البلية الكبرى والطامة العريضة عندما ترتبط القناعة بالهوى فيقتنع الإنسان بالهوى؛ فتكون قناعاته هوائية شهوانية، ترسم له نفسه المنهج الذي يسير فيه، والأشياء التي يحبها والتي يتناولها ويمارسها ويعتني بها، ويحرص عليها. والنفس أمارة بالسوء فلن...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا فضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- ما استطعتم واستمسكوا بدينه القويم، واعتصموا بحبله المتين، فإنه مَن (يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].
عباد الله: قناعات الإنسان هي مرضاته عن أشياء في هذه الحياة الدنيا، اقتنع بها فارتضاها وأحبها فدافع عنها وحرص عليها؛ لأن القناعة في حقيقتها هي الرضا والقبول، فإذا اقتنع المرء بالشيء قبله وأحبه، وقد يتبناه، ويستظل بظلاله.
والبلية الكبرى والطامة العريضة عندما ترتبط القناعة بالهوى فيقتنع الإنسان بالهوى؛ فتكون قناعاته هوائية شهوانية، ترسم له نفسه المنهج الذي يسير فيه، والأشياء التي يحبها والتي يتناولها ويمارسها ويعتني بها ويحرص عليها.
والنفس أمارة بالسوء فلن تقنع صاحبها الذي سلم لها زمام الأمور إلا بالذي هو سيء ومذموم.
والهوى هو شهوة النفس وما تحبه وترتع في ظله، وسمي الهوى بالهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في الردى والدركات السفلى، يقول ابن رجب: "المعروف في استعمال الهوى عند الاطلاق أنه الميل إلى خلاف الحق؛ كما قال الله -تعالى-: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
ومن القناعات ما هو ممدوح ومبارك، وذلك عندما تكون القناعة والرضا عما يحبه الله ويرتضيه؛ عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع" (رواه الترمذي وحسنه)، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يهنئ من اقتنع بالإسلام ورضيه منهجاً له وعقيدة وشريعة ومسلكاً، فالقناعات الطيبة هي الرضا بالإسلام وشرائع الدين وعقيدته السمحة، وهذا الذي يجب أن يكون عليه العاقل الفطن فلا يسلك مسلكاً ولا يعتقد معتقداً، ولا يعمل من عمل إلا فيما يحبه الله ورسوله ويرتضيه الإسلام؛ ففي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" (والحديث ضعيف ولكن معناه صحيح)، فإن المسلم لن يقبل منه عمل صالح حتى يكون متابعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخلصاً فيه لله -عز وجل-، ولن يبلغ كمال الإيمان حتى تكون نفسه لا تتشوق إلا لما جاء عن الله ورسوله، وحتى يقدم حق محمد رسول الله على كل شيء حتى على نفسه ذاتها؛ أخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- بيد عمر -رضي الله عنه- فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي؟ فقال له: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال رسول الله: "الآن يا عمر" (يعني بلغت كمال الإيمان).
يقول الحافظ بن حجر -رحمه الله-: إن محبوب الإنسان إما نفسه وإما نفسه وإما غيرها، فأما نفسه فإنه يحب لها دوام البقاء سالمة من الآفات، وهذا هو حقيقة المطلوب، وأما حب الغير فإنما يحصل بسبب تحصيل نفع من المنافع على أي وجه من الوجوه حالاً ومآلاً.
إذا تأمل المسلم النفع الحاصل له من جهة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجده أكبر نفع وأجله وهو إنه عليه الصلاة والسلام السبب الكبير في إنقاذه من النار وظلمات الكفر والخلود الأبدي في الجنة، فعلم أن نفعه عليه الصلاة والسلام أعظم المنافع الحاصلة للإنسان من جميع الوجوه، فاستحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره.
فأكرم القناعات وأجلّها القناعات التي تكون في مناهج الدين الحنيف، والملة الحنيفية، بحيث لا يتجه المرء يمنه ولا يسرة إلا واستوضح دين الله واستفتاه فيما يتجه إليه ويختاره، فإذا ارتضاه الدين اعتمده وإذا رده الدين رده ورفضه.
وشر القناعات قناعات الهوى والنفوس؛ لأن الهوى كله مذموم، فما بنى أحد قناعاته على الهوى وأفلح، ولا سلم أحد قناعاته لشهوته ونفسه ونجا، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما ذكر الله الهوى في القرآن إلا ذمة"، فقال سبحانه: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) [الأعراف: 176]، وقال: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) [القصص: 50]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع أمر العامة" (رواه أبو داود والترمذي).
وهذه خطورة القناعات المؤسسة على الهوى والشهوات يقع المرء في سخط الله وغضبه؛ لأنه بقناعاته هذه سوف يحب ما أبغضه الله، ويبغض ما أحبه الله، ويقدم من أخره الله، ويؤخر من قدمه الله، ويرفع من وضعه الله، ويضع من رفعه الله؛ فلذلك صاحب قناعات الهوى يتردى في البلاء والهلاك، وتنقلب عنده الموازين، وتختلط عليه الأمور، وتظلم بصيرته، فلن ير إلا الظلام، يقول تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
أيها الإخوة في الله: إن أصحاب قناعات الهوى عميان لا يبصرون وصم لا يسمعون وقلف لا يفقهون، يعتنقون مناهج الفساد، ويعرضون عن مناهج الصلاح، يرون الصالح فاسداً، والفاسد صالحاً، والاستقامة اعوجاجاً، والاعوجاج استقامة، ففرعون الهالك لانتكاسة منهجيته وظلامية قناعاته رأى الحق باطلاً، والباطل حقاً، فرأى أن موسى -عليه السلام- فاسداً فنادى بقتل موسى حتى لا يظهر في الأرض الفساد: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26].
ورأى نفسه مصلحاً راشداً ودالاً على الرشاد، فقال: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29].
وسرت هذه القناعات الفاسدة على قومه فاعتمدوها واقتنعوا بها غير محققين ولا متثبتين مما ألقى إليهم فأهلكهم: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [الزخرف: 54 - 55].
لقد ألقت قناعات الهوى بأصحابها في أودية من الردى والخسارة، وهوت بهم في انحدارات مؤسفة، وأوردتهم الهوامش والمؤخرات والأرصفة والاحتياط والرفض هذا في الدنيا، وفي الآخرة كما أخبر الله -تعالى- عن سيد الهالكين، وإمام المتردين في السعير فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 98].
وكما قال سبحانه عمن أعرض عن سبيله، وركض وراء قناعاته نفسه وهواه، فكان للأسف كبيراً حينما أشهد الله -تعالى- عليهم أعضاءهم، فشهدت على أصحابها أنهم ظالمون مجرمون: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 21].
ووبخهم الله -تعالى- على هذا: (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 22 - 23].
إن الإنسان إذا جعل قناعاته للهوى فإنه تلقائياً يعرض عن الوحي، عن منهج الإسلام شاء ذلك أم أبى، فهو إما أن يقتنع بالوحي المنزل على رسول الله، ويعتمده منهجاً يسير عليه ويعمل به في هذه الحياة، ويرافقه إلى الدار الآخرة، وإما أن يكون مقتنعاً بهواه، ولا مفر من هذين السبيلين، يقول الله -تعالى-: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50].
إن القناعات الهوائية الشيطانية اليوم مناهم متبعة، وسبل مقصودة، وطرق مسلوكة، وسفن تمخر عباب البحار شرقاً وغرباً، وأهلها ومتبعوها بحارة مطيعون: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، قناعات شركية وبدعية وخرافية وكفرية وإلحادية ذات عقائد وأيدلوجيات بعيدة عن منهج الوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وللأسف أن تجد في المسلمين من ينتهج منهج الغيّ والضلال، فمسلم شيوعي، ومسلم اشتراكي، ومسلم ليبرالي، ومسلم شرقي، ومسلم غربي وعلماني، عقائد وأفكار وأهواء، وسبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22] لبئست القناعات عبّدت الإنسان، وجعلته عبداً لهواه، وأبعدته عن الغاية التي من أجلها خلق، ولبئست القناعات غيبت الإنسان عن الاستعداد للمصير والموت.
إن الأفكار والمناهج والتوجهات التي تبعد المرء عن حقيقة وجوده في هذه الحياة، وتولى وجهه شطر الدنيا والشيطان لا تسمى قناعات، ولكنها ضلالات وخسارات: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103 - 104].
اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي