزاد التقوى.
فبادروا -رحمكم الله- فرص هذا الشهر قبل فواتها، واغتنموا ساعاته في التزود بزاد التقوى، ليوم (لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].
هذا الشهر وصف الله -تعالى- أيام صيامه بقوله: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة: 184]، وإذا كانت أياما معدودات فسرعان ما تنقضي، وسرعان ما تطوى صحائفها بما عمل الإنسان فيها.
فبادروا -رحمكم الله- في اغتنام أيام هذا الشهر ولياليه.
عباد الله: وقد فرض الله -تعالى- الصيام في هذا الشهر المبارك، وجعله ركنا من أركان الإسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، فبين الله -تعالى- الحكمة من فرضية الصيام وهي: تحقيق التقوى لله -عز وجل-.
فينبغي أن يظهر أثر التقوى على الصائم، فالذي تكون حال فطره وحال صومه سواء معنى ذلك أن صومه لم يحقق الثمرة التي لأجلها شرع الصيام وهي التقوى لله -عز وجل-.
عباد الله: وإن حقيقة الصيام ليست الإمساك عن المفطرات الحسية من الأكل والشرب والجماع ونحوها، ولكنها تعني الإمساك عن جميع المعاصي وجميع الذنوب وقت الصيام، وإن كان ترك الذنوب مطلوبا في جميع الأوقات إلا أنها تتأكد وقت الصيام والذي لا يحترم صيامه وتقع منه معاصي فيه فإن هذه المعاصي إذا كثرت من الصائم ربما يصل إلى المرحلة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (أخرجه البخاري في صحيحه) أي أن من لم يحترم الصوم فلم يدع قول الزور والعمل به، لم يدع المعاصي القولية والفعلية، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، أي أنه لا يؤجر ولا يثاب على هذا الصيام، وإن كانت تحصل به براءة الذمة، وعلى هذا فإن كل معصية تقع من الصائم تخدش في الصوم، وتنقص من أجر الصائم.
لقد كان كثير من السلف الصالح إذا صاموا جلسوا في المساجد يتعبدون بتلاوة القرآن والأذكار، ويقولون: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا.
فاحرص -أخي المسلم- على أن لا تقع منك معصية وأنت صائم، واحرص على ترك الذنوب والمعاصي عموما، لكن وأنت صائم هذا يتأكد حتى يكون أجرك عظيما، وثوابك جزيلا، وإذا تربى المسلم في مدرسة الصيام على هذا فإن هذا مما يعينه على ترك الذنوب والمعاصي، وعلى التوبة إلى الله -عز وجل-، وهذه من أبرز حكم مشروعية الصيام.
عباد الله: شهر رمضان هو شهر القرآن، وقد أنزل الله -تعالى- القرآن في هذا الشهر المبارك: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، ومعنى: إنزال القرآن في هذا الشهر، أي ابتداء نزوله، فقد ابتدأ نزول القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان، ثم أصبح بعد ذلك ينزل مفرقا على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث وعشرين سنة.
وهذا القرآن العظيم قد جعله الله -تعالى- الآية لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما على مثله آمن البشر؛ لأن النبي عندما يأتي للناس ويقول: أنا نبي ورسول من عند الله، فلا بد أن يأتي بآية تدل على صدقه؛ فكان من حكمة الله -عز وجل-: أن أعطى كل نبي آية فأعطى موسى العصا، وأعطى عيسى أنه يبرأ الأكمه والأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله، وأعطى صالح الناقة، وهكذا، وأما آية نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد اقتضت حكمة الله -تعالى- أن تبقى آيته إلى قيام الساعة يراها الناس جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، آية نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو هذا القرآن العظيم.
هذا القرآن العظيم الذي تحدى الله -تعالى- به أفصح الناس وأبلغ الناس، وهم العرب وقت التنزيل، تحداهم على أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم على أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا، ثم تحداهم على أن يأتوا بآية واحدة من مثله فعجزوا.
وقد تكفل الله -تعالى- بحفظه فلم يوكل حفظه للبشر، ولهذا لم يتغير منه حرف واحد منذ نزوله، فنحن نقرأه غضا طريا كما كان يقرأه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم- وقد جعل الله -تعالى- من خصائص هذا القرآن العظيم: أن مجرد تلاوته يؤجر المسلم ويثاب عليها، حتى ولو لم يفهم المعنى، فمجرد التلاوة يتعبد لله -تعالى- بها ويؤجر بها سواء قرأها بفهم أو من غير فهم، وإن كانت القراءة بفهم وتدبر أعظم أجرا وثوابا، وبكل حرف يقرأه المسلم عشر حسنات؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (أخرجه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح").
وقد حسب بعض أهل العلم ضرب عدد حروف القرآن في عشرة، فكانت النتيجة أن من ختم القرآن الكريم كاملا فهو موعود بأن يحصل على أكثر من ثلاثة ملايين حسنة، وذلك فضل الله وفضل الله يؤتيه من يشاء، ولهذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه ينبغي أن لا يغبط أحد من الناس إلا على من كان عنده إحدى صفتين:
الصفة الأولى: من أعطاه الله القرآن فهو يقرأه ساعات الليل وساعات النهار.
والصفة الثانية: رزقه الله مالا ووفقه على إنفاقه في سبل الخير، أي لا حسد لا غبطة إلا في اثنتين: "رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق"، والموفق من وفقه الله -عز وجل-.
كان السلف الصالح لهم عناية كبيرة بتلاوة القرآن مع دخول هذا الشهر؛ كان الإمام مالك إذا دخل شهر رمضان أوقف دروس العلم، وقال: "هذا هو شهر القرآن" وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
كان الإمام الشافعي له ستون ختمة في شهر رمضان.
وقد وجد في الوقت الحاضر من يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة أو أكثر وهم أحياء يرزقون، وهذا فضل الله وفضل الله يؤتيه من يشاء.
فلا أقل -يا أخي المسلم- من أن تختم القرآن مرة واحدة، لا يليق بالمسلم أن يدخل عليه شهر رمضان وينقضي ولم يختم القرآن.
عباد الله: إن مجرد تلاوة القرآن عمل صالح، يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29 - 30]، وفي صحيح مسلم عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"، وعن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوما لأصحابه: "أيحب أحدكم أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق وهما موضعان بالمدينة فيأتي منه بناقتين كوماوين"؟ أي عظيمتي السنام "من غير إثم ولا قطيعة رحم"، قالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله، قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل".
فسبحان الله يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين، وكانت الإبل أنفس الأموال عند العرب، ولهذا أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- بها.
فيا له من أجر عظيم، ومن ثواب جزيل، والموفق من وفقه الله -تعالى-، عن أبي موسى -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر".
وعن عبد الله بن عمر بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" (أخرجه أبو داود بسند صحيح).
عباد الله: إن عظمة المسلم تكمن في مصاحبته مع القرآن، وفي العيش معه وفي تلاوته وتدبره، والعمل به: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، هذا الكتاب كتاب مبارك، كتاب مبارك في كل شيء، في تلاوته في تدبره، في العمل به، في تعلمه في تعليمه، بل حتى في الرقية به والاستشفاء به.
عباد الله: ومما يتأكد فعله في هذا الشهر المبارك بعد المحافظة على الفرائض: صلاة التراويح؛ فإنها سنة قد سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام بأصحابه ثلاث ليال، وخشي أن تفرض على أمته فتركها.
ثم إن عمر -رضي الله عنه- أحيا هذه السنة، وأصبح الناس منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا يصلونها جماعة في المساجد.
فأول من سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول عليه الصلاة والسلام: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه)، ومعنى: "إيمانا" أي إيمانا بالله، وبما أعده من الثواب للقائمين "واحتسابا" أي: طلبا لثواب الله -عز وجل- لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة أو طلب مال أو جاه، أو نحو ذلك.
فالمعنى الاحتساب الإخلاص لله -عز وجل-، عندما يصلي صلاة التراويح، فهناك معنى لطيف آخر للاحتساب وهو أن المسلم يستحضر الأجر والثواب، فعندما يأتي ليصلي صلاة التراويح ربما يجد كسلا وربما يجد تعبا وربما يجد ثقلا؛ فعليه أن يحتسب الأجر والثواب عند الله -عز وجل- فيقول في نفسه: أنا أصبر نفسي على أن أؤدي صلاة التراويح لكي يزيد رصيد حسناته، وأجد ثواب ذلك عند الله -عز وجل- يوم ألقى ربي، فهو يحدث نفسه بهذا الأجر والثواب، فهذا داخل في معنى الاحتساب، هذا مما يعظم به الأجر، وأيضا مما يخف به العمل، وهكذا أيضا في الصيام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وينبغي لمن صلى التراويح أن يكملها، وأن لا ينصرف حتى ينصرف الإمام؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة" ومعنى: "ينصرف" أي يسلم من الركعة الأخيرة، فينبغي لك -أخي المسلم- إذا صليت التراويح أن تحرص على أن تتمها، وأن تكملها إلى آخر ركعة حتى يكتب لك أجر قيام ليلة.
عباد الله: وشهر رمضان شهر الجود والبذل والإنفاق في سبيل الله -عز وجل: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245].
شهر رمضان كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فينبغي أولا أن يتفقد المسلم الأموال التي عنده ويخرج الزكاة الواجبة عليه، فإنها ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائض الدين.
وبعد إخراج الزكاة يكثر من البذل والإنفاق في سبيل الله -عز وجل-، فإن الأجر على ذلك عظيم، والثواب جزيل: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]، (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ) [البقرة: 272]، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوما للصحابة: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟" قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه، قال: "فإن ماله ما قدم وإن مال وارثه ما أخر"، بعض الناس إنما يجمع مال وارث الثروة التي بيده إنما هي للورثة يتعب فيها ويكدح فيها ويجمعها للورثة تنتقل إليهم غنيمة باردة، لم يشأ أن يتصدق منها في حياته، ولم يشأ أن يجعل منها وقفا أو وصية تنفعه بعد مماته.
ينبغي للمسلم العناية بهذه الأمور، وأن يجعل هذا المال الذي تعب في تحصيله أن يجعله نافعا له في حياته وبعد مماته، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا"، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة، أي مسيل ماء من تلك الشراج قد استوعب ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا هذا الماء يدخل في حديقة رجل، وإذا هذا الرجل قائم يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، فإذا هو الاسم الذي سمع في السحابة، قال: يا عبد الله لمَ تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوت في السحابة الذي هذا مائه، يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فقل لي: ما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها، وأتصدق بثلثه، وأكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثا" (رواه مسلم).
والنصوص في فضل الإنفاق كثيرة جدا.
فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من البذل والجود والإنفاق في سبيل الله لاسيما في شهر الجود والإحسان، واقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أجود ما يكون في رمضان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
عباد الله: ينبغي التفقه في أحكام الصيام، وإذا أشكل على المسلم شيء فليسأل أهل العلم عما يشكل عليه من مسائله وأحكامه، ومن الأسئلة التي تكثر مع دخول شهر رمضان: بلع الريق، فيسأل كثير من الناس عن حكم بلع الريق؟ وهل له أثر على إفساد الصيام؟
والجواب: أن بلع الريق معفو عنه بإجماع العلماء، بل حتى ولو تعمد بلع ريقه لم يؤثر هذا على صيامه، لكن قال الفقهاء: يكره أن يجمع ريقه فيبتلعه مجرد كراهة فقط، وليس تحريما، فينبغي عدم التدقيق في مثل هذه المسائل؛ لأن هذا التدقيق يؤدي إلى الوسواس.
وأما بالنسبة للبلغم الذي يكون في الفم فالذي ينبغي لفظ هذا البلغم، ولا يضر الصائم فإن ابتلعه إن كان عن غير قصد فلا شيء عليه بإجماع العلماء، وإن كان ذلك بقصد فمحل خلاف، والأظهر كذلك أنه لا يفسد الصيام كما هو رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ لأنه ليس في معنى مفطرات الصيام.
ومما يكثر السؤال عنه الأكل والشرب وقت آذان الفجر، لا حرج في الأكل والشرب وقت الأذان، وقد جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه" (أخرجه أبو داود وحديث صحيح له شواهد وطرق متعددة).
ومن جهة المعنى: فإن الفجر يخرج شيئا فشيئا، ولهذا لو راقب اثنان الفجر لربما اختلفا، فأحدهما يقول: طلع، والآخر يقول: لم يطلع، فهو ليس كبقية الأوقات يكون وقته في دقيقة واحدة، ومتفقا عليه، وإنما يخرج شيئا فشيئا وإضاءته تزداد شيئا فشيئا، ولهذا قال أهل العلم: من أكل شاك في طلوع الفجر فصيامه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل، وعلى هذا فلا يشدد في هذه المسألة من أكل أو شرب وقت أذان الفجر فلا حرج عليه، وقد رويت آثار عن كثير من الصحابة تدل على التسامح في هذه المسألة، إنما الذي يشدد فيه الأكل والشرب قبل غروب الشمس، فهذا لابد من التأكد من أن الشمس قد غربت؛ لأن الله -تعالى- قال: (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187]، ويعرف غروب الشمس إما بمشاهدتها، أو بخبر الثقة بصوت المؤذن، أو غيره.
ومما يكثر السؤال عنه: صيام المريض والمريض، قد أباح الله -تعالى- له الفطر في رمضان، قال: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]، فمن نصحه الطبيب بألا يصوم فإنه يفطر إذا كان المرض يزيد بالفطر، أو ربما يتضرر لو صام أو أنه يتأخر برء الشفاء لو صام، فإنه يفطر ولا حرج عليه، لا يتحرج المريض في الفطر؛ لأن الله الذي شرع الصيام هو الذي أباح الفطر للمريض، وإذا كان المرض يرجى برؤه فإنه يقضي؛ كما قال سبحانه: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184].
أما إذا كان المريض مرضا لا يرجى برؤه فيطعم عن كل يوم مسكينا.
وأما بالنسبة للكبير فإنه يجوز له الفطر إذا كان الصيام يشق عليه.
ومما يكثر عنه السؤال في هذا المجال: أن يكون الكبير لم يفقد عقله بالكلية وضبطه ليس تاما، فهذا إن صام أجر على الصيام وإن لم يصم فلا شيء عليه؛ لأنه في هذه الحال خف الضبط عنه بحيث يأتيه الضبط أحيانا، ويخف الضبط عنه أحيانا، قد أصبح مثل الصبي المميز، والصبي المميز إن صام أجر على صيامه، وإن لم يصم فلا إثم عليه؛ لأن القلم مرفوع عنه، وهكذا أيضا في الكبير أو المريض الذي خف الضبط عنه إن صام أجر على صيامه، وإن لم يصم فلا يحرجه أقاربه وأهله، وإنما يتركونه ولا شيء عليه، الله -تعالى- قال: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
بل إن الصبي إذا كان عمره أربع عشر سنة قد قارب البلوغ لكنه لم يبلغ لم يجب عليه الصيام، وإن صام أجر على صيامه لكون الضبط عنده غير تام، فهكذا أيضا بالنسبة للكبير أو المريض الذي خف عنده الضبط.
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وأرض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل النفاق والمنافقين.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء، اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم بارك لنا في شهر رمضان، اللهم وفقنا وأعنا لإتمام صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك.
اللهم اجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا.
اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم في هذا الشهر المبارك، واجعلنا من عتقائك من النار.
اللهم وفقنا فيه لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعنا على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا لنا إخوة مسلمين مستضعفين مستهم البأساء والضراء، اللهم فكن لهم ناصرا ومعينا، اللهم ارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم بك نستنصر لإخواننا المستضعفين فانصرهم بنصرك يا قوي يا عزيز وارحمهم برحمتك يا من رحمته وسعت كل شيء يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الحق وتعينه عليه، وتذكره إذا نسي وتعينه إذا ذكر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي