يتحدث الناس على عدالة في الأنظمة الغربية، وقوانين صارمة في مكافحة النفعيين وأصحاب المحسوبيات في بلاد غير مسلمة! وحق لهم فالعدل برد القلوب، وأمان الضعفاء، وحاجز الأقوياء. ولكن لا ينسى هؤلاء المعجبون أن هذه أخلاقنا أخذها غيرنا، وهذه قواعد التعامل في ديننا ولكن أضعناها فضاعت كثير من حقوقنا، وحين تساهلنا فيها سهل تسلل ضعاف النفوس إلينا حتى ساومونا على مخصصاتنا، وشاطرونا أموالنا...
إن الحمد لله...
أما بعد: فحَدَث تفاصيله مختصرة، وقصته قصيرة! لكنه يرسم منهج دولة، ونزاهة أمة، وحماية مجتمع، ويرد النفوس الطَّمِعَة، واستشراف الأخرى الجشعة.
"أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟"
ما قصة هذه الاستفهام، والعتاب الذي صدح به النبي -صلى الله عليه وسلم- من علا منبره، وخطب الناس به؟!
في الصحيحين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- استعمل رجلاً من الأزد يقال له: عبدالله ابن اللتبية هكذا اشتهر اسمه منسوبًا لأمه -رضي الله عنه-.
استعمله النبي -عليه الصلاة والسلام- أي: جعله عاملاً في جمع الصدقات.
جمع الصدقات كما أمر، وحملها للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة فالمهمة تمت، والشغل الذي وكِّل إليه أنجزه.
قال أبو حميد الساعدي راوي هذه القصة: فلما قدم قال: "هذا لكم وهذا أهدي إليَّ!"
هنا الخلل في التصرف، والاجتهاد الذي لا يقر عليه!
كيف يستحل جزءًا مما جمعه، وهو عبد مأمور، يعمل لغيره، ومؤتمن على عمله!
ومع كل هذا لا تقرأ في هذا التصرف من هذا الصحابي عملاً كما يقال "خلف الكواليس"، فالرجل اجتهد وأخطأ لا شك!
ولكنه رجل واضح أبدى ما أدى إليه اجتهاده بصريح العبارة ليس في قوله لحن ولا في فعله لفّ ولا دوران.
فالمال الذي جمعه، والصدقات التي جلبها كلها بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بمحضر من الصحابة.
ولهذا هو يشير إليها، يشير إلى شيء موجود: "هذا لكم! وهذا أهدي إليَّ!".
رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين، كيف بنوا حياتهم على الصدق والصراحة!
ولكن الخطأ مردود على صاحبه! ولا يعني هذا أنه آثم معاقب عند الله، فذاك أمر آخر يحكم به من لا تخفى عليه خافية، ومن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور!
والتجاوز لا بد أن يبين بياناً عاماً حتى لا يتساهل الناس، وكل يقيس نفسه على غيره، ويتأول لفعله!
قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغضباً وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: "ما بال العامل أبعثه؟ فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليَّ، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر"، واليُعار: صوت الشاة.
ثم رفع يديه ثم قال: اللهم هل بلغت مرتين أو ثلاثاً!
معاشر الإخوة: هذا الحديث وهذه القصة وهذه الكلمات التوجيهية من النبي -صلى الله عليه وسلم- من فوق منبره في خطبة عارضة تعطي أصلاً واضحاً، ومبدأً راسخاً أن كل من استُعمل على عمل واستُؤجر عليه فإن ما جاءه بسبب كونه في هذا العمل فإنه لا يحل له أخذه!
ما دام سبب هذا الذي جاءه كونَه في هذا العمل.
فهو لم يُهدَ له لعادةٍ بينهما في التهادي، أو لكونه قريباً منه أو نحو ذلك!
ويوضحها أنه لو قعد في بيته لما جاءه شيء.
إذن الذي جاءه لكونه على رأس عمل له مرتَّب من بيت المال، ويتقاضى مكافأته من ولي الأمر. فما زاد على هذا فلا يحل له أخذه، فإن أخذه فإنه يؤخذ منه ليرد في بيت المال أو يرجع لصاحبه! ينظر فيها.
وهذا الحكم النبوي يستوي فيه ذوو الأعمال والمناصب الوضيعة من العمال والأجراء وصغار موظفي الدولة، وكذا كبار الموظفين من المدراء والوكلاء والوزراء والأمراء وغيرهم.
يتحدث الناس على عدالة في الأنظمة الغربية، وقوانين صارمة في مكافحة النفعيين وأصحاب المحسوبيات في بلاد غير مسلمة! وحق لهم فالعدل برد القلوب، وأمان الضعفاء، وحاجز الأقوياء.
ولكن لا ينسى هؤلاء المعجبون أن هذه أخلاقنا أخذها غيرنا، وهذه قواعد التعامل في ديننا ولكن أضعناها فضاعت كثير من حقوقنا، وحين تساهلنا فيها سهل تسلل ضعاف النفوس إلينا حتى ساومونا على مخصصاتنا، وشاطرونا أموالنا، "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب".
عن عدي بن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه, كان غلولاً يأتي به يوم القيامة ", فقام إليه رجل أسود من الأنصار, فقال: يا رسول الله, اقبل عني عملك, قال: "وما لك؟ قال: لا حاجة لي في عملك, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لم؟" قال: إني سمعتك آنفًا تقول كذا وكذا, قال: وأنا أقوله الآن, من استعملناه منكم على عمل , فليجئ بقليله وكثيره, فما أوتي منه أخذ, وما نهي عنه انتهى" (رواه مسلم).
أقول قولي هذا...
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد: فبعد أن عرفنا حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن يأخذ شيئاً بسبب عمله زائداً على ما قُرِّر من مرتبه أنه لا يجوز وهو الغلول الذي ورد فيه الحديث "هدايا العمال غلول".
فعلى مدراء الشركات ورؤساء الأقسام, وكذا مدراء المدارس والمدرسين ونحوهم من الموظفين الذين لهم مرتبات من الدولة عليهم أن يحتاطوا لدينهم ولا يحملنهم الخجل على أن يحابوا في حكم شرعي، وألا يقبلوا هدية سببها العمل مهما برر المهدي، وأنها هدية لله ولو أقسم على ذلك مبرهنًا نزاهته وبعده عن الحرام فلا يجوز قبولها لا هدية من المال ولا من الأشياء العينية كساعة أو قلم أو كتاب ولا من الطعام تمر أو حلوى أو غير ذلك.
وعلى هذا فتاوى اللجان الشرعية، والمشايخ المحققين، ولا فرق أن يكون الموظف باقياً في عمله أو مغادراً ولا فرق بين أن يكون الطالب مستمراً في الدراسة أو متخرجًا، ولا فرق أيضاً بين كون الهدية للمعلم قبل إعلان النتيجة ورصد الدرجات أو بعد ذلك!
وحديث ابن اللتبية الذي سمعته كان بعد نهاية العمل ومغادرة من كان يعمل عندهم. على أن بعض ما يسمى هدايا قد تبلغ أن تكون من الرشوة التي لعن الله آكلها ومعطيها. وإنه يتأكد على إدارة المدرسة أن تؤكد على منسوبيها من المدرسين ألا يقبلوا شيئاً من الهدايا من طلابهم.
وأقترح أن تشعر الإدارة طلابها بعدم استقبال أي نوع من الهدايا لا ترفعاً عنها ولكنها لحرمتها شرعاً. وقد ثبت أن هذه الهدايا فيها من المفاسد الشيء الكثير فقد كانت محل تنافس مذموم بين الطلبة.
أيهم يهدي معلمه أكثر, وأيهم يبدع في اختيارها وتنميقها وتحسين تغليفها، ولا يخفى أنَّ هذه قد تكون مثقلة لكاهل الأب ومزاحمة لدخلة المحدود لاسيما إذا تعدد أبناؤه المهدون.
وربما أهدى أحد الطلبة معلمه مجاملة ومجاراة لزملائه وقلبه على غير هذه الهدية.
وما قيل في حق الطلاب مع معلميهم فهو في حق المعلمات مع طالباتهن آكد وأشد.
ومكافأة المحسن من هؤلاء تكون بالدعاء له, والثناء عليه بحسن صنيعه
والكلمة الصادقة لها أثر في التشجيع قد يفوق ما تبذله من مالك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي