ثلاثة لا يكلمهم الله (2)

منصور محمد الصقعوب
عناصر الخطبة
  1. عقوبات الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والعائل المستكبر .
  2. بيانُ شناعةِ أفعالهم المستوجبة لشدة عقابهم    .

اقتباس

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ".

الخطبة الأولى:

إذا كان تكليمُ الله عبده ونظرُ العبدِ إليه أعظمُ نعيم الجنة, فإن من أشقّ العذاب وأشقاه, إعراض المولى عن عبده.

حديث هذه الجمعة متمٌّ لما مضى من حديثٍ حول أقوام لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

ولئن مضى حديثٌ عن المسبلِ إزارَه, والمنّان بعطائِه, والمنفّق سلعته بكاذب حلفه, فإن حديثَ اليومِ هو عن خصالٍ أخرى.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ".

أول هؤلاء الثلاثة: واقعٌ في موبقٍ من الموبقات, وواحدٍ من الذنوب السبع المهلكات, وأحدِ ثلاثة ذنوب توعد ربنا عليها بقوله: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان:68-69].

إنه الزنا, عصمنا وإياكم منه المولى, تلكم الجريمة الشنعاء, حين تنحر الفضيلة, وتوأدُ العفة, وتُتعاطى الفاحشة. قال الإمام أحمد: "لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا".

قال ابن القيم: "ففي هذه الكبيرة –أي: الزنا- خرابُ الدنيا والدين, فكم فيه من استحلال حرمات, وفواتِ حقوق, ووقوع مظالم. ومن خاصيته أنه يكسو صاحبَه سوادَ الوجه, ويورث المقتَ بين الناس, وأنه يشتت القلب ويُمرِضُه إن لم يُمِته، ويجلب الهمّ والحُزن والخوف. إلى أن قال:  وقد جرت سنة الله في خلقه, أنه عند ظهور الزنى يغضب الله -سبحانه- ويشتد غضبه, فلا بد أن يؤثِّرَ غضبُه في الأرض عقوبةً؛ ولذا عظّم رسول الله جرم الزنا حين وقوع الكسوف, فهو من أسباب العقوبات.

وإذا أردت أن تعرف شناعة جريمة الزنا فتأمل بأي شيء تُوعِّدَ صاحبُه, إنه في الدنيا يُعاقب بأشنع القِتلات, برجمٍ بالحجارة حتى الممات, وأمرٍ من الله بأن لا تأخذ العباد به رحمة ولا رأفة, وبأن يكون العذاب في مشهد من الناس: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2]؛ ليكون أبلغ في النكال, وأعظم في الردع لمن تُسول له نفسه.

فإن لم ترتدع النفس بهذا العقاب, فلعلها أن ترتدع بعذاب الزاني في قبره, ذلكم العذاب الذي يصوره لنا المصطفى ; بقوله: "فمررنا بقوم في مكان على مثل التنور، أعلاه ضيق، وأسفله واسع, وإذا يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا"، أي: صاحوا, فقلت: من هؤلاء؟ قالا: "هؤلاء الزناة والزواني".

فإن لم ترتدع النفس، فأي قلبٍ لا يرتدع من قول الحق -سبحانه- في ذكر عذاب الآخرة: (وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان:68-69]. فأي نفس تحتمل هذه العقوبات؟.

وإذا كان هذا أثر الذنب على الفرد, فكم له من الأثر على المجتمعات! ونظرةٌ للمجتمعات التي استمرأت الفجور, وشاعت فيها الفواحش، يتجلى لك كم أثّر ذلك الفعل في شيوع أمراضٍ حارَ الطب في علاجها؛ وما ذاك إلا مصداقٌ لقول الحبيب: "وما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا ابتلوا بالأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا قبلهم".

يا كرام: الزنا كله حرام, لكنّ منه ما هو أسوأ من بعض, فهو من الشابّ جُرْمٌ, لكنه يكون أعظم جرماً إذا كان ممّن قلّ عنده داعيه, فرقّ عظمه, وكَبُر سنه, لأنه يدل على خبث نفسه، وسوء طبعه؛ ولذا كان هذا الذي لا ينظر الله إليه: شيخٌ -أي: كبير في السنّ- زانٍ, نسأل الله العافية.

اليوم -يا مؤمنين- فُتِحتْ أبواب الشرور على الناس, وتيسرت وسائل الآثام, وسهُل الوصول للحرام, فليس بين العبد وبين السوء إلا أن يسافر إلى أي بلدٍ شاء, ليجد ما يريد, بل لربما كان أقربَ من ذلك, لكنه زمن الابتلاء!. فمن يثبت ويعصم نفسه من الشرور والفواحش, ومن يُخفِق في ذلك؟.

والخذلانُ -واللهِ- أن ترى رجلاً بلغ الخمسين أو قارب, يتنقل في الأسفار, يعاقر المحرمات, ويجالس المومسات, ولربما أوهم نفسه بحلّ فعله, حين يسلك طرقاً من الزواج يعلم هو في قرارة نفسه أنها تلاعب, وتلك مسالك مردية, وقد كان جديرٌ بمثله أن يكون من عُمّار المساجد, وملازمي القرآن, فقد أعذره ربه إذ أبقاه, وأطال عمره, وأصحّ قواه. فلما داوم على هذه المسارب المحرمة, برغم قلّة الداعي, وتيسر الحلال عنده, كان ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

يا مؤمنين: وتجاه تيار الشهوات الجارف, وأمام شكوى البعض من خوفه من الوقوع في الزنا-شيخاً كان أم شاباً- فيبقى التحصنُ مطلباً مُلِحاً, وكلُّ قارئٍ للقرآن يقرأ كيف فعل يوسف -عليه السلام- لينجو, فهو قد ذكر الله أولاً فقال (معاذ الله)، ثم هرب من مكان الشر ثانياً: (واستبقا الباب), وقد تذكر نعم الله عليه فقال: ( إنه ربي أحسن مثواي)، ومع هذا خاف عقوبة ربه لمن عصى وظلم فقال: (إنه لا يفلح الظالمون)، كل هذا مع سابقة العلاقة مع الله, وحسن العمل قبل البلاء والفتنة, كان سبباً لعصمته: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين).

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ?قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ...) [يوسف:23-25].  

وإنها لعظة نؤخذ من تلك القصة, جديرة بأن يرتسمها الراغب في العفاف, كبيراً أو شاباً.

معشر المسلمين: وثاني الثلاثة الذين ذُكروا في الحديث: "ملكٌ كذّاب": إنه رجلٌ أعطاه الله الملك, فالناس تحت مُلكِه وتصرّفه, لا حاجة لأن يكذب عليهم, ومع هذا فإذا تحدث معهم كذب عليهم, إذا وعدهم أخلف مواعيده.

إن الكذب حرام في حقّ كل أحدٍ, إذ هو من أسوأ حصاد اللسان, وهو الصراط الموصل للنيران, وفي مقول سيد ولد عدنان -عليه الصلاة والسلام-: "وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" متفق عليه.

لذا كان الصالحون ينأون بألسنتهم وأفعالهم عن الكذب, لأنه –كما قال ابن تيمية-: "أساس السيئات ونظامها".

ورحم الله الإمام الزهري إذ يقول: "والله الذي لا إله غيره! لو نادى مناد من السماء: إن الله أحلّ الكذب، ما كذبت!".

لذا؛ فلا عجب أن ترى الكذب ينأى عنه كِرام الرجال, لأنه مَذمّةٌ مع كونه إثماً, ومما يروى أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: "نعم"، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: "نعم"، فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: "لا".

وبرغم شناعة الكذب إلا أنه يزداد جرمه, ويعظم إثمه، إذا كان من ملكٍ, إنه لم يكن بحاجة لأن يكذب, ليس براغب ولا راهبٍ من أحدٍ منهم؛ لذا كان من الممنوعين من تكليم ونظر رب العالمين: الملك الكذاب.

اللهم اعصمنا من الآثام.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد: ثالث الثلاثة -يا كرام- امرؤٌ قد جمع بين نقيضين, وتحلى بخلتين متناقضتين, إنه فقيرٌ قليل ذات اليد, عائلٌ عالةٌ على غيره, ومع هذا فهو على خلق الله متكبر! إنه: العائل المستكبر!.

الكبر مذموم بكل حال, ولن يدخل الجنةَ من في قلبه مثقالُ ذرّة من كبر حتى ينقّى منها؛ لأنها لا يدخلها إلا سليم القلب, وصاحب الكبر قلبه مريض, إذ، ما الذي دعاه للتكبر وهو مثل الناس في كل شيء؟ بل لربما فاقوه! وما عنده من فروقات فهي معرضة للزوال اليوم أو غداً, ورحم الله محمد بن الحسين بن علي إذ قال: "ما دخل قلبَ امرئٍ شيءٌ من الكبر قطُّ إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر". وما تكبر أحدٌ إلا مُقِت, وما تواضع إلا أُحِب.

الكبر تبغضه الكرام وكل مَنْ *** يبدي تواضعه يُحب ويُحمد

خيرُ الدقيق من المناخل نازلٌ *** وأخسّه وهي النخالة تصعد

بل؛ تأمل في كل منحرف عن الحق, تجد أن الكبر سببُ ضلاله, إبليس تكبر فأبى, فطرد, وقال ربنا: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة:34]

قوم نوح ما منعهم عن قبول الدعوة والاستماعِ لنداء الفطرة والإيمان إلا الكبر, (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [نوح:7].

قوم عاد ظنوا بسبب تكبرهم أنهم أقوى من في الوجود: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15].

قوم ثمودٍ مِن بعدهم نهجوا نفس النهج في الاستكبار والتعالي, فردوا دعوة الله وكذبوا نبيه -عليه السلام-: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)  [الأعراف:75-76].

وحتى قوم شعيب، قال الله عنهم: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف:88].

وحتى فرعون، قال ربنا عنه: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) [القصص:39].

نعم، صدهم عن قبول الحق الكبرُ, ولربما صدّ الكبرُ اليومَ بعض المسلمين عن قبول النصيحة والإنكار, أو عن الجلوس مع من هم دونه, أو عن محادثتهم, أو غير ذلك.

وإذا كان هذا في الكبر مطلقاً, فهو أسوأُ حين يكون من الفقير, إذ لا ثراء, ولا مال, ولا منصب, فحين يتكبر, فَجُرمه أعظم, وذنبه في الكِبر أقبح وأطمّ.

وبعد: فتلك خِلالٌ ثلاث, عقوبة أهلها أنهم لا يكلمهم ربنا ولا ينظر إليهم, ولَعمري! فليست هذه بهينة! فماذا يرجو من أعرض عنه ربه, وحرم من النظر لوجهه ومحادثته؟!.

فاللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك, ولا التنعم بسماع كلامك.

وبقِيَتْ ثلاث خصال في مقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هي مدار الحديث في لاحق الأيام.

اللهم صل وسلم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي