لعلي في هذه الخطبة ألُمُّ بأحكام الصيام ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأول أحكامه: النية: إذ يجب على كل مسلم مكلف أن ينوي صيام يومه في الليل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يُبَيّت الصيام من الليل فلا صيام له"، ووقت الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويعرف...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فهو المهتد، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- في شهركم الذي تسارعت أيامه بالرحيل مسرعة، فما نزال نزجي التهاني بحلوله، وقد انصرم منه أكثر من ربعه.
فالبدار البدار قبل أن نفاجأ بالعيد ونحن لم نحقق من الشهر معانيه العظام، بكثرة التعبد لله -تعالى-، وتحقيق التقوى.
ألا يكفينا موعود الله -تعالى- لنا حين قال: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
ولعل ذكر حفظ الفروج بعد الصوم مباشرة دليل على أن الصوم يحوط الإنسان بسياج من الحفظ من زلل الشهوة، قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" (البخاري (5065) ومسلم (1400).
فالصوم يقمع الشهوات، ويكسر حدتها، وهي التي تقرب من النار، فقد حال الصيام بين الصائم والنار. ولذلك جاءت الأحاديث مصرحة بأنه حصن من النار، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفًا" (البخاري (2840) ومسلم (1153)، وقال صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنةٌ يسْتَجَنُّ بها العبد من النار" (صحيح الترغيب (970)، وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عليك بالصوم، لا مثل له" (صحيح سنن النسائي ( 2097).
ولعلي في هذه الخطبة ألُمُّ بأحكام الصيام ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأول أحكامه: النية: إذ يجب على كل مسلم مكلف أن ينوي صيام يومه في الليل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يُبَيّت الصيام من الليل فلا صيام له" (إرواء الغليل (914).
ووقت الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويعرف الآن لمن لا يدرك سمات الغروب والشروق ولا سيما أهل المدن بالرزنامات، والساعات المختصة في ذلك، وبالمؤذن الثقة، وعليه فلا يجوز تجاوز المؤذن بأكل وشرب في السحر إذا عرفت ثقته، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم" (البخاري (1954)، ومسلم (1100 ).
وهذا أمر يتحقق بعد غروب قرص الشمس مباشرة، وإن كان ضوءها ظاهرًا.
ومن السنن الصحيحة: أكلة السحر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" (صحيح الجامع (4207).
والسحور بركة؛ لأنه اتباع للسنة، ويقوي على الصيام، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تسحروا فإن في السحور بركة" (البخاري (1923)، ومسلم (1095).
ومن أعظم بركات السحور: أن الله -سبحانه- وملائكته يصلون على المتسحرين، قال صلى الله عليه وسلم: "السحور أكلة بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (صحيح الترغيب (1062).
ومن سنن رمضان: تعجيل الفطور، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون" (صحيح الترغيب (1067).
وفي ذلك دليل ظاهر على أن إتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مفردات سُنته دليل أن الناس بخير؛ وبها سيبقى الإسلام ظاهرًا وقاهرًا، لا يضره من خالفه.
ويفطر الصائم "على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تمرات؛ حسا حسوات من ماء"؛ كما ورد عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس (إرواء الغليل: 922).
وينبغي أن نستغل لحظات الإفطار بالدعاء بخيري الدنيا والآخرة، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "للصائم عند فطره دعوة لا تُرد" (إرواء الغليل: 903).
كما علينا أن نتذاكر الأذكار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مثل قوله إذا أفطر: "ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله" (إرواء الغليل: 5920).
واعلم -أيها الموفق لطاعة ربه جل شأنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث الصائم أن يتحلى بمكارم الأخلاق وصالحها، ويبتعد عن الفحش، والتفحش، والبذاءة، والفظاظة، وهذه الأمور السيئة وإن كان المسلم مأمورًا بالابتعاد عنها واجتنابها في كل الأيام؛ فإن النهي أشد أثناء تأدية فريضة الصيام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" (صحيح الترغيب: 1076 - 1077).
وكما أباح الله للمسلم الجماع في ليالي الشهر الكريم، فإنه لا يفقد صومه إذا أدركه الفجر وهو جنب؛ فعن عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر في رمضان وهو جُنُب من غير حُلم، فيغتسل ويصوم" (البخاري (1930)، ومسلم (1109).
وتجوز المباشرة والقبلة للصائم على كراهة للشاب، ولاسيما الذي لا يملك إربه؛ فقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه" [البخاري (1927)، ومسلم (1106)].
كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء شاب فقال: يا رسول الله أُقبل وأنا صائم؟ قال: "لا"، فجاء شيخ، فقال: أٌقبل وأنا صائم؟ قال: "نعم"، قال: فنظر بعضنا إلى بعض، قال صلى الله عليه وسلم: "... إن الشيخ يملك نفسه" (الصحيحة 1606).
والسواك جائز للصائم مثل غيره في سائر اليوم، إلا أن يكون معه نكهات وطعوم مضافة، قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (البخاري (887)، ومسلم (252).
وعلى المتوضئ الصائم ألا يبالغ في الاستنشاق وهو صائم، قال صلى الله عليه وسلم: "... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" (إرواء الغليل: 90).
كما يجوز تحليل الدم، وضرب الإبر التي لا يُقصد بها التغذية.
وأما الحجامة فقد كانت من جملة المفطرات ثم نُسخت، وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها وهو صائم؛ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم" (البخاري: 1939).
كما يجوز ذوق الطعوم؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لا باس أن يذوق الخل، أو الشيء ما لم يدخل حلقه وهو صائم" (البخاري (3 /154) الفتح).
ويجوز الكحل والقطر ونحوهما مما يدخل العين، ولا يسيل إلى الحلق. ويجوز صبّ الماء البارد على الرأس والاغتسال.
نسأل الله -تعالى- أن يفقهنا في دينه، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، واعلموا أن من مفسدات الصوم: الأكل والشرب متعمدًا، والجماع في النهار، وفيه كفارة مغلظة، وتعمد القيء، قال صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض" (إرواء الغليل 923) على أن من استرجع شيئًا من قيئه أفطر به.
وإذا حاضت المرأة أو نفست في جزء من النهار سواء وجد في أوله، أو في آخره؛ أفطرت وقضت، فإن صامت؛ لم يجزئها. قال صلى الله عليه وسلم: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟" قلن: بلى، قال: "فذلك نقصان دينها" (مسلم: 79).
ومما يفسد الصيام الحقن الغذائية: وهي إيصال بعض المواد الغذائية إلى الأمعاء بقصد تغذية بعض المرضى، فهذا يفطر الصائم؛ لأنه إدخال إلى الجوف، وأيضًا الحقن التي لا تصل إلى الأمعاء، وإنما إلى الدم، فهي كذلك تفطر؛ لأنها تقوم مقام الطعام والشراب، وكذلك ما يأخذه بعض المرضى المصابين بالربو القصبي؛ فإنها تفطر.
وأما المسافر فقد خُيّر في الصوم؛ سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال: "صم إن شئتَ، وأفطر إن شئتَ" (البخاري (1943)، ومسلم (1121).
وأما الشيخ الكبير الفاني والمرأة العجوز: فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قرأ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184]، يقول: "هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيفطر، ويطعم عن كل يومٍ مسكينًا نصف صاع من حنطة" (البخاري: 4505).
ومثله الحامل والمرضع: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تبارك وتعالى- وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام" (صحيح سنن الترمذي: 718).
ويقضى الصيام عن الميت، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر فأقضيه عنها؟ قال: "نعم؛ فدين الله أحق أن يقضى" (البخاري (1953)، ومسلم (1148).
أما من أفطر يومًا من رمضان عامدًا؛ فإنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلزمه قضاء أو كفارة؛ لأن إثمه أعظم من أن يتداركه قضاء، أو تجبره كفارة، ولذلك رأى بعض العلماء أن عليه أن يتوب إلى الله -تعالى- ويَصْدُقُ التوبة، ويكثر من عمل الصالحات، وفعل الطاعات، عسى الله -تعالى- أن يمحو إثمه الذي اقترفه بفطره متعمدًا، ورأى بعضهم أن يجمع مع التوبة القضاء.
وأما كفارة الجماع في نهار رمضان فهي كما وردت في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله هلكتُ؟ قال: "ما أهلكك؟" قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان، قال: "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟" قال: لا، قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟" قال: لا، قال: فاجلس، فجلس، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعِرْق فيه تمر، قال: "فتصدق به" فقال: ما بين لابتيها أفقر منا، قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، قال: "خذه، فأطعمه أهلك" (البخاري (1936)، ومسلم (1111)]، وفي رواية أخرى زاد في آخرها: "كُلْهَا أنت وأهل بيتك، وصم يومًا، واستغفر الله" (صحيح سنن أبي داود 2096).
تلك بعض أحكام هذا الشهر العظيم، وعلى من نابه شيء أن يسأل أهل الذكر كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
وأذكر في منتهى خطبتي أن أفضل العمل إلى الله أدومه وإن قل، فالعودة العودة إلى فضائل الأعمال، والحذر الحذر من التهاون في إمضاء أيام هذا الشهر ولياليه العظام.
لعلنا نحظى بموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" (البخاري (38)، و "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" (البخاري كتاب (37).
اللهم يا مولانا يا الله يا الله يا الله يا خالق الخلق وبارئ الأنسام، يا مبدئ يا معيد، يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد، نسألك مسألة الضعفاء المفتقرين إلى عظمتك وقدرتك، ونبتهل إليك ابتهال المذنبين الخائفين من أليم عقابك، ونسترحمك بواسع برك ومنك، يا من أمرُ الكون كله بيده، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، من يقول للشيء كن فيكون، نسألك في هذا اليوم المبارك، وفي هذه الساعة العظيمة، وفي بيت من بيوتك، وبأيد طاهرة متوضئة راجية رحمتك، أن ترحمنا برحمتك، وتتقبل منا ما وفقتنا إليه من الطاعات، وأن تمن علينا بالفرج بعد الكرب، وباليسر بعد العسر، وبالأمن بعد الخوف.
اللهم اجمع شملنا، ولم شعثنا، وآمن روعتنا، واجعل ما أصابنا كفارة لنا، يقيننا عظيم في عطائك وبرك وإحسانك، يا جواد يا كريم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضائك، نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وادفع عنا الفتن والشرور، واحفظ وأصلح لنا ولاة الأمور، واشرح لتحكيم كتابك الصدور، برحمتك يا عزيز يا غفور.
اللهم انصر دينك وكتابك والمجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل دائرة السوء عليه.
اللهم من كاد الصالحين فكده، ومن آذى عبادك المؤمنين فآذنه بحربك، وأنزل به مقتك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي