ها هو شهر رمضان يقبل يانعا في مولده؛ فلنحسن استقباله، ولنحسن صحبته. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185].
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يا من إليه جـميع الخـلق يـبتهلُ *** وكل حيٍ على رحـماه يـتكلُ
يا من نأى فرأى ما في القلوب وما *** تحت الثرى وحجاب الليل منسدل
يا من دنا فنأى عن أن يـحيط به الـ *** أفكار طـراً أو الأوهام والعلل
أنت الـمنادى به في كل حـادثةٍ *** وأنت ملـجأ من ضاقت به الحيل
أنت الغياث لـمن سُدَّتْ مذاهبه *** أنت الدليل لـمن ضلت به السبل
إنَّـا قـصدناك والآمـال واقعـة *** عـلـيك والكل ملهوفٌ ومبتهل
كلنا ملهوف إلى رحمة الله -تعالى- في كل حين، وفي رمضان تتأكد اللهفة، كلنا راج عفوه كل يوم، وفي رمضان يزهر الرجاء، كلنا مبتهل إلى الله أن يعتقه من النار، وفي رمضان تعتق الرقاب.
معاشر المسلمين: ها هو شهر رمضان، شهر الخير، شهر البركات، قد جاء زمانه، وحل أوانه، فما نحن قائلون؟ وما نحن فاعلون؟ فغدا -إن شاء الله- نبدأ مسيرتنا معه، مع أيام من الصبر الجميل، وليال من أعظم الليالي، وأكثرها بركة في ليالي العام كله.
ها هو شهر رمضان يقبل يانعا في مولده؛ فلنحسن استقباله، ولنحسن صحبته. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185].
أيها الإخوة: إن المسلمين في استقبالهم لرمضان ليسوا سواء، فمنهم الرافع رأسه والفاتح يديه، ومنهم المنكس رأسه والنافض يديه، ومنهم المتصيد فيه بما لا يليق في غير رمضان؛ فكيف برمضان؟.
ولا بد من وقفة مع كل ذلك: أما من يرفع رأسه به، ويستقبله بشوق لنفحاته، ورجاء لمكاسبه، وذلك الذي عزم أمره على استثمار كل ساعة من ساعات رمضان في طاعة أو ما يعين على طاعة.
هو ذلك الذي يرجو أن يكون له في شهر القرآن رجوع إلى القرآن، وصحبة حميمة لكتاب الله -تعالى- بعد انقطاع منه وطول هجر. يتذكر في ذلك حديث ابن عباس في البخاري ومسلم حين قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن"، "كان -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة".
هو ذلك الذي يتحرى فيه أعظم ليلة من ليالي العام كله، الليلة التي أنزل فيها القرآن، والتي هي خير من ألف شهر، إنها ليلة القدر.
يتحرى ما فيها من خير ومغفرة ورزق وبركة، وهو يسمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح وهو يقول: "فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم".
هو ذلك الذي يدرك أن رمضان فرصة لا تعوض لتكفير ما تقدم من ذنوب، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري. فكيف له أن يفوت مثل هذه الفرصة العظيمة؟ دع عنك أنّ من ضيعها، أي تلك الفرصة، فقد تعرض لدعاء جبريل -عليه السلام-، وتأمين النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، فقد جاء في صحيح الترغيب من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن جبريل أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفَر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين! فقلتُ: آمين".
معاشر الإخوة: ماذا عن الاستقبال الثاني، ذلك المنكس رأسه والنافض يديه؟ هذا النوع من الاستقبال -ولله الحمد- قليل، أولئك الذين يتبرمون من حلول الشهر لأنه يحد من شهواتهم، فمنهم من يبقى في بلده، فإما أن يصوم كارها متبرما، وإما أن يخرق الصوم في الخفاء! ومن كان قادرا فتراه يسافر الشهر كله إلى بلاد غير إسلامية، لا بقصد ابتغاء مناخ أقل حرارة، لا، فهؤلاء معروفون...، وإنما بقصد الهروب من تكاليف الشهر وطبيعته دينية! أسأل الله -تعالى- الهداية للجميع.
الاستقبال الثالث هو المتصيد في رمضان بما لا يليق، يتصيد في رمضان ما لا يليق، ما لا يليق في غيره، فكيف في رمضان؟ لا من الجانب الديني، ولا من الجانب الأخلاقي، فبالرغم من ذم القرآن استقبال القرشيين لمواسم العبادة قبل الإسلام واحتفاءهم بها بما لا يليق حين بدلوا وحرفوا الغاية والكيف، كما في قوله -سبحانه-: (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً) [الأنفال:35]، أي: إلا تصفيقا وتصفيرا، بالرغم من كونه احتفاء لا يليق بمكانة الصلاة، ولا مكانة بيت الله الحرام؛ فإن بعض الجاهلين من أبناء هذه الأمة في زماننا هذا يقومون بأسوأ من ذلك، هم لا يستقبلون رمضان استقبالا جاهليا بالتصوير والتصفيق والتصفير فحسب، بل أدهى وأمر مما فعلته قريش.
إنهم يتفننون في إفساد مواسم العبادة العظيمة وشعائر الدين الجليلة، إنهم يستقبلون الشهر بالإعداد لإفساد الغاية منه، إنهم يقتلون روحانية الشهر بالأفلام الكاشفة للعورات، وبالمسلسلات الخاطئة، والبرامج الهابطة، ومسابقات الميسر، والفكاهات غير البريئة، والمسليات المختلطة الفاسدة، وكل هذه المنغصات يجري إعدادها خصيصا لشهر الطاعة والعبادة، لا بل كلها تقدم بمناسبة رمضان وباسم رمضان! وهم ينفقون في ذلك الأموال والجهود الكبيرة. ألا يخشون أن ينطبق عليهم قوله -تعالى-: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) [الأنفال:36].
ثم هم بعد ذلك يجنون الأرباح على حساب المخدوعين المفرطين، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد جاء في مجمع الزوائد بإسناد جيد قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت. النار أولى به".
وفي كل عام يحتدم السباق والتنافس بين أكثر الفضائيات لاصطياد أكبر عدد من المسلمين وملء سجلاتهم بما يحرم رؤيته وسماعه، ليضيع ما جمعوه من أجر وما جنوه من حسنات، وليختطفوا ليالي الشهر النقية الصافية فيعكروها بما يغضب الله -تبارك وتعالى-.
هذه هي أنواع الاستقبال بين المسلمين اليوم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فغدا إن شاء الله -تعالى- نصوم أول يوم من أيام الشهر، فنسأل الله -تعالى- أن يبلغنا صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا.
إنه شهر عظيم الشأن، يأتي بعد فترة من شهور فتن ومتغيرات قست منها قلوب الكثيرين، فلنجعل استقبالنا لشهر رمضان شهر الله العظيم استقبالا إيمانيا صادقا، يلين القلب، ويشفي الصدر، ويعيد للإيمان رونقه في كياننا؛ لا استقبالا مشوبا بما يخالف طبيعة الشهر الإيمانية من رزايا الإثم والشبهات، ولنبتعد عن المنغصات في القنوات وفي الإنترنت، ولنصدق العزم على اغتنام كل ما يمكننا اغتنامه من أيامه ولياليه فيما يرضاه ربنا -تبارك وتعالى-.
فلئن أدركنا رمضان هذه المرة فقد لا ندركه أخرى! والأعمار بيد الحكيم الخبير.
أسأل الله أن يطيل أعمارنا على حسن عمل... اللهم أعنا على طاعتك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي