الإِخلاص لله أساس الدين وروح التوحيد والعبادة، وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله، فيقوم بأصول الإِيمان الستة وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإيمان التي هي الإحسان، وبحقوق الله وحقوق عباده، مكملاً لها، قاصدًا بها وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رياسة ولا دنيا، وبذلك يتم إيمانه وتوحيده
الحمد لله عالم السر والنجوى، أحمد ربي وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، سبحانك ربنا وبحمدك جل شأنك وعز سلطانك، سبحانك لا يُخلف وعدك ولا يُهزم جندك، وأنت العلي الأعلى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، الحبيب المصطفى والرسول المجتبى والنبي المرتضي، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الأوفياء والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، ما صبح بدا وليل سجى، وسلم تسليم كثيرًا وكفى.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-؛ (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]
أيها الناس: الإِسلام عقيدة وشريعة، إيمان بالله وتوحيد له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ إيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، عبودية تامة، وخضوع مطلق، رضا بدين الله، وتصديق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير شك ولا ريب ولا حرج.
التزامُه في المنهج والعمل، في التعامل والقضاء، في الحكم والإِدارة، في الأفراد والجماعات.
إن الإسلام حياة تعبدية، تجعل المسلم موصول القلب بربه، يبتغي رضوانه في شئونه كلها.
عباد الله: الإِخلاص لله أساس الدين وروح التوحيد والعبادة، وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله، فيقوم بأصول الإِيمان الستة وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإيمان التي هي الإحسان، وبحقوق الله وحقوق عباده، مكملاً لها، قاصدًا بها وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رياسة ولا دنيا، وبذلك يتم إيمانه وتوحيده.
ومن أعظم ما ينافي هذا: أن يعمل العمل الصالح لأجل مدح الناس وتعظيمهم، أو العمل لأجل الدنيا فهذا يقدح في الإِخلاص والتوحيد. قال -سبحانه وتعالى- في محكم كتابه في سورة هود: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) [هود: 15]
بين -سبحانه- أن من عمل عملاً صالحًا لأجل الدنيا؛ فإن ذلك شرك أصغر ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء: فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه.
وهناك فرق بين الرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا:
فيجتمع المرائي ومن أراد بعمله الدنيا في أن كلاً منهما لم يقصد بعمله وجه الله والدار الآخرة، وكلاهما وقع في الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد الواجب.
ويفترقان في: أن المرائي يريد بعمله الصالح مدح الناس وثناءهم، وقد يعرض له في عمل دون عمل.
والذي يعمل لأجل الدنيا يريد بعمله الصالح نفعًا في الدنيا كالمال والجاه، وقد تغلب إرادته على كثير من عمله.
قال الضحاك: "من عمل صالحًا من أهل الإِيمان من غير تقوى؛ عجل له ثواب عمله في الدنيا".
وقال قتادة: "يقول -تعالى-: من كانت الدنيا همه وطلبه ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة".
وثبت من حديث أبي هريرة: "إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيم علمت؟ قال كنت أقوم آناء الليل، وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله له: بل أرادت أن يقال فلان قاريء فقد قيل ذلك، وذكر صاحب المال وأن الله يقول له: بل أردت أن يقال فلان جواد" وذكر المجاهد وأن الله يقول له: "بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم قال يا أبا هريرة: أولئك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة وهؤلاء لهم أعمال, لكن لم يريدوا بها وجه الله, ولما سُئل عنه كاد يغشى عليه خوفا؛ وكذا معاوية لما سمعه، وقال صدق الله: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)" الآية.
وسُئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عن هذه الآية فقال: "ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه، فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صلاة وصدقة وصلة وإحسان وترك ظلم ونحو ذلك، مما يفعله الإِنسان أو يتركه خالصًا لله، لكن لا يريد به ثواب الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ مـاله وتـنميته أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همَّ له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا قد يُعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس".
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو: أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذُكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدارسة أهله أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرًا.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى وكثير من هذه الأمة، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإِسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس وغيره، وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: "لو أعلم أن الله يقبل مني سجدة لتمنيت الموت؛ لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)"
[المائدة: 27]
أيها المسلمون: في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أُعطي رضي وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
دعا -صلى الله عليه وسلم- على عابد الدنيا بالهلاك والشقاء، فقال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة؛ تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، ثم لمزيد التحذير دعا عليه مرة ثانية يتعسر عليه كل أمر يقصده، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، فقال: "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
وسُمِّي عبدًا للدينار وغيره: لشدة حرصه على جمع المال، ولكونه يعمل العمل الصالح لأجل الدينار والدرهم، لا يرضى ولا يسخط إلا لأجلهما فصار رضاه وسخطه لغير الله، ومن كان هذه حاله؛ فقد وقع في الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد الواجب.
وهكذا حال من كان متعلقًا من الدنيا برياسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده.
وهكذا حال من طلب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: ما يحتاج إليه العبد كطعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا.
وما لا يحتاج إليه العبد، فينبغي ألا يعلق قلبه به، فإذا تعلق قلبه به صار مستعبدًا ومعتمدًا على غير الله، فلا يبقي معه حقيقة العبودية، ولا حقيقة التوكل على الله؛ بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله.
عباد الله: في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله؛ أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَّفع".
بين -صلى الله عليه وسلم- أن الجنة أو شجرة فيها جزاءً لمن أراد بعمله الصالح وجه الله، وسعى في مرضاته، وهو في أشد الأحوال، وقد أثنى على المجاهد المخلص بخمس صفات:
أنه: "آخذ بعنان فرسه في سبيل الله" ملازم فرسه في جهاد الكفار والمشركين.
وأنه: "أشعث رأسه ثائر الشعر"، قد أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم وتسريح الشعر.
وذكر -صلى الله عليه وسلم- من صفاته: "أنه مغبرة قدماه" من شدة السعي في الجهاد.
ومن صفاته: "إن كان في الحراسة؛ كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة"؛ أي: إن كان في حماية الجيش أو آخره فهو قائم بعمله، متقن له، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، رغبة في ثواب الله -سبحانه-؟
قال ابن الجوزي: "المعنى أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأين اتفق له السير سار، وإنما ذكر الحراسة والساقة، لأنهما أشد مشقة".
ثم ذكر الصفة الخامسة لهذا المجاهد: "إنه إذا استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لا يُشفَّع"؛ إن استأذن على السلطان لم يؤذن له، وإن شفع في أمر يحبه الله لم تقبل شفاعته: لأنه لا جاه له، ولا منزلة، ولأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله، لا يقصد بعمله سواه.
وهذه الأمور لا تكون لهوان المؤمن على الله، بل لكرامته؛ إذ أن دنو مرتبة الإِنسان عند الناس؛ لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله -عزَّ وجلَّ-، وقد أفاد الحديث أن المخلص الذي يريد بعمله وجه الله، لا يهمه أي موقع عمل لله فيه، فإذا جُعل مسئولاً أو قائدًا فإنه يقوم بالمهمة خير قيام، وإن كـان في عمل دون ذلك قبل راضيًا، باذلاً جهده متقنًا عمله، فهو المخلص يقدم الخير لأمته في أي موقع كان؛ فعلى العبد أن يبتغي بأعماله الصالحة الثواب والجزاء من الله رب العالمين، وأن يحذر من إرادة الدنيا وزينتها بعمله الصالح؛ لئلا يكون ممن قال الله فيهم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان: 22]
فأعمال الكفار من يهود ونصارى وغيرهم لا تُقبل إذا عملوا أعمالاً خيرية كمساعدة الفقراء وعلاج المرضى؛ لكفرهم بالله العظيم؛ ولكن من تمام عدل الله -سبحانه- ما ورد في صحيح مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طعمة في الدنيا".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) [هود: 15]
بارك الله لي ولكم.
الحمد لله، معز الحق وناصره، ومذل الباطل وقاصره، حمدًا يستنزل الرحمة ويستكشف الغمة، ويلين صعاب الخطوب إذا جنحت ويدفع النكبات إذا طرقت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أقرب مسئول وأعظم مأمول.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أتم البرية خيرًا وفضلاً وأطيبهم فرعًا وأصلاً، وأعلاهم منزلة وذكرى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين أعلى الله بهم كلمته، وعلى من أقام على سنتهم وسار على سبيلهم، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: إن العبد إذا أراد بعمله الصالح الدنيا فقط؛ فعمله باطل، وإن كانت إرادة العبد الدنيا والآخرة؛ فعمله ناقص لفقده كمال الإِخلاص، والمؤمن يريد بعمله الصالح وجه الله والدار الآخرة؛ فإن طلب العلم، فلرفع الجهل عن نفسه وعن الآخرين.
وإن حج بيت الله الحرام نيابة عن ميت أو كبير عاجز فلنفع أخيه المسلم وزيارة المشاعر والوقوف مع الحجيج؛ وإن تصدق بماله على الفقراء فلمواساتهم وتفريج كروبهم، وإن جاهد ففي سبيل رفع راية الإِسلام، والله -سبحانه- كريم يجازي المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يحفظه في نفسه وأهله وماله ويحييه حياة طيبة هنيئة، وفي الآخرة يجازيه الجزاء الحسن.
ويجوز للمسلم أن يأخذ الأجرة التي تدفعها الدولة إذا عمل عملاً صالحًا مبتغيًا بذلك وجه الله كمن يتولى القضاء، أو إمامة المسلمين في الصلاة، أوتعليم القرآن؛ فهذا لا يضر أخذه في إيمانه وتوحيده إن قصد أن يكون ما حصل له معينًا على قيام الدنيا، وأتته الدنيا تبعًا له، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" رواه البخاري.
وهذا، وصلوا وسلموا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي