رمضان والمقصد من الصيام

الرهواني محمد
عناصر الخطبة
  1. تبشير النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدوم رمضان وبعض فضائله .
  2. مشروعية الصيام وبعض مقاصده وغاياته .
  3. مفهوم الناس لحقيقة الصيام .
  4. وسائل استقبال رمضان .

اقتباس

الصيام شُرِع لمقاصد وأحكام عظمى حيث لم يقِف الشارع الحكيم عند مظاهر الصوم وصُوره؛ من تحريم تناول المباحات والطيبات فحسب، بل عمِدَ إلى سمُوِّ الروح، ورُقِيِّ النفس وحفظِها، وتزكيةِ الجوارِح، والصعود بها من الدَّرك المادي الطيني إلى آفاق السمو الروحي، لينعم...

الخطبة الأولى:

شهر من أعظم مواسم الطاعة والإقبال على الله أطل علينا بنفحاته الطيبة.

شهر كان الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- يزِف لأصحابه البشرى بقدومه فيقول: "أتاكُم رَمضانُ شَهرٌ مبارَك، فرَضَ اللَّهُ -عزَّ وجَلَّ- عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ".

رمضان هو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، هو شهر العتق والغفران شهر الصبر والمواساة، والتكافل والتراحم والإحسان، شهر التناصر والتعاون، شهر الفتوحات والانتصارات.

هو شهر تُفتح فيه أبواب الجنات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتُجاب فيه الدعوات، وتُرفع فيه الدرجات، وتُغفر فيه السيئات.

رمضان شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطِيّات، حيث فرض الله صيامه، فصامه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام: أن من صامه وقامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه.

رمضان لسان حال الشهور معه كحال يوسف -عليه السلام- مع إخوته: (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) [يوسف: 91]، فإذا كان شهرٌ هذه فضائله، فما المقصِد والحكمة من صيامه؟

الصيام شُرِع لمقاصد وأحكام عظمى حيث لم يقِف الشارع الحكيم عند مظاهر الصوم وصُوره، من تحريم تناول المباحات والطيبات فحسب، بل عمِدَ إلى سمُوِّ الروح، ورُقِيِّ النفس وحفظِها، وتزكيةِ الجوارِح والصعود بها من الدَّرك المادي الطيني، إلى آفاق السمو الروحي، لينعم الصائم بصفات أهل البرِّ والإحسان.

لذلك كان أول مقصِد من مقاصد صيام رمضان هو تحقيق التقوى؛ كما دل على ذلك قول ربنا -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، فالحكمة الأسمى من الصيام هو: تحقيق تقوى الله وخشيتِه سبحانه ومراقبتِه في السر والعلانية، فالتقوى التي يحققها الصوم وينميها في الإنسان: هي المراقبة الدائمة لله -سبحانه- في السر والعلن والحذر من الوقوع فيما يُغضبه، والابتعادُ عن الانسياق وراء الشهوات والغرائز.

تقوى الله هي العاصم من كل شر وفساد وفتنة وسوء وضرر، هي الضمان لكل خير ومصلحة شريفة وغاية نبيلة وهدف منشود.

فليس المقصود الذي شُرع من أجله الصيام أن يُتعِب الإنسان نفسه ويُجهدها بامتناعه عن تناول بعض الملذات المباحة، وإنما المقصود الذي شُرع من أجله الصيام: تحقيق تقوى الله -تعالى-.

هذه التقوى والمراقبة يجب أن تكون حاضرة مع المسلم أينما حل وارتحل في كل مكان وزمان.

مع نفسه بأن يُلزمَها اتباع الحق، ويمنعَها من الظلم والبغي.

في بيته، مع زوجته، مع أولاده، يُجنبهم مواطنَ الهلاك.

مع جيرانه، في عمله في وظيفته في تجارته في أي مهنة يمتهنها، أو أيِّ مسؤولية يتحملها؛ لذلك قال النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت".

ومن المقاصد التي يرمز إليها هذا الشهر الكريم: إحلال قيم التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع، حتى يُدرك الأغنياء ما يعانيه إخوانهم الفقراء والمحرمون الذين يذوقون ويلاتَ الفقر ومرارةَ الحِرمان وألمَ الجوعِ في سائر الأوقات وطُول العام، فيوجب ذلك تنبيها للنفس وحَثّا لها على مواساتهم والإحسان إليهم، قيل ليوسف -عله السلام- وكان كثير الجوع، لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: "إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع".

ولهذا حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على التكافل والتراحم بين جميع أفراد الأمة دون تمييز، وليس في رمضان فحسب، وإنما في سائر العام، قال: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ".

فديننا دين التكافل والتعاون والتضامن والتراحم، ديننا يدعو إلى البذل والعطاء والتضحية في سبيل إدخال السرور إلى قلوب عامة الناس ومساعدتهم، يقول النبي -صلّى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا".

إنها -والله- لقيم عاليةٌ حَرَصَ عليها ديننا فرغّب فيها وحث عليها، ليَتمَّ التكافل في بناء المجتمع حتى يصبحَ قويا صامدا، وتصبحَ القلوب لينة طاهرة، فالغني يعطف على الفقير، والفقير يحب الغني، والقوي يشد بيد أخيه الضعيف، والضعيف يستنصر بالقوي، مجتمع متماسك متراحم متعاون، تسوده المحبة والرحمة والإخاء.

ومن مقاصد رمضان: أن نجعله بداية وفرصةً للتغيير؛ فربنا –سبحانه- يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

فرصة للتغيير لمن كان مُفرطاً أو متهاونا أو مضيعا للصلاة.

فرصة للتغيير لمن هجر المساجد.

 فرصة للتغيير لمن اعتاد الكذب بأن يعتاد الصدق ويتحلى به.

فرصة للتغيير لمن اعتاد تسخير جوارحه في الحرام، بأن يحفظها ويسخرها في طاعة الله ومرضاته.

فرصة للتغيير لمن كان مخاصما لأحد من الناس بأن يعفو ويصفح.

فرصة للتغيير لمن قَطَعَ رَحِمَه بأن يصلها.

رمضانَ فرصةٌ وبداية للتغيير للمسرفين على أنفسهم، للغارقين في بحور الذنوب والمعاصي بأن يسارعوا بالتوبة والرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- فهو القائل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر: 53].

رمضانَ فرصةٌ للمبادرة إلى الاستقامة قبل زوال النعم وحلول الأجل، وحين تزول النعمة ويَحُل الأجل، وقتها لا تُقبل المعذرة، ولا تُستدركُ الزلة. فإن لم تتغير النفوس وتنضبط في رمضان، فهل عساها تتغيرُ وتنضبط من بعده؟

الخطبة الثانية:

رمضان شهرٌ أراده الله أن يكون شهرَ العبادة والإنابة، شهرَ التقوى، شهر القرآن والقيام، شهر الإنفاق والقربِ والطاعة، شهر الجد والاجتهاد والتضحية والبذل والعطاء، هكذا أراده الله -عز وجل- ويريده أن يكون.

ولكن بعض الناس يريدونه على غير ما أراده الله -جل وعلا-.

حيث انعكست المفاهيم، وانحرف الفهم لحقيقة الصيام، حتى أصبح رمضان عند البعض شهرَ ممارسة الاستهلاك، استعدادا للموائد الممدودة المملوءة طولا وعرضا بأطيب أنواع الطعام والشراب، مما لا نراه إلا في هذا الشهر، ولذلك لا نستغرب ارتفاع أسعار الأطعمة في رمضان، كيف لا وقد ارتفع الطلب وفُتحت الجيوب والمحافظ؟!

بل قد يستدين البعض لشراء كماليات الطعام، مبالغة في إعطاء النفوس ما تشتهيه، فجعلوه موسم وميدان التنافس على أصناف الأطعمة وألوان الأشربة، فتراهم قبل دخول هلال رمضان يفزعون إلى الأسواق رجالا ونساء يكيلون من الأطعمة ويتزودون من الكماليات، وكأن رمضان حفلة زفاف، أو وليمة نجاح، تُبسط فيها الموائد العريضة، وتنشر الأطعمة المتنوعة، فيُكتفى منها بالقليل، ثم يُرمى ما تبقى منها مع القمامة والأزبال.

ومنهم من يريده شهر السهرات والحفلات، أو ما يسمونه بالأعمال الفنية التي تُهيأ خصيصا لرمضان إكراما لهذا الضيف الكريم على حد زعمهم، ونعم الإكرام!

ومنهم من يريد رمضان شهر اللهو وتضييع الأوقات.

ومنهم من يريده شهر الفضائيات والمباريات.

فهؤلاء وغيرهم الكثير، جردوا رمضان من حقيقته وعن معانيه العظمى، وجعلوه لبطونهم وعيونهم، سهرا بالليل، ونوما في النهار، لا بصيام يتلذذون، ولا بقيام يتعبدون، بل حتى الصلاة المكتوبة هم لها مضيعون، ليلهم ضياع، ونهارهم خُسران.

وما هكذا يُستقبل رمضان -يا أمة القرآن-.

فرمضان نستقبله: بالنية الخالصة، والعزيمة الصادقة، والإرادة القوية على صيامه وقيامه إيمانًا واحتسابا لا تقليدا وتبعية.

رمضان نستقبله بالتوبة النصوح الصادقة، بالتحلل من المظالم ورد الحقوق إلى أهلها، وأن نستسمح كل من ظلمناه، وأن ندعو لمن قصرنا في حقه، وأن نصل من قطعنا رحمه.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي