في ظلال التوبة

الرهواني محمد
عناصر الخطبة
  1. منة الله على عباده بالتوبة .
  2. قصة رجل قتل مائة نفس وما فيها من الفوائد .
  3. رمضان فرصة للتوبة .
  4. سعة عفو الله ومغفرته .

اقتباس

جاءت ملائكةُ الرحمة لتأخذ روحه إلى رحمة الله ومغفرته لأنه رجلٌ تائب وصادق. وجاءت ملائكةُ العذاب لتقبضَ روحه؛ لأنه رجلٌ قتل مائة نفس، فهو مجرم من الدرجة الأولى. ويحدث الخلافُ بين ملائكةِ الرحمة وملائكةِ العذاب. لكن...

الخطبة الأولى:

معاشر الصائمين والصائمات: ونحن نعيش في رحاب هذا الشهر العظيم، شهرِ الرحمة والمغفرة والعتق من النار، فتعالوا بنا جميعاً إلى بستان التذكير والاعتبار، تعالوا بنا لنعيش في ظلال التوبة ومع التائبين.

فأقول وبالله التوفيق: إن من نعم الله -تعالى- أن يَسَّر للمذنبين طريق التوبة والهداية والرجوع إلى الصراط المستقيم، بل من نعم الله أن جعل لهم باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه لمن أراد أن يتوب توبةً نصوحاً.

الله -جل جلاله- جعل باب التوبة مفتوحاً يدخل منه كل من استيقظ ضميره وأراد العودة والمآب، لا يُصد عنه قاصد، ولا يُغلق في وجه لاجئ أياً كان وأياً ما ارتكب من الذنوب والآثام.

ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وحدث عن رجل كانت سيرته حافلة بالجرائم، قلبه قاسي سفاكٌ للدماء، حيث قتل تسعةً وتسعين نفسا؛ روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُد اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ"، فهذا الرجل مع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال في قلبه بقيةٌ من خير، وبصيصُ أمل يدعوه إلى أن يطلب عفو الله ومغفرتَه؛ لأن صاحب الخطايا مهما كان يسبح في نهرِ ذنوبه، فإنه لن يجد متعته في ذلك النهر الملوث، بل إنه يذوق ألما وحزنا وقسوة كلما سبَح في تلك الذنوب.

هذا الرجل تحرك في قلبه يوما الضميرِ الحي، ونطقت الفطرة، فخرج من بيته يبحث ويتساءل عن طريق الهداية، يبحث عمن يفتح له أبواب الرجاء ويدلُّه على باب التوبة ويأخذُ بيده لكي يصل إلى الله.

فدلُّوه على رجل عابد.

فتوجه إليه وكلهُ شوقٌ أن يساعده في الوصول إلى شاطئ التائبين.

فدخل عليه وقال له: لقد قتلت تسعةً وتسعين نفساً وأريد أن أتوب، أريدُ أن يغفرَ لي ربي، فهل لي من توبة؟

فقال ذلك العابد الذي اغتر الناس بمظهره وظنوا أنه أهلاً لأن يتولى مهمةَ التوجيه والإصلاح في المجتمع قال له ذلك العابد الذي يجهلُ سعةَ رحمةِ الله: ليس لك توبة، فما كان منه إلا أن أخرج سيفه وقتله، فأكمل به المائة.

ثم خرج يمشي، وكله حزنٌ وألمٌ وندم، يبحث عمن يأخذ بيده لكي يذوقَ طعمَ الهداية ويرشدَه حتى يتعرف على ربه الرحيم الرحمن.

فما زال يسأل ويبحث، حتى دلوه على رجل عالم.

فذهب إليه وكله أملٌ أن يكون ذلك العالم يملكُ مفتاحَ باب الوصول إلى الله.. فقال له: لقد قتلتُ مائة نفس، فهل لي من توبة؟

فقال ذلك العالم العارفُ بربه والمدركُ لسعةِ رحمة الله: نعم لك توبة، وأبشر فالله رحمن رحيم، ولكن لابد أن تنتقل من قريتك التي كانت سبباً في انحرافك عن الصراط المستقيم، إلى قرية أخرى صالحة لكي يُعينك أهلها على الطاعة.

فخرج من قريته السيئة وكله فرح وسرور، غادر بيئتهِ المليئة بالمنكرات والشرور، وانطلق إلى القرية الصالحة التي سيجدُ فيها الرفقةَ الصالحة.

لقد شعر بأنه وُلد من جديد وأضاء النورُ قلبَه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].

وفي منتصف الطريق وهو يمشي بخطواتِ الصدق، وكلُّه أمل أن يصل إلى مركبِ السعادة.

يحدثُ ما لم يكن في الحسبان، لقد نزلت به سكرةُ الموت، وبدأت روحهُ تنازعُ في الخروج.

جاءت ملائكةُ الرحمة لتأخذ روحه إلى رحمة الله ومغفرته لأنه رجلٌ تائب وصادق.

وجاءت ملائكةُ العذاب لتقبضَ روحه؛ لأنه رجلٌ قتل مائة نفس، فهو مجرم من الدرجة الأولى.

ويحدث الخلافُ بين ملائكةِ الرحمة وملائكةِ العذاب.

لكن الله ذو فضل على عباده اطلع على صدقِ نية الرجل وصفاءِ سريرته، فبعث ملكا على صورة آدمي ليضع لهم مقترحاً في التعاملِ مع ذلك الرجل، فقال الملَك: قِيسوا ما بين الأرضين فإلى أيَّتِهِما كان أدنَى فهو له.

وبينما الملائكة تقيس المسافة بين جثة ذلك التائب وبين القريتين، إذ يتنزل الأمر الرباني العاجل الذي يفوقُ كل قدرات البشر.

الله -سبحانه- أوحى إلى القرية الصالحة أن تقاربي وإلى القرية السيئة أن تباعدي.

قريةٌ تتحرك بأمر ربها من مكانها لأجل ذلك التائب، وقريةٌ تتباعد من مكانها حتى لا يُعاقب.

لقد نظرَ الله إلى قلب ذلك الرجل فرأى فيه الصدق في طلب التوبة، فقَبِل توبته وعفا عنه وحرك له الأرض.

فيا من أذنب وأساء، يا من ملأ صحيفته بالخطايا، يا من ذاق الألم والضيق في البعد عن الله: تعال واغمس نفسك في نهر التوبة لتُطهر نفسك من جحيم الذنوب والخطايا.

تعال إلى بستان التوبة لتذوق النعيم والأنس في الرجوعِ إلى الله.

تعال إلى ربك التواب الذي يريد لك الخير: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 27].

تعال إلى باب التوبة لكي تفوز بمحبة الله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة: 222].

فقاسوا الأرض فوجدوه أقربُ للقرية الصالحة بشبر واحد، فأخذته ملائكة الرحمة لتنقله إلى رحمة أرحم الراحمين.

فما أعجبها من قصة، قصةٌ تضعُ ظلالها علينا لنشعر بسعةِ رحمة الله وعظيمِ عفوه.

فما أكرمك يا رب على عبادك، تتوب عليهم مهما فعلوا من المعاصي والذنوب إذا رجعوا إليك وأخلصوا التوبة.

الخطبة الثانية:

رمضان فرصةٌ ومناسبة للتوبة والإنابة إلى الله والإقلاع عن الذنوب وهجر المعاصي، وتطهير النفس من الخطايا والآثام؛ ففي رمضان فرصُ الطاعة متوفرة، والقلوب على ربها مقبلة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلَّقة، ودواعي الشر مُضيَّقة، والشياطين مُصفدة، والنفس منكسرة، والله -تعالى- ينادي عباده الشاردين في تيه الضلال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، (قُلْ يَا عِبَادِيَ) [الزمر: 53]، المنادي هو رب العزة والجلال القوي الغني. والمنادى عليهم عباده الذين أسرفوا على أنفسهم الضعفاء الفقراء.

(يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر: 53]، يا عبادي الذين زلت أقدامهم، يا عبادي الذين استهوتهم أنفسهم وزين لهم الشيطان وأغواهم ووقعوا في حبائله: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر: 53].

فما أكرمك وما أعظم حلمَك يا رب: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر: 53]، ما أوسع رحمتك وتفضلك على عبادك. لا تردّ سائلا رجاك، ولا تائبا أتاك، ولا مستغفرا استغفرك، تقبل التوبة عن عبادك وتعفو عن السيئات وأنت غافر الذنب وقابل التوب.

خيرك إلى العباد نازل، وشرّهم إليك صاعد، إن أحسنوا أحسنت إليهم، وان أساؤوا أمهلتهم، تتودد إلى عبادك بالنعم وأنت الغني عنهم، ويتبغّضون إليك بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إليك.

أهل طاعتك أهل محبتك، وأهل معصيتك لا تقنطهم من رحمتك، وقد قلت وقولك الحق: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر: 53].

فأين الصادقون الراغبون في رحمة الله! ألا هلمّوا سارعوا أقبلوا على رب كثير الغُفران، رب لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا عبدٌ ضعيف أن يرحمه، ولا طلبٌ أن يلبيه، ولا حاجةٌ أن يقضيها، ولا دعوةٌ أن يستجيب لها، هو سبحانه قاضي الحاجات، ومفرجُ الكربات، ومجيبُ الدعوات، ومقيلُ العثرات، ورافعُ الدرجات، ومنزلُ الرحمات، سامعا لكل شكوى، مجيبا لكل دعوى، هو سبحانه أرحم بعباده من الأم الرؤوم الحنون على طفلها الرضيع: (فلاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ).

ربُّك -أيها العبد- لا يبالي بعظمِ ذنبك ما دمت أنك رجعت إليه تائبًا ومنيبا، أما سمعت ما قاله في الحديث القدسي: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بِقُراب الأرض (بما يقارب مِلأها) خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".

فعُد إلى الله -أيها العبد-، تصالح مع الله في شهر أحبه الله وعظمه، ذَكِّر نفسك بأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي