طول الأمل داء عُضال، ومرض فتـاك، يُفسِد القلب، ويتلف الوقت، ويَعرُج بالمرء إلى عالم الخيال والأوهام، مضارّه كثيرة، ومخاطرُه عديدة. طول الأمل من كيد الشيطان ووساوسه؛ به يَستدرج الإنسانَ ويُغويه ويُنسيه، وهو أول حيلة اتخذها لإغواء الإنسان وإيقاعه في المعصية، جاء...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام: نواصل حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق وقبيح الخصال. وحديثنا اليوم عن خلق ذميم ووصف قبيح، يُقعِدُ صاحبه عن العمل، ويُنسيه الأجل، يَعيش في الدنيا تائها بين أوهام لا حقيقة لها، وأمان لا نهاية لها، إنه طول الأمل؛ ذلكم الداء العضال الذي أهدِرَت بسببه الأوقات، وضاعتْ بسببه الأعمال، وخسرَ بسببه كثير من الناس.
طول الأمل هو دوام الحرص على الدّنيا، مع الإعراض عن الآخرة.
طول الأمل أن يُمَنيَ الإنسان نفسَه بالبقاء في هذه الدنيا، ولا يتفكر في رحيله عنها.
طول الأمل أن تحدّث نفسك بطول الحياة، وأنّ بينك وبين الموت مفاوزَ ومسافات.
فطول الأمل الذي نتحدث عنه ونحذر منه هو التعلقُ بالدنيا ونسيانُ الآخرة، هو الذي يحمل على الغفلة والتفريط وتسويف التوبة وتأخير الأعمال الصالحة.
أما مجرد الأمل والنظر إلى المستقبل بنظرة التفاؤل، دون الغفلة عن الآخرة، فهذا أمر مشروع ومعقول، مشروع شرعه الله ورسوله، ومعقول يدلّ على كمال عقل صاحبه وفطنته، فالله -تعالى- استخلفنا في الأرض وأمرنا بعِمارتها وزرْعها وغرسها، وأمرنا بالتمتع بما أحله لنا من الطيبات فيها، وأمرَنا بالزواج وإنجاب الذرّية حتى يستمر نسل الإنسان في هذه الحياة إلى أن يأذن الله بنهايتها، وقد قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77].
لكنّ المذموم من الأمل هو طول الأمل الذي يجعل الإنسان متعلقا بدنياه عبْدا لها منشغلا بها، ناسيا للموت، غافلا عن الدار الآخرة. وهذا ما حذر منه ربنا -سبحانه وتعالى-، وأخبر أنه صفة مَنْ لا خَلاقَ له ولا دِين، فقال عز وجل: (وَلَتجدَنَّهُمْ أحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [البقرة: 96] فليست النجاة بطول العمر، وإنما النجاة بحسن العمل.
وأعجبُ ما في طول الأمل أنّه ينمُو ويكبُرُ مع الأيّام! كلما كبر المرء ازدادت آماله وتعددت أمانيه، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابّا فِي اثنَتيْنِ: فِي حُبِّ الدُنْيَا، وَطولِ الأَمَلِ".
ترى الشّيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عُتِيّا، في السبعين أو التسعين أو المائة من عمره، آماله طويلة وأمانيه غير محدودة، لا يزال قلبه متعلقا بالدنيا، يرجو الحياة ويكرَه الموت، فإذا كان هذا هو حالُ الشيخ الكبير مع حبّ الدنيا وطول الأمل، فكيف بالشّباب؟! كثير من الشّباب في غفلة وسهو وإعراض، يظنّ أنّ الموت سوقٌ لا يَلِجه إلاّ الكبار! والحقيقة أنّ أكبرَ نسبة للوفيات إنّما هي في الشّباب والطفولة، وآية ذلك قلة الشّيوخ، لقلة من يُعمّرُ حتى يبلغ هذه المرحلة.
طول الأمل داء عُضال، ومرض فتـاك، يُفسِد القلب، ويتلف الوقت، ويَعرُج بالمرء إلى عالم الخيال والأوهام، مضارّه كثيرة، ومخاطرُه عديدة.
طول الأمل من كيد الشيطان ووساوسه؛ به يَستدرج الإنسانَ ويُغويه ويُنسيه، وهو أول حيلة اتخذها لإغواء الإنسان وإيقاعه في المعصية، جاء إبليس إلى آدم -عليه السلام- وهو في الجنة فأقسم له أنه له من الناصحين، وأخبره أنه سيدله على شجرة إن أكل منها لا يفنى عمره ولا يبلى ملكه: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه: 120]، وفي آية أخرى: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف: 20 - 22].
وكم من الناس أغواهم الشيطان بطول الأمل فصدّهم عن السبيل وأوقعهم في الضلالة؛ قال تعالى: (إِنَّ الذِينَ ارْتَدّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [محمد: 25]، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أي زيَّن لهم الشيطانُ الخطايا، ومدَّ لهم في الأمل" (الجامع لأحكام القرآن: 16/249).
يَعِدُ الإنسانَ بالوعود الكاذبة، ويُمنِّيه بالأماني الخادعة، ويشجِّعه على الانغماس في الشهوات، والوقوع في المحرَّمات، واللهث وراء الملذات؛ كما قال تعالى عنه: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلا غُرُورًا) [النساء: 120]، لِذا قال بعض السّلف: "إيّاك وسوف، فإنّها من جند إبليس!".
طول الأمل يَشغل عن العمل؛ فمن طال أمله ساء عمله، ومن ألهاه أمله أخزاه عمله، ومن طال أمله استعبدته الدنيا وشغلته بزخارفها وشهواتها حتى يرحلَ عنها من غير زاد، ومن طال أمله انحرف عن الطريق وزاغ عن السبيل؛ لأنّ طول الأمل يجرّ إلى التّسويف، وتعطيل الصّالحات، وتأخير التّوبة عند عمل السّيّئات، والتماطل في ردّ الحقوق، وغير ذلك من المساوئ والقبائح.
ومَثَلُ مَن يُطيل الأملَ ويَقعُدُ عن العمل، والآخَرُ المتأهِّب المُستعِد، كمثل قومٍ في سفر، نزلوا قرية، فمضى المتأهِّب الحازم المستعِد فاشترى ما يَصلح لتمام سفره، وجلس متأهبًا للرحيل، أما المُفرِّط فإنه يقول كل يوم: سأتَأهَّبُ غدًا أو بعد غد؛ حتى أعلنَ أميرُ القافلة الرحيل، فرَحل من غير زاد، قال أبو محمّد بن عليّ الزّاهد: خرجنا في جنازة بالكوفة وخرج فيها داود الطائيّ، فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن، فجئت فقعدت قريبا منه فتكلّم فقال: "من خاف الوعيد قصُرَ عليه البعيد، ومن طال أمله ضعُف عمله، وكلّ ما هو آت قريب. واعلم أنّ أهل الدّنيا جميعا من أهل القبور إنّما يندمون على ما يُخلّفون ويَفرحون بما يُقدّمون. فما ندم عليه أهلُ القبور أهلُ الدّنيا عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاة يختصمون".
طول الأمل من أسباب الشقاء والهلاك؛ لذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من عواقبه؛ فيما رواه الطبرانيّ وابن أبي الدّنيا بسند حسن عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عَنِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الأمَّةِ باليَقِينِ وَالزُهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُ هَذِهِ الأمَّةِ بالبُخْلِ وَالأمَلِ".
وفي مقابل ذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصر الأمل وعدم التعلق بالدنيا والانشغال بها، وربّى على ذلك صحابته الكرام، وتواصى على ذلك الصالحون.
وقصر الأمل هو الاستعداد للرحيل في أي وقتٍ وحين، أن يكون العبدُ دائما متأهِّبًا مستعدا؛ لِعلمِه بقرْب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة.
وهو من أنفع الأمور للقلب؛ فإنه يبعث على حسن اغتنام فرصة الحياة التي تمرّ مرَّ السحاب، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل" (أي كن في الدنيا كالغريب الذي لا يتعلق ببلد الغربة ولا يطمئن إليها، وإنما همه أن يقضي حاجته ويعود إلى بلده، أو كالمسافر الذي لا يجد راحته ولا طمأنينته في السفر، وإنما هو دائم السير بجد وصبر حتى يبلغ مقصوده) وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري)، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: "ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" (رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، ورواه أحمد وابن حبان عن ابن عباس -رضي الله عنه-)، ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يَطولنّ عليكم الأمد، ولا يُلهينّكم الأمل، فإنّ كلّ ما هو آت قريب، ألا وإنّ البعيد ما ليس آتيا"، ويقول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في خطبته: "لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوَ قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم، فإنّه والله ما بَسط أملا من لا يدري لعلّه لا يُصبح بعد مسائه ولا يُمسي بعد صباحه، وربّما كانت بين ذلك خطفات المَنايا"، ويقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "إن من الشقاء طولَ الأمل، وإن من النعيم قِصَرَ الأمل"، ويقول الإمام النّوويّ -رحمه الله-: "لا تركن إلى الدّنيا، ولا تتّخذها وطنا، ولا تحدّث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلّق منها بما لا يتعلّق به الغريب في غير وطنه".
إخوتي الكرام: ما السبيل إلى وقاية النفس من طول الأمل ومخاطره؟
أولا: تذكرْ أنك راحل؛ حقيقة لا يجهلها أحد، ولا يُماري فيها أحد، لكنّ كثيرا من الناس عنها غافلون: (كُلّ نَفْسٍ ذائِقَة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفوْنَ أجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
الموت باب وكل الناس داخله *** فيا ليت شعري بعد الباب ما الدار
فليعلمْ مَن طال أمله، وتعلق بالدنيا قلبه، أن الموت يأتي بغتة من غير إنذار ولا إعلام: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8].
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به –أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"، وفي رواية قال: "هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب" (أي جاءه أجله قبل أن يحقق أمله).
فالموت حق لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61].
فإذا علمتَ أنك عن هذه الدنيا راحل فأعِدّ العدة ليوم رحيلك، واغتنم وجودك في هذه الدنيا بعمَل ما ينفعك بعد رحيلك.
ثانيا: عليك بزيارة المقابر؛ لترى فيها أناسا كنت تعرفهم، كانت لهم من الآمال والأماني مثلُ ما لك الآن، لكن الموت أخذهم بغتة، وفاجأهم من غير استئذان، وحال بينهم وبين أمانيهم وآمالهم، عن بُرَيْدَة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القبُورِ، فزُورُوهَا؛ فإنها تذكركم الآخرة" (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي)، وفي رواية للنسائي وابن حبان والحاكم: "وَلتزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْراً"، وفي رواية لأحمد: "فإنّ في زيارتها عِظة وعبرة".
زُر المقابرَ وأنتَ من الأحياء لتعود منها بالعبرة والذكرى، قبل أن تزورَها محمولا على أكتاف الرجال من غير عودة ولا رَجعة: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 1 - 8].
روى مسلم في صحيحه عن مطرف عن أبيه عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت".
ثالثا: لا تعلق قلبك بما هو فان وزائل؛ فالدنيا إلى زوال، الدنيا إلى فناء، لا قرار فيها، ولا خلود فيها، إنما القرار والخلود في الدار الآخرة: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16 - 17].
قال الله -تعالى- مبيّنا حقيقة هذه الدنيا: (إنَّمَا مَثلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتلط بهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إذا أخَذتِ الأرْضُ زُخْرُفهَا وَازَّيَّنَتْ وَظنَّ أهْلهَا أنَّهُمْ قادِرُونَ عَليْهَا أتاهَا أمْرُنَا ليْلا أوْ نَهَارًا فجَعَلنَاهَا حَصِيدًا كأنْ لمْ تغْنَ بالأمْسِ كذلِكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقوْمٍ يَتفكَّرُونَ) [يونس: 24]، وقال عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
فإذا علمتَ أنّ الدنيا إلى زوال فلا تعلق قلبك بمتاعها الزائل، بلِ ازرَعْ فيها ما ينفعك في الدار الآخرة، لا تعلق قلبك بما سيزول ويفنى، بل علق قلبك بما سيدوم ويبقى، قال تعالى: (وَمَا أوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أفلا تعْقِلونَ) [القصص: 60].
رابعا: اعتبر واتعِظ بسرعة مرور الأيام والشهور والأعوام؛ فقبل أيام قليلة مضتْ وَدّعنا عاما هجريا مضى من أعمارنا، واستقبلنا عاما جديدا بدأت أيامه تمر بسرعة، وفي ذلك من العبر والعظات ما لا يخفى.
فيا عبد الله: أما تأملتَ في الأيام وسرعتها؟ أما تفكرت في الشهور وذهابها؟ أما اتعظت بمرور السنوات وانقضائها؟
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكلّ يوم مضى يُدني من الأجل
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "ابنَ آدم إنّما أنت أيّام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك".
أما تأملت في الشيب الذي علا رأسَك؟ والتجاعيد التي بدت على خديك؟
أما رأيت الموت يَخطِف الصغير والكبير، والشريف والوضيع، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد؟ ويوما ما سيأتي دورُك، فكن مستعدا.
جلس الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يوما يعظ الناس، فنظر إلى الشيوخ فقال: "يا معشر الشيوخ ماذا يُنتظرُ بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، ثم نظر إلى الشباب فقال: يا معشر الشباب؛ إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ".
وقال الفضيلُ بنُ عياض -رحمه الله تعالى- لرجلٍ: "كمْ أتتْ عليك؟ قال: سِتون سنة. قال: فأنتَ منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك، يُوشِكُ أنْ تبلغَ. فقال الرجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فقال الفضيلُ: أتعرف تفسيرَه؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد، وأنَّه إليه راجع، فليعلم أنَّه موقوفٌ، ومن علم أنَّه موقوف، فليعلمْ أنَّه مسؤول، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً. قال الرجل: فما الحيلةُ ؟ قال: يسيرة. قال: ما هي؟ قال: تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى، فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي".
أيها العاقل: راقب العواقب، فالجاهل من مضى قُدُماً ولم يراقب. كم يومٍ غابت شمسه وقلبك غائب؟! وكم ظلام أُسْبِلَ سِتره وأنت في معاصي وعجائب؟! وكم أسْبَغ الله عليك وأنت على معاصيه تواظب؟! وكم صحيفة قد ملأتها بالذنوب والمَلَكُ كاتب؟! وكم أنذرَك الموت يأخذ أقرَانك من حولِك وأنت ساهٍ ولاعِب؟!
فيا من بدنياه اشتغل *** وغرّه طول الأمل
الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل
فكنْ عاقلا، وكنْ مستعدا، "اغتنم شبابك قبل هرَمك، وصحّتك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
اللهم وفقنا للصالحات قبل الممات، وأرشدنا إلى استدراك الهفوات من قبل الفوات، وألهمنا أخذ العدة للوفاة قبل الموافاة، ونجنا يوم العبور على الصراط يا رب الأرض والسموات.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا، يا رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من عبادك الصالحين، يا رب العالمين.
اللهم حببْ إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا مولانا من الراشدين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم اجمع شملهم، ووحد صفوفهم، وفرج همومهم، ونفس كروبهم، وانصرهم على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي