في وداع رمضان

الرهواني محمد
عناصر الخطبة
  1. سرعة مرور الأوقات .
  2. حزن المؤمنين على فراق رمضان .
  3. فوز وفلاح المستغلين لرمضان في طاعة الله .
  4. وجوب الاستقامة على طاعة الله بعد رمضان .
  5. بعض الأعمال المشروعة في نهاية رمضان .

اقتباس

هذا رمضانُ دنا وأُعلن رحيلُه، فما أسعد نفوس الفائزين! وما ألذ عيش المقبولين! هذا رمضانُ دنا رحيلُه! فهنيئا لمن أحسن استقباله! هنيئا لمن قام ليله وصام نهاره! هنيئا لمن أقبل فيه على الله بقلبه وجوارحه! هنيئا لمن تقرب إلى الله فيه بأعمال صالحة! وكف النفس عن سيئات قبيحة! هنيئا لمن...

الخطبة الأولى:

معاشر الصائمين والصائمات: كنا بالأمس القريب نهنئ بعضنا، ونبارك لبعضنا دخول هذا الشهر العظيم، وها نحن اليوم على مشارف وداعه، وهذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا الشهر المبارك لهذا العام، فسبحان مُصرفِ الشهور والأعوام، سبحان مدبر الليالي والأيام، سبحان الذي كتب الفناء والموت على كل شيء وهو الحي القيوم الدائم الذي لا يموت، القائل سبحانه: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26 - 27].

فوالله إن قلوب الصالحين إلى هذا الشهر تحن، ومن ألم فراقه تئن، وكيف لا وقد نزلت فيه رحمة رب العالمين؟ كيف لا تتألم قلوب المحبين على فراقه وهم لا يعلمون هل يعيشون حتى يحضرونه مرة أخرى أم لا؟!

نعم -معاشر العباد- إن القلوب لتحزن عند فراق هذا الشهر الكريم، شهرِ الصيام والقيام، شهرِ المحبة والألفة، شهرِ الرحمة والغفران، شهرِ البركة وانشراح الصدور، شهرِ رفع أكف الضراعة إلى الله، شهر العبرات والبكاء من خشية الله، فكم من مُعرض عن الله، عاد في هذا الشهر، وكم من إنسان مستوجبٍ دخول النار أعتقه الله من دركاتها.

فنسأل الله أن يجعلنا جميعا من العتقاء من النار.

فهذا رمضانُ دنا وأُعلن رحيلُه، فما أسعد نفوس الفائزين! وما ألذ عيش المقبولين!

هذا رمضانُ دنا رحيلُه، فهنيئا لمن أحسن استقباله، هنيئا لمن قام ليله وصام نهاره، هنيئا لمن أقبل فيه على الله بقلبه وجوارحه، هنيئا لمن تقرب إلى الله فيه بأعمال صالحة، وكف النفس عن سيئات قبيحة، هنيئا لمن زَكت في هذا الشهر نفسُه، ورقَّ فيه قلبُه، وتهذَّبت فيه أخلاقُه، وعظُمَت فيه للخير رغبتُه، هنيئا لمن كان رمضانُ عنوانَ توبتِه، وساعةَ عودتِه واستقامتِه، هنيئًا لمن عفا عنه العفوُّ الكريم، وصفَحَ عنه الغفورُ الرحيم، هنيئًا لمن أُعتِقت رقبتُه وفُكَّ أَسرُه، وفاز بالجنة وزُحزِح عن النار -جعلنا الله جميعا منهم-.

رمضان هذه السنة قد تهيأ للرحيل فلم يبق منه إلا القليل، ولا بد من هذا السؤال: ماذا يجب علينا بعد رمضان؟

النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قد أجاب كلَّ سائلٍ طالبٍ للعلاج الناجع والدواء النافع، فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم" كلمتان اثنتان: إيمان بالله -جل وعلا-، واستقامة على هذا الخط الواضح البين، وهذا هو طريق النجاة، هذا هو طريق الفوز في الدنيا والآخرة.

النبي -صلى الله عليه وسلم- يضع منهاجا متكاملا واضحا قاعدته العظمى التي يرتكز عليها: الإيمان بالله: "قل آمنت بالله"، الاعتقاد الجازم بأن الله -سبحانه- وحده يستحق أن يُفرد بالعبادة: من صلاة وصيام...

العنصر الأساسي الذي يغير من سلوك الشخص وأهدافه وتطلعاته هو الإيمان بالله، وهو الباعث للهمة والمُقوي للإدراك.

فبالإيمان يحيا الإنسان ويولَدُ وِلادة جديدة، ويقذف الله في روحه من أنوار هدايته: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122]، فبعد أن كان خاوي الروح، ميت القلب، إذا بنور الإيمان يملأ جنبات روحه فيُشرق القلب إشراقاً وتعلو الروح علوًّا.

الإنسان كلما ذاق حلاوة الإيمان، وتمكنت جذوره في قلبه، استطاع أن يَثبت على الطريق المستقيم، ويواصل المسير حتى يلقى ربَّه وهو راض عنه، لذلك النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قل آمنت بالله ثم استقم".

الاستقامة أن تستقيم على الطاعة أن تستقيم في العبادة أن تستقيم في المعاملة، في الأخلاق في السلوك، أن تستقيم قلبا وقالبا، قولا وعملا، وأن تستقيم منهجا وطريقة وغاية على شرع الله جملة وتفصيلا: "قل آمنت بالله ثم استقم".

استقم في بيتك، استقم في عملك، في سفرك، استقم في يسرك وعسرك، في صحتك ومرضك، في حِلِّك وترحالك، في قوَّتك وضعفك، في غناك وفقرك.

استقم ليس في المسجد فقط، وليس اليوم وليس في رمضان فقط، وإنَّما في كلِّ مكانٍ تطأه بقدمك، وفي كل زمان تحياه فيه بروحك.

استقم على أمرِ الله وعلى طاعة الله في رمضان وفي سائر شهور العام، بل كما قال ربك: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].

رب العزة -جل جلاله- خلقنا للعبادة الدائمة المستمرة لا للعبادة الموسمية المتقطعة.

فإذا كنا معاش الصائمين والصائمات سنودع رمضان، فعلينا أن لا نودع العبادة، ولا نودع الطاعة، أن لا نودع المساجد - الصلاة - القرآن...

علينا ألا نودع الطريق المستقيم الذي ارتضاه رب العالمين لعباده المؤمنين.

نعم ننادي أهالينا وأحبابنا وإخواننا وأخواتنا بكل محبة ونقول لهم: من كان يعبد رمضان، فإن رمضان هذه العام أوشك على الرحيل، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

الخطبة الثانية:

ونحن نودع شهر رمضان هناك بعض الأمور ينبغي التذكير بها في آخر هذا الشهر.

أول هذه الأمور: نحمد الله أن وفقنا لطاعته والقيام بين يديه، فما عملنا من عمل إلا بتوفيق الله، فلولا اللهُ ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]، فما هو إلا توفيق الله لنا، والمنة في كل ما قدمنا لله لا لنا: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات: 17].

ومن الأمور كذلك: أن الله شرع الاستغفار في ختام الأعمال الصالحة، تُختم به الصلاة والحج وقيام الليل، بل وتختم به المجالس، فينبغي أن نختم به شهر الصيام، تجديدا للتوبة، وإقرارا بالضعف والحاجة إلى الله -سبحانه وتعالى-، فالاستغفار يعين النفس على التخلص من الكِبرِ ويردَعُها عن العُجْب، ويُورثُها الشعورَ بالتقصير، مما يدفع العبدَ لمزيد العمل.

ومما شرعه الله في ختام هذا الشهر من العبادات التي يتقرب بها العباد لربهم: زكاة الفطر، وهي فريضة فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن ابن عباس قال: "فرض رسول الله زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات"، وفي هذا الحديث حكمتان عظيمتان:

الأولى: تتعلق بالفرد وهو الصائم، فتطهره من اللغو والرفث، وما حصل منه من خلل وتقصير أثناءَ صيامه.

الثَّانية: تتعلق بالمجتمع، وهي إطعام للمساكين، ولا شك أن في هذا تعاطفا ومحبة بين المسلمين.

فمن معاني صدقة الفطر: أنها تزرع المودة والرحمة في قلوب المسلمين وتربيهم على حب الخير للآخرين، والإحساس بإخوانهم من الفقراء والمساكين، فيتألمون لحالهم، ويقدموا لهم ما يستحقونه ويحتاجونه، ويسد حاجاتهم ويغنيهم عن السؤال يوم الفطر والفرح.

وفي هذا تدريبا للنفس وتربيةً لها على البذل والعطاء، والإحساس بهموم الآخرين، والعطف عليهم.

ومن الأمور التي يجب التذكير بها وهي من الفرص التي يجب علينا أن نغتنمها وأن نستثمرها في أعمال الخير: بر الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الجار، بمبادلة الزيارة والتهنئة، وغيرها من مظاهر الفرحة، وكذلك إصلاح ذات البين، وإزالة ما في قلوب المتخاصمين والمتنازعين من حواجز البغضاء والحسد والفتن، فكلمة تهنئةٍ واحدة في العيد قد تُزيل تلك الحواجز، وتداوي الكثير من الجراح بين المتدابرين والمتخاصمين من الإخوان والأصحاب والأزواج والعائلات والأسر.

ومن الأمور كذلك ونحن نشتري لأولادنا ملابس العيد، وحُلويات العيد، لنتذكر ذلك الطفل اليتيم الذي ما وجد والداً يشتري له ملابس العيد، ما وجد والداً يُقبله ويمسح على رأسه ويبارك له بالعيد.

لنتذكر تلك الطفلة الصغيرة حينما ترى أمثالها يرتدين اللباس الجديدة، وتريد هي كذلك أن تفرح بالعيد كغيرها، تريد أن ترتدي ثوبا جديدا لائقا بيوم العيد؛ فلنتذكر ذلك، ولنتذكر قول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن".

ونحن نستقبل العيد علينا أن لا ننسى المرضى لنشركَهم في عيدنا، ولنجعلَ لهم حظا من زياراتنا، ففرحة العيد ليست مقتصَرةً ولا موقوفةً على الأصحاء، بل للمرضى فيها نصيب، علينا أن نزورَهم، ونتصلَ بهم، ونهنئَهم بالعيد، ونوصيَهم بالاحتساب والصبر، فهم بحاجة ماسة إلى ذلك، ولنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاهم به.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي